حسن حردان

حسن حردان / لا ميديا -

يبدو من الواضح أنّ المنطقة دخلت في مرحلة عضّ الأصابع وشدّ الحبال التي تسبق الاتفاق على شروط وقف الحروب الإرهابية وانسحاب القوات المحتلة، وإنهاء الأزمات التي فجرتها إدارة العدوان في واشنطن.
في هذا السياق تحاول إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن الحصول على مكاسب سياسية وجوائز ترضية مقابل العودة إلى الاتفاق النووي، ووقف الحرب في اليمن، والامتناع عن مواصلة تغذية ودعم إرهابيّي "داعش" في سورية والعراق، وإعاقة إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.. وسحب القوات الأمريكية من البلدين.
ولهذا فإنّ إدارة بايدن، عبر فريقها الجديد، بدأت بعدة خطوات بمثابة رسائل تظهر استعدادها للحوار والانفتاح على أطراف حلف المقاومة، على أمل أن تلاقي التجاوب والترحيب، وبالتالي تجميل صورة السياسة الأمريكية، وظهورها كالحمل الوديع الجانح للسلام والتسويات ووقف الحروب وإراقة الدماء وتجويع الناس، وبالتالي محاولة الحصول عبر دبلوماسية التفاوض والمناورة بثوب الإنسانية الخداع، على بعض التنازلات والمكاسب السياسية التي عجزت عن تحقيقها بواسطة حروبها العسكرية والإرهابية والحصار الاقتصادي والعقوبات.. التي كان بايدن وفريقه شركاء فيها في مرحلة إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
وأبرز الرسائل التي بعثت بها إدارة بايدن كمقدمة لمحاولة استدراج أطراف حلف المقاومة إلى بازار التفاوض، تمثلت بالتالي:
- الرسالة الأولى: إعلان إدارة بايدن تعيين روبرت مالي مبعوثاً خاصاً للشأن الإيراني، باعتباره من المناصرين بحماس للعودة إلى الاتفاق النووي ومعارضة سياسة العقوبات، لكن سرعان ما أتبعت هذه الرسالة بشرط، أعلنه وزير الخارجية أنتوني بلينكن، وهو أنّ الولايات المتحدة مستعدة للعودة إلى الالتزام بالاتفاق النووي إذا عادت إيران إلى التزاماتها به، وقبلت بعد ذلك بالدخول في مفاوضات حول برنامجها الصاروخي وسياساتها في المنطقة.
هذه الرسالة واضحة في أهدافها. تريد قلب المشهد وتصوير أنّ إيران هي التي تخلت عن تنفيذ الاتفاق، وليس أمريكا التي انسحبت منه رغم التزام إيران به، وبالتالي لا تريد إدارة بايدن أن تظهر أنها تراجعت عن تنصّلها وانسحابها من الاتفاق بعد توقيعها عليه وتحوّله إلى معاهدة دولية بمصادقة مجلس الأمن الدولي عليه.. كما أن إدارة بايدن تريد تجديد التفاوض لاحقاً لتعديل الاتفاق لتحقيق ما عجزت عنه إدارة أوباما في مرحلة التفاوض التي سبقت التوصل إلى الاتفاق.
- الرسالة الثانية: إعلان وقف دعم أمريكا للعمليات العسكرية في اليمن بما في ذلك بيع الأسلحة للسعودية، ثم أتبع ذلك بإلغاء قرار ترامب إدراج حركة أنصار الله على قائمة الإرهاب الأمريكية، لدواع إنسانية، كما قال.. لكنه في الوقت نفسه أكد بايدن على مواصلة الالتزام بدعم وحماية المملكة السعودية، في خطوة وصفت بأنها تطمين للحكومة السعودية، بأنّ أمريكا لن تتخلى عنها، وأنّ قرارها وقف الحرب في اليمن، والعودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، إنما ينطلق من المصلحة الأمريكية والسعودية، لأنّ الحرب فشلت واستمرارها له تداعيات خطرة على السعودية والنفوذ الاستعماري الأمريكي في الخليج.. وبالتالي لا يوجد خيار آخر أفضل.. لكن هذا القرار بوقف الحرب، تريده واشنطن منطلقاً لمفاوضات تقود إلى تحقيق تسوية سياسية تضع نهاية للحرب، لكن تسوية تضمن من خلالها واشنطن والرياض إعادة تركيب النظام اليمني بما يمكن القوى التابعة لهما من الحصول على حضور قوي في مؤسسات الدولة، لاسيما الحكومة والمؤسسات العسكرية والأمنية.. وبالتالي عدم انتظار أن يقرّر الشعب اليمني مصيره بنفسه عبر انتخابات ديمقراطية يقرر نتائجها من يملك الأغلبية لإعادة تشكيل الحكم ومؤسسات الدولة بناء عليها.. فواشنطن والرياض تدركان جيداً أنّ موازين القوى الشعبية لم تعد لمصلحة القوى التابعة لهما، وإنما باتت تميل بشكل كبير لمصلحة حركة أنصار الله والقوى الوطنية الحليفة لها والرافضة للتدخلات الخارجية في شؤون اليمن والتواقة لتحقيق الاستقلال الوطني السياسي والاقتصادي لليمن.
