علي نعمان المقطري / لا ميديا -

حملت الحرب الوطنية التحررية رغم أهوالها وآلامها وتحدياتها إمكانيات تحويلها إلى فرصة استراتيجية للنهوض والتحرر والاستقلال واسترجاع السيادة الوطنية واستعادة الحقوق المنهوبة ماديا ومعنويا، وقبل كل شيء الكرامة الوطنية والعزة الأخلاقية المجروحة.

ومنذ البداية اكتشف اليمنيون فيها آفاقا ووعودا كبيرة وكثيرة، وهو قول لا يجافي الحقيقة، ذلك أن القيادة كانت تدرك بعمق من البداية حقيقة العلاقة مع المعتدي المهيمن الشوفيني الاستعماري بطبيعته، وهي علاقة لا يمكن معها الحلول الوسط كما اقترح بعض السياسيين المخترقين من قادة أحزاب السلطة القديمة وهامشييها ومعارضيها أصحاب نظرية أن "السياسة هي فن تحقيق ما هو ممكن، فن التنازلات المتبادلة، فن الصفقات، فن المفاوضات، فن الإقناع والكلام والشطارة والإيهام والكذب والوعود، فن القبول بأنصاف الحقوق واعتبارها إنجازا"، وهي المفاهيم التي سيطرت على قطاع واسع من المستنيرين الليبراليين الذين درسوا في أكاديميات الأجنبي الغربي وتطبعوا بطبائعه وعاداته في التفكير والتقدير والتحليل والتبرير، وآمنوا أن الحقيقة كلها تختفي خلف سياجاته وثقافاته، وأن ثقافة الشرق وعقائده الأخلاقية وقيمه ما هي إلا خِرق بالية من الماضي لم تعد تجدي نفعا ولا تخدم حركة تقدم الإنسان وحريته، وينبغي التخلي عنها جملة وتفصيلا كشرط للتقدم والحرية.
وكانت النقطة المركزية للصراع حولها داخل اليسار بين أجنحته، هي الموقف من الأرض اليمنية المسلوبة والعلاقات مع الرجعية الخليجية والغربية والإمبريالية، وقد مضى هذا التيار الانتهازي في مساره الخياني إلى حد تربية الناس والقواعد على أساس خدمة القوى الأجنبية ومشاريعها وأطماعها، والتنكيل بالنزعات الوطنية المتأججة وقواها ورموزها التي غرسها اليسار الثوري الوطني القومي المؤسس الأصيل، وحمل رايتها الكفاحية رجال وزعماء أمثال الشهداء فتاح وسالمين وعنتر وعلي شايع وجار الله عمر والزومحي ومحمد علي الشهاري وعلي عبدالمغني وعبدالرقيب عبدالوهاب وسلطان القرشي وعمر الجاوي وعبدالله باذيب وصالح عباد مقبل وعبدالرحمن غالب ومصطفى عبدالخالق وسيف صائل خالد وأحمد الحربي وعبدالرقيب الحربي ومالك الإرياني وعبدالله الكميم وعلي بشر وعبدالله بشر وأحمد فارع النجادة وعبدالله محمد ثابت وعلي سيف مقبل والجراش وعبده سلام الدبعي، والقائمة تطول من الزعماء اليساريين الوطنين الثوريين الأحرار الذين قارعوا الاستعمار والرجعية والإمبريالية والتبعية، وقادوا الشعب اليمني شمالا وجنوبا، وتركوا بعدهم حزباً عظيماً مناضلاً ملزما بمتابعة السير على طريقهم المقدس، طريق التقدم والتحرر الوطني والاستقلال والنهوض والتحرر الاجتماعي والاقتصادي.
وبدون تلك المتابعة الإلزامية أخلاقيا وفكريا وعقيديا فإن الحزب كله يتحول إلى مجرد فقاعة من المرتزقة المتحذلقين والمصفقين لكل دجال أو مشعوذ، أي باختصار إلى مجرد مجموعات انتهازية مهمتها اقتناص نتائج وحصيلة ما يتركه الثوار والأحرار الشهداء من مواقف وآثار وتهديدات وقوى منظمة والشروع في الاتجار بموروثهم المقدس، وهذا ما يفعله هؤلاء الوسطيون الانتهازيون ويجيدونه بعد مرحلة حاسمة من الكفاح القاسي الضاري. فأين سياسة هؤلاء الوسطيون المساومين العدوانيين الخونة من أولئك القادة قولا وفعلا وفكرا وسلوكا؟
الفارق هائل بين مفهومي السياستين، وهو كالفارق بين كاسترو وماو تسي تونغ وهو شي منه والخميني ونصر الله من جهة، وبين مترنيخ وتشرشل وبوش وريجان من جهة ثانية.
