الجمعة..اختبار دولة أم اختبار أعصاب؟
- محمد أبو راس الجمعة , 5 سـبـتـمـبـر , 2025 الساعة 7:58:11 PM
- 0 تعليقات
محمد أبو راس / لا ميديا -
الذين يصرّون على أن ما سيجري يوم الجمعة هو «جلسة تقنية» لعرض خطة الجيش لحصرية السلاح، يطلبون من اللبنانيين أن يصدّقوا أن الحرب تُدار بالمحاضر، وأن خرائط القوة تُرسم في صالونات البروتوكول. الحقيقة أبسط وأقسى: ثمة من يريد تحويل مجلس الوزراء إلى غرفة عمليات لتنفيذ ورقة أمريكية - سعودية مع تعهدات أوروبية! وثمة من قرّر أن يقول «لا»، ليس رفاهية ولا مزايدة، بل لأن البلد إن انكسر في هذه النقطة تحديداً لن ينهض بعدها على قدميه.
منذ قرار 5 آب/ أغسطس، يُدفع القصر والسراي إلى مسار واحد: ترجمة شعار «حصرية السلاح» بجدول زمني ملزِم يقوده الجيش. عُدّلت القصة في الإعلام ألف مرة؛ مرّة «خطة» ومرّة «استراتيجية أمنية»، مرّة «حوار» ومرّة «تطبيق الطائف كاملاً»... لكن بيت القصيد لم يتغيّر: تثبيت معادلة تقول إن الدولة لا تقوم ما لم تُكسر المقاومة. ومن هنا يبدأ الاشتباك الحقيقي.
الخارج يوزّع أدواراً ولهجة: بيان خليجي «يرحّب»، سفير فرنسي «يطمئن»، موفد فرنسي «في الطريق»، ومصري «ينصح» بعدم الفوضى... هذا كله ليس دعماً مجانياً للحكومة، بل حزام ضغط سياسي يُراد منه دفع الجيش للتموضع في مكان لا يستطيع الوقوف فيه: بين نار مطالبةٍ بنزع سلاح لا يملك أدوات نزعه، ونار وحدةٍ داخلية إذا مسّها مسّ البلد كلّه. الجيش، الذي يعرف جنوبه وشماله، يقول بالفم الملآن: لا خطة تقود إلى صدام داخلي، ولا مهل زمنية تُصنع في مكاتب المانحين.
في الداخل، «الثنائي» واضح: لا نقاش بقرارات غير ميثاقية، ولا ترك للجيش في العراء كي يتحمّل وزر مغامرة سياسية. الرئيس نبيه بري يفتح باب «الحوار»؛ لكن على قاعدة تطبيق «اتفاق الطائف» كما هو، لا كما يريده المستجدّون على «الدسترة». والفارق هنا جوهري: الحوار ليس جسراً للتراجع عن قرار حكومي اتُّخذ تحت سقف ضغوط، بل مكبحٌ لمن يريد تحويل الحكومة إلى مصعد يُنزل البلاد إلى قبو الفتنة. ولهذا، كل سيناريوات الجمعة مفتوحة: من «أخذ العلم» بخطة بلا مهل، إلى نقاش معمّق يُسقط الجدولة، إلى انسحاب وزراء يرفضون تحويل الميثاق إلى ورقة «قيد الدرس».
على الضفة المقابلة، تُبنى رواية «الانتصارات الثلاثة»: تنعقد الجلسة، تُناقَش الخطة، تُقرّ الخطة. هذا التسلسل يبدو أنيقاً في العناوين؛ لكنه يتجاوز سؤالاً واحداً قاتلاً: وماذا بعد؟! كيف تُنَفَّذ «الحصرية» جنوباً و»إسرائيل» تقيم نقاطاً داخل الأراضي اللبنانية وترمي القنابل على الجرافات؟! ومن يضمن أن أول احتكاك على تخوم موقعٍ مستحدث لن يتحوّل إلى اشتباك مفتوح؟! ثم من أين تُوفَّر عُدة وعتاد وخطوط إسناد لجهاز عسكري يطلبون منه أن يكون «المكنسة» و»المظلّة» و»المطافئ» في آن واحد؟!
