أحمد عبد الرحمن

أحمد عبد الرحمن / لا ميديا -
إن كيان العدو يتراجع على مستويات عدة، رغم هالة القوة والعنفوان التي يحاول أن يبدو عليها، وأن المستقبل سيكون في مصلحة شعبنا وأمتنا وقواها الحية، وكل المحاولات الهادفة لإطالة عمر هذا الكيان لن تُجدي نفعاً، وسنشهد عاجلاً أو آجلاً نهاية هذه "الدويلة" اللقيطة، رغم أنف أمريكا وحلفائها.
في الخامس من حزيران/ يونيو عام 1967، هاجم الكيان الصهيوني أربع دول عربية دفعة واحدة، هي: مصر وسورية والأردن والعراق، ودمر سلاح الجو فيها بشكل كامل. ولأن الجميع يعرف تفاصيل تلك "النكسة"، نكتفي بالإشارة إلى نتائج تلك الحرب الخاطفة، وما تمخضت عنه من احتلال صهيوني لكل من: الجولان السوري وقطاع غزة والضفة الغربية في فلسطين، وشبه جزيرة سيناء المصرية.
في ذلك الوقت، بدت هذه "الدولة المستوطنة" وكأنها وحش لا يقهر، وظهرت بصورة البطل الذي يصارع مجموعة من الأنداد، وينكّل بهم، ويهزمهم شرّ هزيمة.
منذ ذلك الحين، بدأت تتشكل في الوعي العربي صورة مخيفة لتلك "الدولة" المارقة، وأصبحت، كما كان يخبرنا أجدادنا، فزّاعة رعب وخوف تشبه إلى حدٍّ كبير القتلة والسفاحين في أفلام "هيتشكوك" الشهيرة.
استمرت الحال على ما هي عليه حتى جاءت الانتفاضة الأولى في فلسطين عام 1987، وبدأت تظهر معها بوادر ضعف قوة الردع الصهيونية وتآكلها، ونجح الشعب الفلسطيني حينها بصدره العاري وبحجره المنحوت من عظام الآباء والأجداد، الذين ذُبحوا في دير ياسين والحرم الإبراهيمي وغيرهما، في تغيير نسبي لتلك الهالة والقوة والعظمة التي كانت تحيط بـ"إسرائيل".
استمرت هذه الحال خلال السنوات اللاحقة وصولاً إلى انتفاضة الأقصى عام 2000، وما شهدته من ضربات قاتلة وجهتها المقاومة إلى العدو في عقر "داره"، مروراً باندحاره عن قطاع غزة وجنوب لبنان، ثم هزيمته الكبرى في تموز/ يوليو 2006، ومعارك غزة في 2012 و2014 حتى وصلنا إلى معركة "سيف القدس" في العاشر من أيار/ مايو من العام الماضي.
في تلك المعركة، تلقى الكيان الصهيوني هزيمة منكرة على المستوى الاستراتيجي، خصوصاً في ظل اشتراك كل أبناء الشعب الفلسطيني فيها، ولاسيما فلسطينيي الداخل المحتل، والذين اعتقد العدو أنه قد نجح، خلال سنوات طويلة من التغريب وغسل الأدمغة وإغراقهم بالسلاح والمخدرات، في سلخهم عن بيئتهم الفلسطينية، وتحويلهم إلى مجموعة من القبائل التي يقتل بعضها بعضاً، من دون أي وازع من أخلاق أو ضمير.
في "سيف القدس" ومن بعدها عملية الهروب الأسطوري من سجن "جلبوع" انكشفت سوءة ذلك "الجيش الذي لا يقهر"، وبان للجميع أنه مجرد "وحش من غبار"، كما وصفه الأسير محمود العارضة، قائد عملية "نفق الحرية".
حاول الكيان الصهيوني بعد تلك الصفعة المؤلمة استعادة عافيته، وتجميل صورته، وأخذ زمام المبادرة من جدي؛ لكنه فوجئ بظهور عامل جديد على الأرض يُسمّى "كتيبة جنين"، التابعة لـ"سرايا القدس"، الجناح العسكري لحركة الجهاد الإسلامي، والتي تشكلت في أيلول/ سبتمبر من العام الماضي في مخيم جنين، وأصبحت تنتشر كأنها قطعة من اللهب حتى وصلت إلى نابلس وطوباس وطولكرم، وشكلت مفاجأة غير سارة لأجهزة الأمن الصهيونية، التي بدت عاجزة عن إيقافها أو تقليل مخاطرها، رغم حملة الاغتيالات والاعتقالات التي نفذتها خلال الأشهر الأخيرة. هذه الظاهرة جعلت الكيان الصهيوني يركز بشكل غير مسبوق على نشاطات حركة الجهاد الإسلامي في الضفة الغربية، وبدأ في ملاحقة كوادرها وعناصرها في كل مكان، حتى وصل في الثاني من آب/ أغسطس الحالي لاعتقال الشيخ بسام السعدي، أحد أهم قادة الجهاد في الضفة المحتلة، وإحدى القامات الوطنية الكبيرة التي تحظى باحترام الجميع وتقديرهم.
كان يمكن لذلك الاعتقال أن يمر من دون رد فعل يذكر، خصوصاً أن الشيخ السعدي قضى نحو 15 عاماً في سجون الاحتلال، وقدم اثنين من أبنائه شهيدين عام 2002، وهُدم بيته وتعرض للملاحقة والتضييق خلال سنوات عمره التي تجاوزت 62 خريفاً.