فالسياسة ليست مفهوماً ذا معنى واحد، بل هي مفهوم له معان متعددة تحدده طبيعة القوى التي تستخدمه وخلفياتها الفكرية والسياسية والاجتماعية والعقيدية والأخلاقية والتاريخية، وهذا ما تحاول الانتهازية أن تمنع معرفته من خلال حملات التضليل والقمع الذي تمارسه.

 السياسة وثقافة الخيانة
إن الثورة لها سياستها وساستها ورجالها ورموزها، كما أن للخيانة أيضاً سياسييها ورجالها ورموزها الخاصة. أما أن تلبس الخيانة ثوب الفضيلة فهذا هو الجديد في مسيرة "اليسار القومي والتقدمي التقليدي التابع والهجيني".
ما الذي جعل الثوار السابقين والأحرار القدامى يتحولون إلى كبار مقاولي الاستعمار والعدوان والرجعية؟! ما الذي حولهم من معادين مناضلين ضد الاستعمار والرجعية إلى توابع وأدوات بأيديهما؟!
أحياء أموات: أمامنا الآن مجموعة نماذج يقفون على رأس عصابات الرجعية والتبعية والعمالة أمثال ياسين سعود والمخلافيين والعتواني، كما يقفون على رأس أحزابهم المخصية بعد أن تمت تصفية العناصر الوطنية الشريفة تدريجيا بمختلف الوسائل والأشكال والطرق.
سيماهم في جيوبهم وجباههم: أهم ما يميز هؤلاء المخترقين هو أنهم جميعا يعملون لدى الأجنبي وفي أجهزة مخابراته منذ زمن طويل، فكشوفات اللجنة الخاصة السعودية توضح أن عددا كبيرا من القيادات اليسارية والقومية كانوا مخترقين، أي وكلاء للأجهزة المخابراتية السعودية والغربية ويتسلمون منها مرتبات منتظمة إما شهرية أو سنوية أو دورية منذ وقت مبكر.
مراحل تمكين الاستعمار والرجعية لعملائهما: عبر عمل طويل مستند إلى الأموال وبناء النفوذ السياسي والاجتماعي وتمكين العناصر الوكيلية من الصعود والسيطرة على المواقع السياسية والعليا في الأنظمة والدول والحكومات الوطنية المستهدفة، وهي سياسة تواصل الإمبريالية الأمريكية ـ الغربية تكرارها منذ قرون، فهي تدس رجالها وتدفع بهم صعودا.

نقاط الضعف أساس إدارة العملاء
في تاريخ الحركات الثورية الوطنية والاجتماعية عرفنا ظاهرة الاختراق لعناصر عميلة تتسرب إلى صفوفها بعد أن يتم تدريبها تدريبات خاصة، وبعد تجنيد العناصر الطموحة التي يتم انتقاؤها وفقا لقواعد تجنيد وسيطرة خاصة باتت الآن معروفة علميا، وأبرزها: أن العميل لا يمكن السيطرة عليه إلا إذا كان لديه نقاط ضعف خاصة تجعله مجبرا على مواصلة خدمة الأهداف وتنفيذ التعليمات بانضباطية شديدة دون معارضة مهما كانت آراؤه أو ضميره الذي قد يستيقظ ويسبب الضرر البالغ للأجهزة التي استثمرت فيه لسنوات، ولذلك يقول صلاح نصر، مدير المخابرات المصري في عهد عبدالناصر، في كتابه حول المخابرات والجواسيس: "إن العنصر الذي لا توجد له نقاط ضعف معينة لا يفيد في تجنيده كثيرا، بل قد يشكل خطرا مستقبليا"، ومن الأفضل تجنبه.
فإدارة العملاء تتطلب توفر قوة ضاغطة عليهم تسمى السيطرة، وكثير منهم يتم تجنيدهم إجباريا بعد ضبطهم في أوضاع فضائحية وإجرامية، وكانت المخابرات تصور العديد من الشخصيات الهامة في المجتمع في أوضاع مخجلة وتضغط عليهم لخدمة المخابرات، وهي قواعد وتعاليم تم نقلها عن الجهاز الأم في العالم، أي الأمريكي.
ومعنى هذا أن أهم ميزة لتجنيد العملاء هي نقاط ضعف أخلاقية كانحراف أخلاقي جنسي أو جرائم ارتكبها العميل وتم التستر عليه أو ممارسات شاذة كالزنا واللواط والاختلاسات والسرقات والقتل وغيرها من الممارسات الإجرامية، بينما قبولهم الرشوة لبيع وطنهم لا تكفي لتجنيدهم، بل لا بد من تصويرهم في أوضاع شاذة للضغط عليهم، مع الاحتفاظ بتلك الصور في ملفاتهم لضمان إخلاصهم دوما وعدم التفكير بالتراجع عن خدمة مشغلهم، الذي قد يلجأ إلى التهديد بكشفها في حال التراجع أو التوقف والكف عن مواصلة الخدمة.

