دمشق - خاص  / لا ميديا -
مع مرور عام على التغيير الدراماتيكي في سورية، بعد سقوط نظام الرئيس بشار الأسد، ووصول «حركة تحرير الشام» والمجموعات المسلحة المتشددة المتحالفة معها إلى الحكم، وتربع رئيس الحركة «أحمد الشرع» (أبو محمد الجولاني) على كرسي الحكم في دمشق، هناك الكثير مما يمكن قوله عن هذا العام الطويل، في تاريخ سورية.
لا شك أن نظام الرئيس الأسد وصل في مراحله الأخيرة إلى الحائط المسدود، بعدما فقد كل حاضنته الشعبية، بسبب سياسة الفساد والإفساد وسوء الإدارة التي استشرت وأصبحت المؤسسة الوحيدة العاملة والفاعلة في سورية.
كما فقد الرئيس الأسد دعم أصدقائه وحلفائه، الذين وصلوا في المرحلة الأخيرة حد عدم القدرة على حمله وتعويمه، خاصة وأنه رفض كل النصائح والمقترحات لإيجاد حل سياسي بمشاركة القوى الفاعلة من المعارضة الوطنية لإنقاذ سورية من الانهيار، وآخرها كان الاقتراح الذي قدمه وزراء خارجية دول «أستانة» (روسيا وتركيا وإيران) ودول الخليج العربي ومصر والعراق، وبموافقة أمريكية، الذين كانوا مجتمعين في العاصمة القطرية الدوحة خلال سيطرة المجموعات المسلحة على مدينة حلب، ما وضع الجميع أمام الحائط المسدود وأوصلهم إلى اتخاذ القرار بتغيير النظام، وكانت «حركة تحرير الشام» والفصائل المتحالفة معها الجهة الوحيدة القادرة على تنفيذ القرار، وهو ما أدى إلى انهيار سريع للجيش السوري المنهك، وصولاً إلى سقوط النظام يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024.
هذه السياسة الخطيرة لم تأتِ من الفراغ، إنما كانت بمخطط مقصود ومبرمج من غرف عمليات الاستخبارات، التي قادت كل ما جرى في سورية، وكانت فيه زوجة الرئيس أسماء الأسد هي المنفذ لهذا المخطط، بصمت من الرئيس وشقيقه ماهر، الذي كان منغمساً هو الآخر بالفساد، وبعض الأسماء الذين كانوا يدارون من أسماء وماهر، اللذين تحكما بكل اقتصاد ومؤسسات الدولة وتمكنا من تجفيف كل منابع وشرايين الحياة التي مكنت سورية من الصمود على مدى أربعة عشر عاماً في وجه أكبر وأخطر مخطط استهدف سورية، بما تعنيه من هوية وطنية وقومية وجيش ومؤسسات.
وليس سراً أن هذا المخطط لإسقاط سورية هو مخطط «إسرائيلي»، قبل أن يكون أمريكياً أو غربياً، وهي المعادلة التي تحدثنا عنها كثيراً، والقائمة على أن سورية هي النقيض الوجودي للكيان الصهيوني، وملخصها أن بلاد الشام لا تتسع لسورية و«إسرائيل»، فإما أن تنهار سورية لتحيا «إسرائيل»، وإما أن تنهار «إسرائيل» وتحيا سورية.
القراءة الواقعية تؤكد أن الكيان الصهيوني ومن معه نجحوا نجاحاً كبيراً في هذه الجولة من الصراع؛ لأن الأمور لم تتوقف عند إسقاط نظام الأسد، وضرب المقاومتين اللبنانية والفلسطينية، وإنما تم استكمال المهمة، إذ قامت طائرات العدو الصهيوني، بعد أيام قليلة من سقوط الأسد، وعلى مدى ثلاثة أيام، بتدمير معظم ما يمتلكه الجيش السوري من أسلحة ومعدات وتجهيزات وثكنات ومقرات قيادة ومراكز البحوث العلمية، حتى أصبحت سورية عملياً بلا جيش قادر على حماية البلاد، وحتى القيام بأي مهمة عسكرية، وهو ما ظهر مع تمدد الكيان الصهيوني خارج الأراضي التي كان يحتلها في الجولان السوري منذ العام 1967، وسيطرته على كل المناطق التي انسحب منها بموجب اتفاق هدنة العام 1974، بعد حرب تشرين الأول/ أكتوبر 1973، وتمدد حتى في ريف دمشق، ووصلت دورياته إلى بعد 15 كم فقط عن دمشق، كما قامت طائرات العدو «الإسرائيلي» بقصف وزارة الدفاع ورئاسة الأركان السورية عدة مرات، ووصلت عملياته حتى جوار القصر الجمهوري، في رسالة واضحة عن الحال التي وصلت إليها سورية، كما شوهد إعلاميون «إسرائيليون» يرسلون رسائلهم من شوارع دمشق، كما تم تسليم العدو رفات جنود «إسرائيليين» كانوا مدفونين في مخيم اليرموك قرب دمشق، وكذلك ما تبقى من أغراض للجاسوس «الإسرائيلي» إيلي كوهين، الذي أعدم في دمشق عام 1965.