- الرسالة الثالثة: إعلان بلينكن عدم موافقته على الاعتراف بضمّ هضبة الجولان، لكيان الاحتلال الصهيوني، في وقت صرّح فيه قائد القوات الأمريكية في المنطقة الوسطى ماكينزي أنّ قواته لم تعد مسؤولة عن حماية استغلال موارد النفط والغاز في شمال شرق سورية من قبل شركة «إنيرجي» الأمريكية الخاصة وقوات «قسد».. وأن مهمة القوات الأمريكية تقتصر على محاربة "داعش".
الظاهر من خلال هذه الرسالة أنها تتفق مع ما كان قد اقترحه جيفري فيلتمان المرشح لتسلم متابعة الملف السوري، بفتح قنوات التفاوض مع القيادة السورية لمحاولة الحصول على تنازلات بما سماه "الإصلاح الشفاف" مقابل تخفيف الحصار والعقوبات والسماح بعودة اللاجئين وإعادة الإعمار.. ولتشير أيضاً إلى عدم إمكانية تكريس ضمّ الجولان بعد فشل أمريكا في تغيير نظام حكم الرئيس بشار الأسد الذي انتصر.
- الرسالة الرابعة: التي لم تعلن بعد، وهي أنّ القوات الأمريكية لن تنسحب من العراق إلا إذا وافقت بغداد على السماح ببقاء قواعد أمريكية تحت عنوان مساعدة القوات العراقية في التدريب ومواصلة محاربة الإرهاب، ومنحت الشركات الأمريكية حقاً حصرياً باستخراج وتسويق النفط، وامتنعت عن تنفيذ اتفاق الشراكة الاستراتيجي مع الصين.
في مواجهة هذه الرسائل الأمريكية التي تظهر مرونة دبلوماسية، بهدف ابتزاز تنازلات لمصلحة السياسة الأمريكية، جاء ردّ أطراف حلف المقاومة، حازماً وصارماً، بأنه لا تنازلات أو جوائز ترضية ستحصل عليها واشنطن مقابل التوقف عن حروبها، والانسحاب، والعودة إلى الاتفاق النووي ورفع العقوبات.. وإلا فإنّ أمريكا لن تحصد، من سياسة الابتزاز هذه، إلا المزيد من الفشل والخسارة والتداعيات السلبية على قواتها المحتلة ونفوذها الاستعماري في المنطقة.
هذا الموقف لأطراف حلف المقاومة تجسّد بشروط مقابلة وردود على الشروط الأمريكية ومحاولات إدارة بايدن الدخول في بازار التفاوض، وهذه الشروط المقابلة هي:
أولاً: إعلان طهران أنها لن تقبل العودة إلى التزاماتها بالاتفاق النووي، قبل أن تعود واشنطن إلى الاتفاق الذي انسحبت منه، والالتزام العملي به، ورفع العقوبات وإلغاء كلّ الإجراءات التي تتعارض مع الاتفاق، وتعويض إيران عن الأضرار التي أصابتها.. وإذا ما رفضت واشنطن ذلك وأصرّت على مواصلة سياسة الغطرسة والتعالي، ولم تتواضع وتقبل باحترام حقوق إيران والتعامل معها من موقع الندّ للندّ، فإنّ الفرصة التي منحتها طهران لعودة واشنطن للاتفاق النووي بدأت تقترب من النهاية (نهاية فبراير/ شباط الجاري).. وعندها فإنّ الحكومة الإيرانية ستكون ملزمة بتنفيذ قرار مجلس الشورى برفع نسبة التخصيب إلى مستويات عالية جداً تضع إيران على أعتاب امتلاك قدرة إنتاج القنبلة النووية متى أرادت ذلك، وبالتالي خروج إيران نهائياً من الاتفاق النووي الذي انسحبت منه واشنطن، ليصبح ما يحكم علاقات إيران مع الدول الغربية، معاهدة حظر التسلح النووي.. غير أنّ الردّ الإيراني الأقوى وغير المسبوق جاء أخيراً على لسان مسؤول الأمن محمود علوي الذي أعلن أنّ الضغط الغربي المستمر يمكن أن يدفع طهران إلى الدفاع عن النفس، والسعي إلى حيازة أسلحة نووية.
