مزامير آخر الليل!!
 

أحمد عز الدين

أحمد عز الدين / لا ميديا -
(1)
ما ضرورة المفكرين إذا كان المطلوب إطفاء العقل؟! وما ضرورة الكُتاب إذا كان المطلوب تسطيح اللغة؟! وما قيمة الأبطال والمحاربين إذا كان المطلوب إلغاء التاريخ؟! وما قيمة التاريخ إذا كان الهدف هو طمس الذاكرة؟! وما قيمة الشعوب إذا كان المطلوب تجميدها كالذبائح في ثلاجات الوقت والإحباط والفاقة، وتحويلها إلى نمطين متضادين، إما باحثين عن اللذة، وإما باحثين عن الرغيف؟!

(2)
المجد لعقلاء هذه الأمة، وهم يمسحون عن أعلامهم ألوانها القومية، لتصبح بيضاء من غير سوء، يعلقونها لترفرف كأجنحة الدجاج الأليف، على أسوار المدن، ومنارات الموانئ، وصواري السفن، وعُلب الليل، وصدور بائعات الهوى، ويرشقونها فوق وسائد النوم، وكُتب المطالعة المنزلية!
المجد لهؤلاء العقلاء، وهم يكتبون مراثي ساخنة في أمة العرب، قبل أن تموت، ليرحموها من سكرات الاحتضار الطويل، ويعلنون موت الرصاصة وهي تتنفس حيّة تحت جلدها، ويشطبون لغة الغضب والبنادق والحجارة من قواميس اللغة العربية، ويلقون علينا من المحيط إلى الخليج دروسا عبقرية في فضائل الانحناء المذل، والسجود الخاشع، ويقرؤون على مسامعنا قرآنا جديدا، عبري القلب واللسان!
المجد لهم جميعا، عقلاء هذه الأمة، الذين حملوا بيننا بشجاعة راية «سلام القوة»، والذين ينتصب مجدهم جزءا من مجد سادتهم الصاعدين فوق أنقاضنا ورمادنا، إلى سارية شمس الصهيونية، التي لا يريدون لها أن تغيب!

(3)
المجد لهم، ولا مجد لنا!
المجد لهؤلاء، الذين خرجوا علينا وعلى الشاشات، ليقرؤوا قصائد حب فاضحة في جيش الدفاع «الإسرائيلي»، وهم يمسحون بألسنتهم بقايا دماء شهدائنا على المدافع والدانات وراجمات الصواريخ، وأحذية الجنود، حتى لا تلوث دماؤنا الصور الملونة الجديدة التي سيضعونها محاطة بالورود في ألبومات الذكريات السعيدة!
المجد لهؤلاء، الذين وقعوا أسرى في حب الجيش «الإسرائيلي»، من النظرة الأولى، والابتسامة الأولى، والقُبلة الأولى، وهم يوزعون فضائله ونبوغه علينا، ويطلبون منه تحت وهج العدسات الساخنة، والعواطف الجياشة، أن يتولى ذبح ما تبقى من أعناق المقاومة المذمومة، ومصادر القوة والنيران، التي تتمسك بحقوق لم تعد حقوقا، وإنما أصبحت عقوقا، بمسيرة السلام الظافرة، لكي تستوي الأرض ملعبا مفتوحا لمدفعياته ودباباته، ومخدعا مشتركا لإنتاج الأجيال الصالحة الجديدة!
(4)
المجد لهم، ولا مجد لنا!
المجد لهؤلاء، الذين استصغروا أن يكون هناك حائط مبكى يتيم في القدس، فتطوعوا لبناء حائط مبكى جديد في ديارهم، وعز عليهم أن يتباكى المصطفون حول الأول وحدهم، فسارعوا إلى أن يتباكوا بالدموع الساخنة معهم حول الثاني، وكبُر عليهم أن يدقوا خيوطا بالمسامير في الحائط الأول، فأقاموا من أجسادهم حائطا جديدا، تدق فيه المسامير، وتعلق فيها الخيوط المجدولة بالهوان!
المجد لهم، وهم يشربون حتى الثمالة، ويسكرون بنبيذ المستوطنات «الإسرائيلية»، التي نبت كرمها وارتوى بدماء الفلسطينيين، أجيالا من الأطفال والنساء والرجال، رغم أنهم فقدوا حواسهم، لأنهم لا يرون في كل كأس قطرات من الدموع، وقطرات أكثر من الدماء!
المجد لهم، وهم يتصورون، بعبقرية مبهرة، أنهم يخرجون «إسرائيل» من «الجيتو»، بينما تتصور «إسرائيل» بسذاجة مفرطة أنها توسع حدود «الجيتو»، وتشدهم كأعجاز نخل خاوية، إلى داخل حدوده، التي ستظل مغلقة!

