رثاء مستنقعي
 

محمود ياسين

محمود ياسين / لا ميديا -
كنت قد أخبرت البارحة بلهجة رثائية أنني لن أكتب بعد شكل من الرياضة الروحية، وليس استدعاء شفقة أحد، فأنا أشبه محمد علي كلاي بعد أن تلقى هزيمة وتورم وجهه، غادر وهو يرفع إصبعه قائلا: إياكم أن تشفقوا عليَّ؛ فأنا قوي!
صحيح أن ثمة أناساً يجعلونك تود لو تتوقف عن التنفس وليس فقط الكتابة؛ لكنه أمر يتخطى قدرة أحدنا.
الكتابة أكثر الإفصاحات قدرة على تلبية الجشع الوجودي، حس متضور بالغ الشراهة لالتهام الوجود بالكتابة.
إلى ذلك فقد تذكرت تلك القصة الأمريكية من الأدب الشعبي عندما طلب العقرب من الضفدع حمله للضفة الأخرى من النهر، فالعقارب لا يجيد السباحة...
الضفدع من جانبه قدم اعتراضاً منطقياً، مع أن نوازعه الضفدعية الطيبة تدفعه لتقديم خدمة من هذا القبيل. كان وجه اعتراضه هكذا: «إن حملتك على ظهري قد تلدغني وسط النهر»! مط العقرب شفتيه مندهشاً من هذه الحجة، وقال: «إن لدغتك ستغرق وأغرق معك!».
وجدها الأخير مقنعة تماماً، فحمله على ظهره وبدأ السباحة بنشاط مستنقعي واطمئنان. وفي وسط النهر لدغه العقرب، فالتفت إليه محشرجاً: لماذا؟! سنغرق معاً!
قال العقرب: لأنني عقرب!
هذه الحكاية كانت لتأتي آخر ما كتبته، كنغمة أخيرة معتادة وجملة مقتضبة تجعل القارئ يهز رأسه منسجماً مع القفلة، دون أن يتبين له ما إن كان منسجماً مع الإيقاع أم مع الفكرة، وهذه حيلة الكتابة.
هي أناقتنا أيضا، والتفسير الأمثل لضروب اللا استقرار في العلاقة مع عالم لا ندري من الأكثر غرابة، نحن أم هو؟!
الكتابة شكل من الاحتيال، مغافلة القبح على الأقل. ما الذي قد يجعل أحدنا أنيقاً إذا ما تجول بين الخرائب دون كلمات؟!
أي قلب هذا الذي يحتمل التعالي على نصيحة وليام شكسبير: «امنح حزنك كلمات، وإلا فسيظل يهمس في قلبك حتى يفطره»؛ عوضاً عن أنه ليس بالضرورة منح الكلمات لحزنك، هذا شرط على قدر من المازوخية في حال بقي كذلك.
هناك المرح والنسيان أيضاً، وهناك فكرة أنه بينما تقوم الجماعات بما تجيده من القتل إلى الهلوسة، وبينما تحاول الحياة سحبك إلى قاع المستنقع صامتاً، قم باللدغ فذلك ما أنت عليه.
بقي تنويه مهم: إن غرقنا فليس لأننا خذلنا الضفادع الطيبة؛ كلما هنالك أن التماسيح تحمل الجميع في بطنها بين الضفاف، وبلا أي منطق أو حيلة ذهنية.
كان هذا عن الكتابة، فتحول لرثاء مستنقعي، ذلك أنه في المستنقع الحرشفيات الفكرة.
أن تكتب معناه: كلمتك مقابل كلمة العالم، حتى لا يزجك خلف القضبان بلا مرافعة أخيرة. التهمة تنتقي الصامتين، تدفعهم بلا هوادة إلى المنافي وزوايا النسيان الرطبة.
إذ تكتب، عليك أن تكتب ببراعة، وتردد نغمة الروائي كمبروفتش، الذي حاول الوجود إقناعه بأنه لا شيء، فرد عليه بكتابة استباح فيها كل شيء، وراح يستعرض مهاراته متخففاً من غباء ومَلَق التواضع؛ إذ أخبر عن أسلوبه في الكتابة بوصفه: متهكماً وبارعاً، محرضاً ومتماجناً وبهلواناً... لا يسعني إلا أن أروق.
شخصياً، تنسجم أطرافي وحركة التيارات الذهنية في حال كتبت، حتى أنني أنسلّ من الضوضاء والزيادات الجسدية لأخلقني هناك في نقطة ما صقيلاً ومتراقصاً، حالة لفت انتباه الضجر لوجوب التخلي عن قرائي ليبادلوني حس الصخب الأنيق، المتهكم والمحرض أيضاً، مثلما هو حال كمبروفتش: «لا يسعني إلا أن أروق».
لا أذكر اسم الكاتب الذي مات بين طاولة الكتابة والسرير، إذ انهمك في ثنائية الجنس والكتابة حتى سقط وقد منح أقصى ما لديه.
الكتابة كالجنس، دفقة إن أجّلتها ضمر فيك كل شيء.

أترك تعليقاً

التعليقات