
محمد حسن سويدان موقع (The Cradle)
ترجمة خاصة:أقلام عبد الملك مانع / لا ميديا -
منذ ما يقارب العامين، تخوض «إسرائيل» ما يسميه نتنياهو «حرباً متعددة الجبهات». تشمل هذه الحرب، بالإضافة إلى غزة، لبنان وسورية والعراق واليمن والضفة الغربية المحتلة وإيران. في إحدى مقابلاته، أكد رئيس الوزراء «الإسرائيلي»، بنيامين نتنياهو، شعوره بأنه في «مهمة تاريخية وروحية»، وأنه «مرتبط ارتباطاً وثيقاً» برؤية «الأرض الموعودة» و«إسرائيل الكبرى». بهذه الكلمات، يؤكد نتنياهو أن ما يسميه «حرباً متعددة الجبهات» مدفوعة بدوافع دينية وسياسية.
يكمن الخطر في اعتقاد نتنياهو واليمين الصهيوني الديني المتطرف بأن العالم على شفا حرب كبرى «لينزل المسيح وينقذه». ولذلك، يشجعون على استمرار العنف في غزة، وتوسيع نطاقه ليشمل لبنان وإيران وغيرهما، معتبرين هذا العصر «عصر المسيح».
الجبهات السبع للحرب
في 9 تشرين الأول/ أكتوبر 2023، بعد يومين فقط من عملية طوفان الأقصى، وخلال اجتماع مع رؤساء بلديات البلدات الحدودية الجنوبية المتضررة من هجوم 7 تشرين الأول/ أكتوبر، صرح رئيس الوزراء «الإسرائيلي» أن رد «تل أبيب» على الهجوم متعدد الجبهات غير المسبوق الذي شنه المقاتلون الفلسطينيون من غزة «سيغير الشرق الأوسط». ومنذ تلك اللحظة، أصبح من الواضح أن الحرب لن تبقى محصورة في غزة، بل ستوسعها «إسرائيل» لتحقيق هدفها الرئيسي، وهو نظام إقليمي جديد يكون ميزان القوى فيه لصالح «تل أبيب».
وقد ادعى القادة «الإسرائيليون» مراراً وتكراراً أنهم يقاتلون في وقت واحد على سبع جبهات: غزة، لبنان، سورية، العراق، اليمن، الضفة الغربية المحتلة، وإيران؛ مصورين كل هذه الصراعات على أنها تستهدف «محوراً بقيادة إيران» يسعى على ما يبدو إلى «تدمير الدولة اليهودية».
لتحقيق هذا الهدف، تنتهج «إسرائيل» مسارين رئيسيين: إضعاف أعدائها، وفرض الامتثال بالقوة على بقية دول المنطقة، بما في ذلك حلفاء الولايات المتحدة. في المسار الأول، اعتمدت «إسرائيل» على الضربات العسكرية المباشرة، واصفةً إياها بـ«حروب متعددة الجبهات» تحت مبرر «دفاعي».
أما المسار الثاني، وهو فرض الامتثال بالقوة، فقد هاجمت «إسرائيل» مراراً وتكراراً سورية «الجديدة»، وهي دولة لم تعد معادية لـ«إسرائيل» أو الولايات المتحدة، واحتلت «إسرائيل» أجزاءً من أراضيها. مبادرات سورية الإيجابية المستمرة تجاه «تل أبيب» لم تردع «إسرائيل»، التي استمرت في ضرباتها واحتلالها المستمر.
في غضون ذلك، تندرج الضربة «الإسرائيلية» الأخيرة على قطر في 9 أيلول/ سبتمبر ضمن مسارين متوازيين من سياستها: الأول يستهدف مباشرةً القادة السياسيين لحماس، مشيراً إلى أنه لا يوجد ملاذ آمن لهم في أي مكان في العالم؛ والثاني ينقل رسالة واضحة إلى قطر وحلفاء الولايات المتحدة الآخرين في المنطقة، مفادها أن نهج «إسرائيل» لا يقوم على المصالح المشتركة، بل على الخوف من العواقب. التحالفات القائمة على المصالح المتبادلة شيء، والامتثال المفروض من خلال التخويف شيء آخر. في هذه المرحلة، هذه هي بالضبط الرسالة التي يسعى ترامب إلى إرسالها إلى دول المنطقة: «أطيعوني، وإلا فلن أستطيع ضمان بقاء إسرائيل بعيدة عنكم». في الأساس، هذا التحذير موجه إلى جميع دول المنطقة، دون استثناء.