المعادلة التي يحاول البعض تدوير زواياها مستحيلة هندسياً: دولة «محايدة» تُمسك بكل البنادق، وجيشٌ ينفّذ، ومجتمعٌ يصفّق، واحتلالٌ «يتفهّم»، وحدودٌ تُرسم على الورق. هذه أوهام تُكتب في معاهد أبحاث العدو: أولاً سلاح الجنوب مقابل انسحابٍ من «النقاط الخمس»، ثم سلاح البقاع والحدود، ثم «الكل»... على أن تُشرف قوات أمريكية (لا «يونيفيل»)، أي (1701) جديد؛ لكن بلا قناع. المطلوب تجريد المقاومة من معناها قبل سلاحها، وفتح الطريق أمام «تطبيع» أمني وسياسي واقتصادي يُباع للبنانيين على أنه «خطة إنقاذ».
سياق الضغط لا يتوقّف عند المقاومة. ثمة «ملفات» تكميلية لتطبيع المشهد: «السلاح الفلسطيني» في المخيمات يُقدَّم كهدية على طريق «حماية لبنان»، ولجان لبنانية - سورية لملف المفقودين والحدود تُسوَّق كبداية صفحة جديدة. كل ذلك جزء من صورة واحدة: إعادة هندسة البيئة الأمنية والسياسية وفق الرغبة الأمريكية، مع تظهير دور رئاسي وحكومي «قوي» يقف على أكتاف مانحين عرب وأوروبيين. المطلوب من بعبدا والسراي أن يقولا للناس: لسنا وحدنا، العالم معنا. أما السؤال الذي لا يريدون سماعه فهو: أي عالم؟! عالم يمدّ يد المساعدة لتقوية الدولة أم عالم يمدّ إصبعه لقياس حرارة القابلية للتسوية على حساب لبنان؟!
المقاومة من جهتها لا تُدخِل الجيش في خانة الخصوم. هذه مؤسسة قاتلت كتفاً إلى كتف في الجرود، وحمت السلم الأهلي يوم اشتعلت شوارع وضُغط على ضباط وجنود. الخط الأحمر هنا مزدوج: سلاح المقاومة ووحدة الجيش. وأي مغامرة تكسر أحدهما تفتح الباب لمعركة بالوكالة يخسر فيها الجميع ليربح العدو. لذلك، إذا ظنّ أحد أنّ نقل الاشتباك إلى الداخل خيار يمكن التلاعب بساعته، فليحسب جيّداً معنى «ساعة الصفر» كما تفهمها المقاومة: لمّا تُدفع المعركة عنوةً إلى البيت، تُعاد إلى مكانها الطبيعي على خط المواجهة مع الاحتلال.
ماذا عن الجمعة؟
ثلاثة احتمالات واقعية:
1. جلسة «تنفيس» تؤخذ فيها علماً خطةٌ بلا مهل، تُعاد إلى مطبخ سياسي يشتغل على «تهدئة» لا تغيّر شيئاً في الجوهر.
2. اشتباكٌ سياسيٌّ يفضي إلى انسحاب فريق ورفع السقوف، مع بقاء الباب مفتوحاً لحوار تحت عنوان «تطبيق الطائف».
3. محاولة تمرير جدولٍ زمني من خلف ظهر الجيش والميثاق، ما يفتح كوةً في الجدار الداخلي لا تُسدّ بسهولة.
في كل الحالات، معيار الربح والخسارة لن يكون عدد التصفيقات في البيانات، ولا عدد الزيارات في الروزنامة الدبلوماسية. المعيار واحد: هل تخرج الدولة من الجلسة دولةً تحمي جيشها ومجتمعها وتتمسّك بحقّها في الدفاع؟! أم تخرج غرفة عمليات لإدارة تفكيك بطيء لمنظومة الردع تحت عنوان «القرار 1701» و»اتفاق الطائف» و»الثقة الدولية»؟!
الجمعة ليس موعداً مع ورقة «خطة»، بل مع تعريف الدولة نفسها. إمّا دولةٌ تُدار من الخارج ويُطلب منها «إثبات حسن السلوك» على حساب أمنها الداخلي وحدودها، وإمّا دولةٌ تعرف أن الحفاظ على تماسكها يبدأ من حماية جيشها من الفخاخ وحماية مجتمعها من وهم «الحصرية» في بلد محتلّ ومخترق. بين هذين الخيارين ستقع كل الكلمات الجميلة: «حوار»، «طائف»، «استراتيجية». في النهاية، سيبقى السؤال الذي يهربون منه معلّقاً فوق الطاولة: من يضمن لبنان إذا كُسرت معادلته الوحيدة التي ما زالت تمنع الحرب الكبرى وتكبح الفتنة الصغرى؟!
المصدر محمد أبو راس
زيارة جميع مقالات: محمد أبو راس