لكن الطريقة التي تعامل بها جنود الاحتلال مع الشيخ بسام أثناء اعتقاله، وضربه وسحله ودفع كلابهم المتوحشة إلى نهش لحمه بطريقة مهينة، استفزت جميع أبناء الشعب الفلسطيني، ودفعت "سرايا القدس" إلى إعلان النفير العام في صفوف مقاتليها للرد على ذلك الاعتداء، وتدفيع العدو ثمناً باهظاً من جراء ما ارتكبت يداه.
تدحرجت الأمور منذ ذلك اليوم حتى وصلت إلى إقدام العدو على اغتيال قائد المنطقة الشمالية في "سرايا القدس"، الشهيد تيسير الجعبري، في عملية خداع وغدر واضحة، مستغلة حالة الهدوء التي سبقت اغتياله بفعل تطمينات الوسطاء، وقرب التوصل إلى حل لذلك التوتر، الذي استمر أربعة أيام، فُرض خلالها حظر التجول في كل مغتصبات غلاف غزة، وشلت حياة المستوطنين فيها من دون إطلاق رصاصة واحدة.
بعد ذلك الاغتيال الغادر، اشتعلت معركة عنيفة بين "سرايا القدس"، الجناح العسكري للجهاد، وبين "جيش" العدو، استمرت ثلاثة أيام أُمطرت خلالها مغتصبات العدو بداية من غلاف غزة مروراً ببئر السبع وعسقلان و"أسدود" و"تل أبيب" والقدس، وصولاً إلى "نتانيا" على بعد أكثر من 110 كيلومترات بمئات الصواريخ والقذائف، واضطر أكثر من 5 ملايين مستوطن إلى المبيت في الغرف المحصنة والملاجئ، وشُلت الحياة في الكيان الصهيوني بشكل شبه كامل، وتوقف "مطار بن غوريون" (مطار اللد) عن العمل.
هذه المعركة، على قِصر مدتها الزمنية، أظهرت الكيان مربكاً ومفككاً، ويبحث عن تهدئة تخرجه من حالة الذعر والخوف التي سيطرت على مستوطنيه، وكلفته أكثر من نصف مليار شيكل، عدا الخسائر الأخرى التي لم يتم إحصاؤها بعد.
وهنا، نعود إلى السؤال الأول: لماذا بدا الكيان الصهيوني بهذا الضعف، رغم ما يملكه من إمكانيات عسكرية ومادية هائلة، ورغم ما يحظى به من دعم أمريكي وغربي قل نظيره؟ وما هي المعطيات والنتائج التي نبني عليها اعتقادنا هذا، الذي تشاركنا فيه مجموعة كبيرة من المتابعين والمحللين؟
أولاً: لم يتمكن هذا الكيان المجرم من تغيير معادلة "وحدة الساحات"، التي كانت أهم إفرازات معركة "سيف القدس"، وفشل فشلاً ذريعاً في إجبار المقاومة على فك الارتباط بما يجري في ساحات الوطن الأخرى كالضفة والقدس.
ثانياً: مُني بفشل ذريع في تحقيق الهدف المعلن للعملية، وهو القضاء على القوة العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، ودفعها إلى الاستسلام ورفع الراية البيضاء، فرغم الاستهداف الواضح والتحريض الممنهج، وتحييد بعض قوى المقاومة الأخرى، فإن الحركة تمكنت من الصمود ومواصلة القتال حتى نهاية المعركة، بقوة وحيوية شهد لهما العدو قبل الصديق.
ثالثاً: باءت بالفشل محاولات العدو دفع الحاضنة الشعبية للمقاومة إلى الانفضاض عنها، ورفع البطاقة الحمراء في وجهها، بل زادت هذه الحاضنة تمسكاً بخيار المقاومة، وقدمت كل الدعم من دماء أبنائها وممتلكاتها في سبيل إفشال مخططات المحتل.
رابعاً، وهو الأهم: ظهر الكيان الصهيوني، وهو يقاتل أمام حركة واحدة من حركات المقاومة، أنه أضعف مما يتصور البعض. وهذا الأمر يمكن أن يُنظر إليه في المفهوم الاستراتيجي بأن فيه مقتلاً لذلك الكيان المجرم، وأن مصيره سيكون الهلاك والاندثار لو اشتعلت معركة التحرير الكبرى بمشاركة كل حركات المقاومة في المنطقة، ولن تكون له أي فرص للفوز والنجاة.
ختاماً، نقول: إن الكيان الصهيوني يتراجع على مستويات عدة، رغم هالة القوة والعنفوان التي يحاول أن يبدو عليها، وأن المستقبل سيكون في مصلحة شعبنا وأمتنا وقواها الحية، وأن كل المحاولات الهادفة لإطالة عمر هذا الكيان لن تُجدي نفعاً، وسنشهد عاجلاً أو آجلاً نهاية هذه "الدولة" اللقيطة، رغم أنف أمريكا وحلفائها.

أترك تعليقاً

التعليقات