د. محمد النهاري

 د. محمد النهاري / لا ميديا -

مقطـف (أ)
خطواتها في الأرض تنقيرُ
مرّت هنا، أم مرّ عصفورُ؟! 
في عينها مدنٌ مسافرةٌ
وبصدرها ماسٌ وبلّلورُ
ضاق القميص ليحتوي جسداً
ريّانَ فيه الماء والنورُ
والتفّ بنطال الغيوم على
ساقين، فاحتدمت أعاصيرُ
قرويّةٌ فستانها لغةٌ
فيها بيان الحسن مسطورُ
أكمامه للحلم أجنحةٌ
خضراء تحسدها الشحاريرُ
والصدر أهرامٌ يمانيَةٌ
تطريزه فنُّ وتنظيرُ
نيسانُ هندَسَهُ برابيةٍ
نِيليةٍ فرعونُها الحورُ
شهدٌ على لبنٍ مساكبُه
تينٌ ورمّان ومنتورُ
يجري الحَيَا من تحته دِيَماً
ما «الجيزةُ» المصريةُ البُوْرُ؟!
***
قرويّةٌ من نجمةٍ عصَبتْ
تاجاً عليه الليل مظفورُ
خلعَ العفافُ ظلامَ شرشفها 
فجمالها كالشمس مسجورُ
في الضوء فَتَّحَ وَردُهُ شَمَماً
وعليه شوكُ عفافِها سورُ!

مقطـــف (ب)
خافٍ بلا خوفٍ ولا سَرَفٍ
بادٍ كلون الطيف مستورُ
يندى الندى من خدها خفَراً
وتفوح من فيحائه «جُوْرُ»
..
أهلاً! وغصن القات في يدها
في راحةٍ بالرَّاح ممطورُ
مستوحشٌ من أن يفارقها 
من أذرع الشارين مذعورُ
فنَنٌ على فنَنٍ، أسير بذا
والقلب في يد ذاك مأسورُ
هي لي تُعَتِّقُ صَحوَها عِنَباً
وأنا بغير الكأس مخمورُ!

الجزء الأول
يذهب بعض النقاد إلى أن خلافاً جذرياً طرأ بين أفلاطون الأستاذ وتلميذه أرسطو، رغم أن علاقة التلميذ بالأستاذ قد دارت زمناً يقارب عشرين عاماً.
وأساس هذا الخلاف المزعوم انطلق من فهم كليهما لنظرية المُثُل؛ فأفلاطون (427 ـ 347 ق. م) يرى أن كل الفنون قائمة على التقليد، فهناك عالم مثالي أو عالم المثل "يتضمن الحقائق المطلقة والأفكار الخالصة والمفاهيم الصافية النقية، وما العالم الطبيعي إلا محاكاة لعالم المثل والأفكار الخالصة، لذلك فهو ناقص ومزيف وزائل، فالأشجار المتعددة في العالم الطبيعي مجرد محاكاة لفكرة الشجرة الموجودة في عالم المثل... والفنان أو الشاعر يحاكي العالم الطبيعي المحسوس، فيصبح عمله محاكاة لما هو محاكاة أصلاً، وبالتالي فهو يبتعد عن الحقيقة التي تكمن فحسب في عالم المثل والأفكار بعداً شديداً" (شكري الماضي: في نظرية الأدب).
أما أرسطو (384 ـ 322 ق. م) فيرى أن الفنون لا تحاكي ولا تنقل، فالفنان، أكان شاعراً أو أديباً بوجه عام، لا يحاكي ما هو كائن، وإنما يحاكي ما يمكن أن يكون أو بالأصح ما ينبغي أن يكون بالضرورة أو الاحتمال. بعبارة ثانية: إن الفنان الرسام إذا حاول أن يرسم منظراً طبيعياً مثالاً ينبغي له ألا يتقيد بما يتضمنه ذلك المنظر، بل أن يحاكيه ويرسمه كأجمل ما يكون، أي بأفضل مما هو عليه، فالطبيعة ناقصة، والفن يتمم ما في الطبيعة من نقص، والأمر من قبل ومن بعد للفنان يصبح عائداً لهذا الفنان، فمن حقه أن يحذف أو يضيف، قبحاً أو حسناً...
والشاهد في ذلك صنيع علي بن العباس بن جريج، المعروف بابن الرومي، شاعر الحياة العامة في العصر العباسي، الذي نجده قد صور بعض "الفتيات" الجواري المغنيات تصويراً غاية في القبح والغثاثة، مما دعا بعض مؤرخي الأدب إلى "تسبيب" ذلكم التقبيح بأن هذه المغنية أو تلك كانت ترفض منادمته أو إسماعه لحونها وغناءها، إما لأنه فقير وإما لأنه لا يطاق.
مفتتح رأيته ضروريا للدخول إلى "موال صبري" للشاعر البديع صلاح الدكاك، الذي خاطبته بالنص حين قرأت له نصاً آخر عنوانه "صناحفي": "عزيزي صلاح، إن لم يدخلك الله النار سأدخلك أنا؛ لإهمالك البالغ مثل هذا الإبداع الذي ينبغي ألا يكون حصراً على ملف الأوراق المنسية".