وفي ظلّ عدم قدرة واشنطن في التأثير على قرار إيران، عسكرياً واقتصادياً، فإنّ إدارة بايدن ليس أمامها سوى الفرصة الوحيدة المتاحة حتى نهاية فبراير/ شباط، للعودة إلى الاتفاق، والتخلي عن أوهام القدرة على فرض شروطها.
ثانياً: إنّ حركة أنصار الله لا تخدع بتصريحات أمريكية، فـ«أيّ تحرك لا يحقق نتائج عملية على الأرض بإنهاء الحصار وإيقاف العدوان يُعتبر شكلياً ولا نلتفت إليه.. ولسنا ممن تخدعه التصريحات كيف ما كانت..». هذا الردّ جاء من محمد الحوثي عضو المجلس السياسي الأعلى، على توجه بايدن لوقف الحرب في اليمن، تبعه ميدانياً مواصلة العمليات العسكرية ضدّ قوى العدوان، لاستكمال تحرير محافظة مأرب، وتوجيه ضربات في العمق السعودي، وتحديداً لمطار أبها العسكري، مما وجه رسالة قوية بالنار أيضاً، بأنّ أنصار الله ليسوا في موقع المهزوم حتى يقبلوا شروط واشنطن لوقف الحرب ورفع الحصار، وأنهم يمتلكون القدرة والإرادة على مواصلة المقاومة وتحقيق الانتصارات، وتكبيد المملكة المزيد من الخسائر ورفع كلفة فاتورة حربها المدمرة.
ثالثاً: تأكيد سورية أنها ليست لاهثة وراء حوار مع واشنطن، إذا لم تقبل الأخيرة ومسبقاً بشروط دمشق لهذا الحوار، وهي: انسحاب القوات الأمريكية من سورية، والموجودة من دون إذن الحكومة السورية. وقف سرقة النفط والغاز من سورية. وقف دعم قوات «قسد» الانفصالية. الامتناع عن التدخل الأمريكي في شؤون سورية الداخلية، واحترام سيادة واستقلال سورية.. والتوقف عن إعاقة عودة اللاجئين، وإعادة الإعمار.. رفع العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية قبل وبعد «قانون قيصر».
هذه الشروط السورية إنما تؤكد أنّ سورية التي صمدت وقاومت جيوش الإرهاب وقدّمت التضحيات الجسام في سبيل الحفاظ على سيادتها واستقلالها وحرية قرارها وثوابتها الوطنية والقومية، ورفض السماح بأيّ تدخل في شؤونها الداخلية، هي اليوم أكثر تصميماً على التمسك بهذه المسلمات، وما رفضت التنازل عنه على مدى 10 سنوات لن تقدّمه الآن لمن ارتكب الجرائم والمجازر بحق شعبها ودمّر سورية.. وإذا ما رفضت واشنطن، الاستجابة لشروط دمشق، فليس أمام قواتها المحتلة سوى مواجهة المقاومة الوطنية السورية التي ستجبرها، عاجلاً أم آجلاً، على الرحيل مهزومة من دون حتى أن تحفظ ماء وجهها.
رابعاً: تأكيد العراق أنه لم يعد بحاجة إلى استمرار تواجد القوات الأمريكية، بعد نجاحه في إلحاق الهزيمة بـ"داعش"، التي كانت الذريعة لعودة هذه القوات بحجة مساعدة العراق على مكافحتها.. وقد جاء قرار البرلمان العراقي حاسماً بدعوة القوات الأمريكية إلى الانسحاب.. وإذا كانت واشنطن تعتقد أنها تستطيع تحقيق ما عجزت عنه خلال احتلالها العراق بين 2003 و2011، فإنها واهمة، لأنّ قوى وفصائل المقاومة التي هزمتها، وأجبرتها على الانسحاب تحت جنح الظلام، أصحبت اليوم أشدّ بأساً وأكثر قوة وقدرة على إجبار القوات الأمريكية على الرحيل مرة ثانية تحت ضربات المقاومة.
خلاصة القول، إنّ أطراف حلف المقاومة حسمت قرارها في قطع الطريق على المناورات الدبلوماسية لإدارة بايدن، وقرّرت إفهامها بعقم الرهان على إمكانية حصولها على تنازلات وجوائز ترضية مقابل انسحاب قواتها ووقف حروبها الإرهابية والحصار الاقتصادي، والعودة إلى الاتفاق النووي، وأنه ليس من سبيل أمامها للخروج من المأزق الذي وقعت فيه سياساتها، إلا التسليم بفشل حروبها وعدم القدرة على تحقيق مكاسب، وبالتالي سحب قواتها المحتلة وتجنب المزيد من التداعيات السلبية لبقائها.

أترك تعليقاً

التعليقات