يجب على الدول الإقليمية أن تفهم أن ما كان يحمي عواصمها من العدوان «الإسرائيلي» - الأمريكي هو وجود محور المقاومة، الذي حافظ على توازن الردع الإقليمي لسنوات. بمجرد إضعاف هذا المحور، تحررت «إسرائيل» من القيود وبدأت العمل بلا حدود. تجدر الإشارة إلى أن قطر مصنفة رسمياً «حليفاً رئيسياً من خارج الناتو» للولايات المتحدة، وهو وضع منحته إدارة بايدن منذ آذار/ مارس 2022. بالإضافة إلى ذلك، تستضيف قطر قاعدة العديّد الجوية، وهي أكثر بكثير من مجرد قاعدة عسكرية تقليدية، ولكنها بمثابة مقر القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) في المنطقة، ما يجعلها واحدة من أهم مراكز واشنطن الاستراتيجية في جميع أنحاء العالم. ولكن كل هذا لم يمنع «تل أبيب» من مهاجمتها.
ماذا حققت «إسرائيل»؟
يجب أن نبدأ بتعريف الإنجاز الاستراتيجي. في العلاقات الدولية، يُمكن تعريف الإنجاز الاستراتيجي بأنه تحقيق أهداف طويلة المدى تُعيد تشكيل توازن القوى، وتُعزز أمن الدولة، أو تُوسّع النفوذ في النظام الدولي. يختلف الإنجاز الاستراتيجي عن المكاسب التكتيكية أو العملياتية قصيرة المدى من حيث أنه «يُحدث تغييرات في الهياكل الأساسية للتفاعل بين الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية». هذا يعني أن الإنجاز الاستراتيجي يجب أن يُرسّخ ميزةً دائمةً في الساحة الجيوسياسية.
من هذا المنظور، فشلت «إسرائيل» حتى الآن في تحقيق أي إنجازات استراتيجية في غرب آسيا. بدلاً من ذلك، راكمت خلال العامين الماضيين سلسلةً من المكاسب التكتيكية التي تسعى إلى تحويلها إلى مزايا استراتيجية. في غزة، لا تزال «تل أبيب» عاجزةً عن القضاء على حماس. وفي لبنان، فشلت بالمثل في تفكيك حزب الله - رغم نجاحها في إضعاف حركتي المقاومة. في إيران، فشلت محاولاتها لتغيير النظام أو ثني طهران عن دعم حركات المقاومة. وفي اليمن، لم توقف أفعالها دعم صنعاء لغزة.
لذا، فإن جوهر المعركة الراهنة هو منع «تل أبيب» من تحويل مكاسبها التكتيكية إلى مكاسب استراتيجية راسخة. إذا فشلت «إسرائيل» في القضاء على المقاومة الفلسطينية، وعزل حزب الله في لبنان ونزع سلاحه، واستمرار دعم إيران لحركات المقاومة وخطاب مناهضة الهيمنة، وثبات جبهة الدعم اليمنية، فإن «إسرائيل» تكون قد استنفدت أقصى طاقاتها لفرض واقع إقليمي يمنحها تفوقاً مؤقتاً، يُحيّد المقاومة مؤقتاً، ولكنه يبقى هشاً وغير قابل للاستدامة على المديين المتوسط والبعيد.
تتوقف نتيجة هذا الصراع في نهاية المطاف على قدرة خصوم «تل أبيب» على تجاوز التحديات المتعددة التي أوجدتها حروبها في غرب آسيا. فإما أن تنجح قوى المقاومة في إفشال محاولات «تل أبيب» لتحويل المكاسب المؤقتة إلى إنجاز استراتيجي طويل الأمد، وإما أن تنجح «تل أبيب» وواشنطن في توظيف هذه المكاسب التكتيكية لفرض واقع استراتيجي جديد يخدم مصالحهما.
وهنا يبرز سؤال حاسم: ما الثمن الذي دفعته «إسرائيل» لتحقيق «إنجازاتها» الحالية؟
في مقال نُشر مؤخراً بعنوان «إسرائيل تخوض حرباً لا يمكنها الفوز بها»، كتب عامي أيالون، الرئيس السابق للبحرية «الإسرائيلية» والمدير السابق لجهاز الأمن العام (الشاباك): «إن المسار الذي تنتهجه إسرائيل حالياً سيُقوّض معاهدات السلام القائمة مع مصر والأردن، ويُعمّق الانقسامات الداخلية، ويزيد عزلتها الدولية. كما سيُغذّي هذا النهج المزيد من التطرف في المنطقة، ويُصعّد العنف الديني - القومي الذي ترتكبه الجماعات الجهادية العالمية التي تزدهر في ظل الفوضى، ويُضعف دعم صانعي السياسات والمواطنين الأمريكيين، ويُؤدّي إلى تصاعد معاداة السامية عالمياً». واختتم بالقول: «لقد استُعيد الردع العسكري الإسرائيلي، مُظهراً قدرته على الدفاع عن نفسه وردع أعدائه. لكن القوة وحدها لا تكفي لتفكيك شبكة وكلاء إيران، ولا لضمان سلام واستقرار دائمين لإسرائيل لأجيال قادمة».
علاوة على ذلك، ونتيجةً للجرائم «الإسرائيلية» في غزة، انتقلت مسؤولية الكارثة الإنسانية هناك من حماس إلى «إسرائيل». ولطالما سعت «تل أبيب» إلى تصوير حماس على أنها المسؤولة الرئيسية عن الواقع الإنساني الصعب في غزة. إلا أن عدوانية «إسرائيل» اللامحدودة قوضت هذا المسعى.