هناك العديد من المؤشرات التي تنطبق على عملاء يمنيين تم تجنيدهم من قبل السعودية والاستعمار البريطاني والأمريكي، وهم شخصيات من اليمين واليسار والقوميين في خدمة الرجعية والاستعمار، منهم: عبدالله الأصنج ومحمد باسندوة وياسين سعود وحيدر العطاس وعلي عفاش وعلي محسن وهادي والزنداني وحميد الأحمر واليدومي والآنسي وقحطان وغيرهم.
هؤلاء يجمع بينهم أنهم استعبدوا من الأجهزة المخابراتية الرجعية والاستعمارية بسبب استغلال نقاط ضعف كل منهم، وسنرى بينهم من ارتكب جرائم تعرفها الأجهزة ولديها وثائقها، ومنهم من هو منحرف في سلوكه الأخلاقي أو شاذ في طبيعته، وهو ما تستغله هذه الأجهزة في استعباده ضد وطنه، وقد لاحظ الرأي العام الوطني مظاهر كثيرة من تلك الانحرافات والإجرام، وانعكس منها في الصحافة الوطنية، وإذا راجعنا السير الشخصية والتاريخية لهؤلاء سنجد أن لكل منهم مصيبته التي يخفيها عن الناس والتي تستغلها الأجهزة الاستخباراتية الأجنبية لخدمة مصالحها.
فالخيانة الوطنية تسبقها عاهات شخصية وأخلاقية ونفسية خاصة تستغلها الأجهزة الاستخباراتية لإجبار الفرد منهم على الدخول في طريق العمالة ومواصلة السير فيه كأنه قدر ومصير لا يستطيع الفكاك منه إلا في النادر.
وبمفهوم هذا التيار التساومي المذهبي العلماني الذي عرفناه على رأس اليسار التقليدي، وأبرز متحذلقيه وممثليه هو ياسين سعود، وجماعته، وهو القائل: "لا يجوز الحديث عن الوطن وحقوقه بعد أن تنازل عنها الأولون السابقون، ولا يعنينا إلا ما هو موجود وباق، أما ما تم التنازل عنه فقد صار أمرا واقعا لا نملك قوة تغييره، والمهم هو الحفاظ على ما تبقى وحسب".
تلك هي الواقعية السياسية كما يفهمها هؤلاء، ولسان حالهم أنهم قادمون إلى مشروع ذاتي للاغتناء والفائدة من خلال وجود حلول توفيقية وسطية بين المتخاصمين في محكمة بيروقراطية يلجأ فيها القضاء إلى سحب القضايا من المحاكم إلى البيوت ليوفقوا بين الجاني والمجني عليه، بأن يقبلوا عروضا توفر لكل طرف جزءاً مما يريد، تحمي الجاني من العقوبة وتجبر المجني عليه على تقديم التنازلات والقبول بجزء من الحقوق بعد أن تكون المداولات البيروقراطية قد أحبطته وأرهقته واستنزفته الأغرام والمخاسير والمصروفات.
مهمتهم الأساسية هي توفير التراضي بين الأطراف لكي يحتاجهم الطرف الأقوى ويشغلهم في مشاريعه السياسية والاستراتيجية، لا يهم أنه سارق أو مجرم أو قرصان دولي مادام يسيطر على الموقف العام ويفرض قواعد اللعبة الدولية والإقليمية والمحلية، يفرض قاعدة الخضوع للأقوى، وهو ما ينصحنا به هؤلاء المغفلون أو المتحميرون.
يفهمون السياسة على أنها البحث عن مقعد وظيفي شاغر في بارجة دولة عظمى، وغاية أملهم أن تقبل توظيفهم في خدمة مشاريعها التي تشمل سرقة الوطن كما سرقت أوطان وبلاد وشعوب مستضعفة، وممثلو هذا التيار من اليسار واليمين يقولون بأن التبعية مفهوم قديم لم يعد صالحا في ظل السيطرة الغربية الأمريكية وأدواتها على المنطقة والعالم التي يجب قبولها كواقع موضوعي قائم لا يمكن تغييره وكسره وإزالته، بل يذهب بعضهم إلى الدعوة إلى حمل الزهور أمام المعتدي والدعوة إلى السلام ونبذ الحرب ونبذ حمل السلاح في مواجهة المعتدي والعودة إلى الآلية السياسية الخليجية التشاركية التي كانت قائمة فأسقطتها ثورة 21 أيلول، وهم بهذا يريدون القول إن الثورة انقلاب أطاح بالشرعية السياسية المتوافق عليها بين (اليمنيين) المعارضين والحاكمين، فشكلت إجماعا بنظرهم يمثل أغلبية ولو شكلية، المهم أنه لا يجوز المساس بها أبدا، والحقيقة هي أن الثورة الشعبية كانت ضد أسباب وعوامل الأزمات والمعضلات والمظالم الاجتماعية الاقتصادية السياسية التي ملأت الواقع اليمني خلال نصف قرن من الاستبداد والتبعية والفساد والاستغلال والهيمنة الأجنبية، كاسرة قيود الماضي وشرعياته الزائفة الساقطة.