(5)
المجد لهم، ولا مجد لنا!
المجد لهؤلاء، الذين لم توقفهم عقيدة، ولم تثنهم حقوق، وذهبوا نهارا إلى الكنيست «الإسرائيلي»، وانخرطوا في حوار الحضارات، ومسارات أنابيب النفط والغاز، وهم يشاركون بهمة وفاعلية في إعادة بناء خرائط الثروات والممرات والجغرافيا الاستراتيجية الجديدة، التي تحتاج إلى جراحات عميقة، في جسد الإقليم العربي، كي تمتد الأنابيب إلى الأنابيب، وتلتصق الشرايين بالشرايين، فهكذا يتم التلقيح والإخصاب الحضاري، حتى لو انغلقت معابر، وبادت ممرات، وبارت مواقع استراتيجية حاكمة، ذلك أنهم لا يعنيهم إلا سطوع نجمهم الزائف، ولو انطفأت شموس العرب، ولا يعنيهم إلا تغطية هشاشة أبدانهم، ولو تدرعوا بنتف من اللحم العربي الحيّ، وإذا كانت أرواحهم المقرورة، وأطماعهم الباردة، تبحث عن الدفء، فلا بأس من أن تُرمى عظام الأمة فحما في المحرقة، لتتصاعد منها ألسنة اللهب، كي تبعث الدفء، وتطرد الخوف، وإن كان وقودها الناس والحجارة!

(6)
المجد لهم، ولا مجد لنا!
المجد لهؤلاء، الذين يدفعون المليارات بسخاء، ليدفعوا دولا كأنها عربات طائشة للتسوق إلى أبواب المتاجر «الإسرائيلية»! المجد لهم، لأنهم يتصرفون بوحي سيكولوجية المريض بداء عضال، ولم يعد يطيق أن يرى أصحاء طبيعيين من حوله، ولذلك عليه أن ينشر جراثيم العدوى، وآفة المرض.
المجد لهؤلاء، الذين نصبوا أنفسهم ميزانا لقياس نجاح الوزراء العرب، والأدباء العرب، والصحفيين العرب، وكأنهم، في رحلة الوهم أو الإيهام، قد أصبحوا قادة الأمة، وميزان صحتها وسلامتها، وميزان ثقافتها وإبداعها، وميزان خطابها وإعلامها، وكأن قلب العرب هنا قد توقف عن الخفقان، وكأن رئة الثقافة العربية هنا، قد أصابها السرطان، وكأن بضاعتها قد بارت، ودورها قد تلاشى، ومكانتها قد اضمحلت!
المجد لهم، وهم يفتتون ما تبقى من النظام الإقليمي العربي، كأنه غدا قطعا من اللحم انسلت من عظامها، ومن عمودها الفقري، وكأنهم البديل الجاهز، والمستقبل الحاضر!
(7)
المجد لهم، ولا مجد لهؤلاء الذين يقفون صامدين كالمسلة، بين الطلقة والصدى!
لا مجد لهؤلاء الجنود، الذين يرفعون سماوات الوطن فوق أكتافهم، خشية أن تميد!
لا مجد لهؤلاء، الذين يكتبون ميراث أمتهم بالدم لا بالحبر!
لا مجد لهؤلاء، الذين يرفضون أن يحنوا هامات بنادقهم، ولا أن ينكّسوا أعلامهم، ولا أن يؤجروا عقولهم للضالين صناديق بريد!


كاتب مصري

أترك تعليقاً

التعليقات