وفي السياسة، أصبحت الاجتماعات مع العدو الصهيوني، سواء داخل سورية أو داخل الكيان الصهيوني وفي تركيا وأذربيجان والإمارات وباريس وواشنطن وغيرها، علنية، وأصبح الحديث عن احتمالية توقيع اتفاق تطبيع مع حكومة العدو يتم تأكيده من أعلى المستويات، وكذلك احتمال دخول سورية «الاتفاق الإبراهيمي».
وداخلياً، شهدت سورية انقسامات اجتماعية وطائفية حادة، بسبب البنية العقائدية التي تتحكم بالسلطة الجديدة، وفصائلها المسلحة، والقائمة على الفكر التكفيري والجهادي، وهو ما تسبب بحدوث مجازر في الساحل السوري والسويداء وحمص وفي صحنايا وجرمانا بريف دمشق.
كما شهدت عموم مناطق سورية حالة انفلات أمني تخللتها عمليات سرقة ونهب وقتل وسبي للنساء واستيلاء على الأملاك الخاصة، ما أفقد المواطن السوري الشعور بالأمان.
كما تم استهداف فئات محددة من المجتمع السوري، ممن تحسبهم السلطة على النظام المنهار، فقامت بتسريح أعداد كبيرة من أعمالهم وتوقيف رواتب عناصر الجيش وقوى الأمن السابقة، لتشمل هذه الإجراءات مئات الآلاف من المواطنين السوريين، الذين وصل معظمهم حد الفقر والجوع.
أيضاً شهدت المواد الأساسية، وفي مقدمتها الخبز والأدوية والمحروقات والكهرباء والاتصالات والانترنت، ارتفاعاً حاداً بالأسعار، بلغت في بعضها -مثل الكهرباء- عشرات الأضعاف، ما استهلك الزيادة التي استبشر بها المواطنون في الرواتب، وزاد الأعباء على الشعب السوري، بمختلف فئاته وشرائحه.
اليوم، وبعد عام على هذا التغيير الدراماتيكي، يقف السوريون وهم في حالة أصعب، وباتت مطالبهم تقتصر على الأمن ولقمة الخبز، وباتت آمالهم بأن تتحسن أمورهم معلقة على إلغاء قانون قيصر، وأن تستجيب السلطات في دمشق لمطالب القوى والدول الإقليمية والدولية الفاعلة والمؤثرة في الشأن السوري، والتي تتوافق في الكثير منها مع مطالب معظم فئات الشعب السوري، وهذا ليس حباً بالشعب السوري، وإنما لتوافق ما يجري مع مصالح هذه الدول والقوى، وفي مقدمتها الكيان الصهيوني.
بالعودة إلى أحداث التاريخ وعبره ودروسه، نرى أن دمشق وبلاد الشام، التي تحتل أهم موقع استراتيجي في قلب العالم ومفتاح منطقة شرق المتوسط وغرب آسيا، وهي المؤشر إلى صعود وانهيار الإمبراطوريات والقوى العظمى، نراها دائماً هدفاً لكل ما مر على العالم من امبراطوريات ودول عظمى، سادت ثم بادت؛ لكنها كلها جاءت ورحلت، وبدل أن تروض دمشق، روضتها دمشق، وبادت كلها وبقيت دمشق، وحال دمشق اليوم يقول:
هِيَ الأمُورُ كَمَا شَاهَدْتُهَا دُوَلٌ مَنْ سَرَّهُ زَمَنٌ سَاءتْهُ أزْمَانُ!