جوهر هذه الأفكار والفلسفات تعكس نظرات القوى الطبقية المسيطرة السابقة الواقعة في هامش السلم السياسي الحاكم وحلفائها وأذنابها من المعارضة الحاكمة في الماضي أيضاً، أي من غير المعارضة الثورية الراديكالية، وهي قوى كانت تتشارك سلطة البلاد الموحدة ولو بنسب متفاوتة، هي قوى السلطة القديمة، والقسم الليبرالي فيها ينظر إلى الوعود بإشراكه ببعض المناصب الإدارية واحتكاره تمثيل مناطق وأقاليم بعينها كإنجاز وغاية تستحق الحفاظ عليها، ويرى أن الثورة الشعبية وإزاحة ممثلي النظام القديم الجديد كانت فعلا يخرب ما تم الاتفاق حوله مع أولي الشأن، ولذلك ساروا مع التيار الإمبريالي وتكيفوا مع تحركاته ومشاريعه ووضعوا أنفسهم في خدمته، بل سابقوا الرجعيين في مسح أحذية الإمبريالية والرجعية السعودية، ويتفوقون عليها في صناعة الحذلقة النفاقية وسبك العبارات التضليلية وتفخيمها وتصوير ابن سلمان كناصر جديد ورمز للتحضر والتقدم وصيانة الأمن القومي العربي، وغض الطرف عن حقيقة كونه كبير سماسرة الصهيونية والاستعمار وأعداء الأمن القومي العربي وكبير خدم الإمبريالية الأمريكية الصهيونية والرجعية والاستبداد والفساد والاستغلال.
هذا الوضوح والجلاء والخيانة الوقحة إنما يعكس طبيعة الانحلال الأخلاقي والروحي والفكري لقادة هذه السياسة الانتهازية وأتباعهم الذين هم مستعدون لمواصلة السير معهم إلى الجحيم، فقد رضعوا الخنوع والتبعية لكبرائهم كيفما كانوا وأصبحوا، ولقد صاروا كقبيلة تترابط بمصالح موهومة بعد أن انحلوا عن قبائلهم الحقيقية وعارضوها وتنكروا لها ولم يعودوا يتصورون إمكانية العيش السياسي خارج تلك العصبية المسيسة نتيجة لمفهومهم الضال عن العيش وعن السياسة والوطن والسيادة والاستقلال.

كيف يقبلون العودة على مركبات الأجنبي؟
جماعات اليمين مواقفها مفهومة وهي منسجمة مع أصولها التاريخية والاجتماعية ونشأتها وجذورها ومصالحها، أما جماعات اليسار والقوميين فهم يشبهون اليسار العراقي والإيراني واللبناني المزور، فقد عبدوا السلطة وأوهامها دون أي اعتبار آخر للوطن والوطنية والحرية والاستقلال والأمة والشعب، وهم مستعدون لخدمة كل من يقربهم من "دست" السلطة ولو احتوى على مجرد عظيمات فهي مقبولة، وهم مستعدون لمحاربة الحكم الوطني جنبا إلى جنب مع قطعان الاحتلال وجحافله.
فها هي شراذم اليسار الإيراني تلاحق موائد الأمريكي أينما حل، تخدمه وتموه مهماته لتقربه من احتلال البلاد واستعباد العباد الذين تدعي خدمتهم بقيادة السيدة أشرف التي كرست منظمتها الإرهابية لخدمة المخابرات الأمريكية، بعد أن عملت لفترة لصالح المخابرات الصدامية حتى انتهت، وكانت في الماضي امتدادا لمنظمة يسارية شهيرة قاومت الشاه، غير أنها سرعان ما انتقلت إلى أحضان الأمريكي ما إن انتصرت الثورة الشعبية بقيادة الإمام الخميني، لم يكن هذا التطرف بعيدا عن اختراق المنظمة وقيادتها وتوجيهها تلك الوجهة الرعناء التي لا تخدم إلا الإمبريالية والرجعية القديمة التي كانت تقاتل ضدها، بينما صارت اليوم حاضنتها الأساسية.