أظهر استطلاع أجرته وزارة الخارجية «الإسرائيلية» لتقييم سمعتها العالمية أن المشاركين في الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا وإسبانيا وفرنسا يعتقدون أن غالبية القتلى الذين قتلتهم «إسرائيل» في غزة مدنيون. وكشف الاستطلاع أيضاً أن الأوروبيين، على وجه الخصوص، «يتفقون مع وصف إسرائيل بأنها دولة تمارس الإبادة الجماعية والفصل العنصري، رغم معارضتهم لحماس وإيران». علاوة على ذلك، أشار استطلاع حديث أجرته جامعة كوينيبياك إلى أن 37٪ من الناخبين الأمريكيين يؤيدون الفلسطينيين، مقارنة بـ36٪ يؤيدون «الإسرائيليين». تكمن خطورة هذه الأرقام في أنها تُظهر أن «إسرائيل» تفقد دعم الرأي العام الغربي، ما قد يجعل دعم «تل أبيب» قضية رئيسية في الانتخابات الغربية المستقبلية.
علاوة على ذلك، أكملت تسع دول الإجراءات القانونية اللازمة للاعتراف رسمياً بدولة فلسطين العام الماضي 2024، وهي أكبر زيادة سنوية منذ عام 2011.
وهذه الدول هي: بربادوس (20 نيسان/ أبريل)، جامايكا (23 نيسان/ أبريل)، ترينيداد وتوباغو (2 أيار/ مايو)، جزر البهاما (7 أيار/ مايو)، النرويج (28 أيار/ مايو)، ايرلندا (28 أيار/ مايو)، إسبانيا (28 أيار/ مايو)، سلوفينيا (4 حزيران/ يونيو)، أرمينيا (21 حزيران/ يونيو).
رفعت هذه الاعترافات العدد الإجمالي العالمي من 138 إلى 147 في عام 2024، ما يعني أن ما يقارب ثلاثة أرباع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة (147 من أصل 193) تعترف رسمياً بدولة فلسطين.
بالإضافة إلى ذلك، أعلن ثلاثة من حلفاء الولايات المتحدة الرئيسيين، هم فرنسا والمملكة المتحدة وكندا، نيتهم الاعتراف بدولة فلسطينية (والأخيرتان، إضافة إلى أستراليا، أعلنت فعلاً الأحد، هذا الاعتراف)، وتدرس عدة دول أخرى اتخاذ الخطوة نفسها. يمثل هذا تحولاً كبيراً يزيد عزلة «إسرائيل» وسط قلق دولي متزايد بشأن الأزمة الإنسانية في غزة. ستصبح هذه الدول الثلاث أول أعضاء في مجموعة السبع يعترفون رسمياً بدولة فلسطينية، ما يشكل تحدياً واضحاً لـ«إسرائيل». وإذا مضت قدماً، ستظل الولايات المتحدة العضو الدائم الوحيد في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة الذي لا يعترف بفلسطين.
عقيدة قتالية جديدة
لا شك أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر قد شكل نقطة تحول في الاستراتيجية العسكرية «الإسرائيلية». فمنذ ذلك التاريخ، تخلت «إسرائيل» لأول مرة عن عقيدة القتال التي وضعها ديفيد بن غوريون، أول رئيس وزراء لـ«إسرائيل». لم تعد الحروب الخاطفة خيارها المفضل، ولم تعد قضية استعادة الأسرى أولوية مركزية، وارتفعت عتبة الخسائر البشرية والمادية في أي مواجهة عسكرية بشكل كبير. يُجبر هذا التحول جميع الدول الإقليمية على إعادة معايرة استراتيجياتها لتتوافق مع عقيدة القتال الجديدة لـ»تل أبيب».
ومن المهم التأكيد أن بن غوريون صمم عقيدة القتال «الإسرائيلية» لتناسب حقائقها الجغرافية والديموغرافية. ولعل هذا قد دفع العقيد «الإسرائيلي» المتقاعد غور لايش، الرئيس السابق للتخطيط الحربي في سلاح الجو «الإسرائيلي» ومشارك رئيسي في التخطيط الاستراتيجي للجيش، إلى أن ينشر في 19 آب/ أغسطس في مركز «بيجن - السادات للدراسات الاستراتيجية»، ورقة حذر فيها القادة «الإسرائيليين» من تبني عقيدة أمنية جديدة تتجاهل حدود قوة «إسرائيل». ولكن السؤال الحاسم يظل مطروحا: هل ينجح نتنياهو في إثبات فاعلية النهج «الإسرائيلي» الجديد؟ أم أن التخلي عن عقيدة بن غوريون سيكون بمثابة بداية نهاية «إسرائيل»؟
المصدر ترجمة خاصة:أقلام مانع / لا ميديا