من الخـارج
تغنى الشعراء من أول يوم في الوجود بالمرأة، فطرة الله التي فطر الناس عليها. وإذا كانت لغة الشعر في كل زمان ومكان تعبيراً فطرياً عن ضرورة فطرية تشكل هذا الوجود الثنائي لتسير عجلة الحياة ولادة وموتاً، ماثلة في التزاوج والإنجاب الطبيعي، فإن الشعراء وغير الشعراء قد وقفوا أمام هذا الكائن الجميل موقف إعجاب غير محدود، وهو إعجاب إيجابي، حتى ليصبح للمرأة -وهي كذلك في ديوان الشعر العربي- نفوذ الإحياء والإماتة، وفعل الجنون الناشئ عن صدها وهجرها، مما جعل القتل والقتال أمراً لازماً على الرجل، بينما المرأة فارغة إلا لتسبي العقول، عقول الرجال المشغولين بحبها وتدليلها.
كُتب القتل والقتال علينا
وعلى الغانيات جرُّ الذيولِ
وإذا كان النزال يقتضي إعداد العدة، من صقل السيوف وإدراع ما يقي هذا المقاتل وهج الحراب، فإن عيون المرأة قاتلة بطبعها، تسبي النفوس فتصادر حياتها، لا يستطيع العاشق لنظراتها دفعاً، ولا لردها منعاً.
إن العيون التي في طرفها حَوَرٌ
قتلننا ثم لم يُحيينا قتلانا
رأى الدكتور طه حسين أن الغزل في ديوان شعرنا العربي ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1ـ الشعر العام الذي يتغزل بالقيم الجمالية في المرأة، كالقد الأهيف والعيون الحوراء وشنب الأسنان والعجائز الثقيلة و... و...
2ـ الغزل الصريح، الماجن والعفيف، كمعطيين مجتمعين (عمر بن أبي ربيعة وبشار بن برد).
3ـ غزل عذري اختصت به قبيلة عذرة العربية في منطقة الحجاز.
فلأي نوع من الغزل نضع هذه القصيدة لصلاح؟ بل سؤال آخر: هل يستطيع الناقد أن يمرحل المبدع زمنياً؟ أعني هل نستطيع أن نحدد زمن هذه القصيدة "موال صبري"؟ وبداية أرى أن أحدد معنى العنوان تأصيلاً، فالموال أحد أنواع الشعر العربي هو عبارة عن صوت مديد يعبر عن حالة وجدانية معينة لا يصحبه إيقاع. أما "صَبِر" فهو جبل من أعالي جبال اليمن يبلغ ارتفاعه من مدينة تعز 10072 قدماً ينتهي بحصن سمي بحصن العروس (للمزيد أنظر: "صفة جزيرة العرب" للهمداني).

