خاطرة في النقد الأدبي
 

د. محمد النهاري

د. محمد النهاري / لا ميديا -
تتعدد المدارس النقدية في العصر الحديث، فشيوخ النقد الأمريكيون الجدد يفضلون التعامل مع النص مباشرة قبل التنظير، أي أنهم يدرسون النص ليستخرجوا منه النظرية، بخلاف الأوروبيين الذين يبدؤون بالنظرية ليطبقوا عليها النقد. والناقد الفرنسي الكبير "لانسون" يذهب إلى أن هناك فرقاً كبيرا بين الأدب وتاريخ الأدب، فهو يعنى بفكرة أن الأدب ومبدعه الأديب لا بد أن نستضيء في قراءة كل من النص باعتباره إبداعاً ومبدعاً كأديب منتج للنص، لا بد أن نستضيء بما يسمى "ملابسات" كل منهما. ولربما يكون النص تاريخاً أو أي فن آخر. وأحب أن أذكر بعض هذه الملابسات التي سماها بعض النقاط "تشابك العلاقات" ماثلة في الأسئلة التالية:
1 - "مَن"، وتعني: من القائل؟ فدراسة نص لأبي نواس لا بد أن التعرف عليه من نشأته إلى مرحلة إبداعه.
2 - "أين"، وتعني: أين نشأ؟ وما هي البيئة التي نشأ فيها؟ باعتبار البنية تشكل ذوق الأديب وسياقاته الإبداعية. للمكان دوره أيضاً في تشكيل الإنسان، وفي المقدمة تناول الموضوع، فالمكان له أهميته في استلهام المعاني. ويستدل النقاد العرب على هذا المعطى بالشاعر العباسي علي بن الجهم، الذي خاطب الخليفة مادحا:
أنت كالكلب في الوفاء وكالتيس في قراع الخطوب
فلما تحضر عاد فألقى القصيدة بمقدمتها الغزلية الرائعة:
عيون المها بين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
3 - "متى"، وتعني: في أي تاريخ قيل هذا النص؟ لأن هذا السؤال يسهم بشكل جيد في تحديد المراحل الشعرية ومستويات أداء الشاعر.
4 - "كيف"، وهو سؤال نقدي خالص بموجبه يعطي الناقد حكمه على النص من حيث التقويم والقيمة.
ولا بد من أن نذكر أن الناقد -أي ناقد- لا يمكن أن يتناول أي نص أدبي إلا إذا قدم له و/ أو عرض عليه تسميته، إن كان شعراً أو مسرحاً أو مقالة أو قصيدة أو رواية... فالناقد في هذه الحالة يقوم باستعراض شروط كل فن على ما ينبغي أن يكون عليه العمل الذي قدم له، ثم بعد أن تنطبق عليه يقوم بعملية الحكم، فمثلاً ينبغي أن تقوم القصيدة على خمسة أبنية، هي: اللغة، الفكرة، الموسيقى، الصورة، والتجربة الشعرية، فإذا نقص بناء من هذه الأبنية لا تسمى قصيدة، وهكذا بقية الفنون.
وعن تعدد المدارس النقدية، فلقد كان للعلوم التطبيقية التي ازدهرت في منتصف القرن التاسع عشر على يد العلماء الطبيعيين أو ما يسمى بالتاريخ الطبيعي أفاد من هذا المنهج، منهج الفلسفة الوضعية، طائفة من مؤرخي الأدب ونقاده، وفي المقدمة "سانت ييف" والعلامة الفرنسي تن (TAIN) وبرونتير، فذهب هؤلاء العلماء النقاد ينتقدون الذوق والطبع الذي يميز النقد عند العرب القدماء، كابن طباطبا العلوي في كتابه "عيار الشعر"، وقدامة بن جعفر في كتابه "نقد الشعر". وطبق هؤلاء النقاد الغربيون القوانين الطبيعية على الأدب، فيما أنكر هذا المنهج الصارم بعض النقاد الغربيين، وكبيرهم العلامة "لانسون" الناقد الفرنسي الذي ذهب إلى أن للأدب ملابسات زمانية ومكانية، وهذا يعني أن هناك شيئاً يسمى "تاريخ النقد الأدبي" يأخذ في حسابه ما سماه تين "الجنس والبيئة والمكان الجغرافي"، فلا يمكن فهم شاعر من شعراء أي عصر في القديم والحديث إلا بمعرفة بيئته الصغرى الماثلة في الأسرة، أو بيئته الكبرى الماثلة في المجتمع.
ولا بد من ملاحظة فكرتين ترتبطان بعضهما ببعض:
- الفكرة الأولى: أن القدماء والمحدثين عرباً وأجانب قد أجمعوا تقريباً على أن الشعر إنما يقوم على أساس وجود ذائقة عند كل من المبدع (الشاعر) والمتلقي (الملقى إليه) ما استطاعا حتى اللحظة ليس تحديد معنى الذوق وحسب، وإنما مصطلحات أخرى كالطبع، الجزالة، الأصالة، الحدس، الدقة، جمال التأليف، حسن النظم، وفرة المعنى، الإصابة... الخ.
وإنما تعرف هذه المصطلحات على نحو من المقاربة. فالشعر صادر عن عواطف خبيئة تحلق في فضاء غيبي غير محسوس؛ ولذا فإن اللغة لا تعد قابلة لتكون "تداولية"، لذلك فاللغة الشعرية إنما هي رموز غير محددة العوالم والملامح.
- الفكرة الثانية: أن تعدد المدارس النقدية يعود إلى طبيعتين اثنتين: طبيعة تتعلق بما يمكن أن أقترحه بالسياقات، فكلما تعددت السياقات تكاد تقترب من إنشاء مدرسة نقدية معينة، متفاعلة مع المعاصرة بمعطياتها المختلفة؛ وطبيعة تتعلق باستشراف الزمن (TIME)، فالمدرسة النقدية عبارة عن تنبؤ بطقس جديد قادم، ولذلك نطلق الفرق بين نقد قديم ونقد جديد أو معاصر عن قراءة قديمة للنص الأدبي وقراءة حديثة، وهذا ما يمكن أن نتحدث عنه ونضرب له الأمثال في حدث آخر.

أترك تعليقاً

التعليقات