من عتبات النصخلفية الباعث
اشتهر جبل صبر بإنتاج نبات القات، الذي هو مزاج كثير من اليمنيين، كنبات الشاي والبن مزاج كثير من سكان العالم.
كما أن هذا الجبل وطن لكثير من الأزاهير والورود الفواحة الرائحة، كورد "الجوري"... ويضطر السكان أن تشارك الفتيات في بيع الورد أو القات، لانشغال الرجال بأعمال الحقول وتفقدها أو استصلاحها للزراعة، خاصة والسكان في ازدياد.
وكما فُتن الشاعر عبدالله عبدالوهاب نعمان (الفضول) بفتاة صبر من قبل:
ما احلى بنات الجبل
 حينما يطوفين المدينة بالثياب الدمس
محوطات الوجوه البيض
 بالكاذي مسقى من ورود الغلس!
فتن صلاح الدكاك بفتاة صبر أيضا. ولسنا هنا في مرمى الموازنة بين شاعرين؛ ولكن نكتفي بالقول: بينما وقف الفضول عند وصف حالة تشبه توثيقاً سينمائياً خاطفاً، فإن الدكاك جمع بين التوثيق الواقعي والأسطوري. ينطبق ما سبق على سيناريو الأستاذين المعلم أفلاطون وتلميذه أرسطو؛ إذ يقوم صلاح بمحاكاة حية لمثال المرأة في عالم الكمال، إذ يتيح للقارئ فسحة للتخيل، فإذا به يحلق في عالم أرسطو، لتخرج هذه الفتاة من نسيج أسطوري يشبه في أسطرته فرس امرئ القيس المجمّع من أكثر من مشهد! فالفضول انشغلت عدسته اللاقطة بمشهد عرضي ومشهد فاتح (zoom) كأنه لقي  "لقية" في طريق عارض، بيد أن صلاح وهو يحذف ويضيف ويستغور المشهد كمن يلقى جنية في مدينة مسحورة، تبهته هذه المرائي المؤسطرة، فيتيح لنا أكثر من خيار لنتخيل عبر أسئلة مشدودة إلى هذا المدهش في خلقه وتكوينه:
خطواتها في الأرض تنقير
مرت هنا أم مر عصفور؟!
وإذا كان التلميذ أرسطو قد جامل أستاذه ومعلمه بأنه يشاركه الرأي فيما نظر له من عالم المثل الخفي في أغوار الغيب، فإن صلاح شايع أرسطو فيما يمكن أن تحدثه الإضافة ويصنعه الحذف، ليس وحسب، وإنما ما تحدثه "الأشباه والنظائر".
فـ"موال صبري" (الفتاة) يشبه ما أحدثه طير "القطا" من معان، سواء فيما اختزنه من قيم رمزية أو موضوعية، وبما تنتجه دلالة العصفور من نعومة أو رحمة أو حنان وشفقة!
لن نستبق صلاحاً في محاولة لكشف الرمز في هذا الموال الصبري، فالدلالة التي أنتجها هذا اللفظ (الموال) ولما لم أجد ما يروي ظمئي في المعجم من تعريف معنى الموال، فإني قدرت أن أقارب فأفسر أن الموال صوت مديد ملحون لبيت أو أبيات شعرية، ودونما إيقاع وبدون إعراب غالباً، ليكون مختاراً لحنياً يسبق شعراً مغنى وموقعاً. يقول صلاح إن الموال يصدر عن آهة مديدة تستبطئ الحركة لتنفث حالتها في الفضاء الصامت المريب. وكان أستاذنا الراحل مصطفى عبده ناصف ذا لازمة لغوية لا ينفك يقولها: إن القصيدة خادعة مخاتلة صعبة المراس.

قلت فيما سبق إن صلاح الدكاك لم يكن مجرد ناقل عن أفلاطون، ولم يقف عند حذف أو إضافة أرسطو، وإنما حلق في عالم الأساطير العجيبة!! فمواله شفيف الجسم المعبر عنه بالكناية عن شفافيته بلفظة "تنقير"، وروحانيته المعبر عنها بالكناية أيضاً بلفظة "عصفور".

ويهبط هذا الموال في الأرض ليصعد إلى الأرض من جديد، فإذا بك تجدك تنسرب إلى عالم "موال صبري" متحللاً من كل قيود، كطفل ينسرب من بين كثيف الزحام، فترى بحواسك اليقظى هذا الموال:
في عينها مدنٌ مسافرةٌ
وبصدرها ماسٌ وبلّلورُ
وإذا بالشاعر يتبع تشكيلها من الخارج فيتقصّى المشهد ببعده الواقعي:
ضاق القميص ليحتوي جسداً
ريّانَ فيه الماء والنورُ
وإذا كان الرمزيون -دأبهم- يستكنهون المعاني من وراء ألفاظ اللغة، فإن إصرار الشاعر والإنسان العربي على أن يكون مرأى الخصب في الأشياء متوافرا فيه الري والخصوبة، فإن مرد هذه الرغبة عائد لحالة الجدب والقحولة المقيمة في صحراء الجزيرة العربية، بل وإن فطرة الإنسان ميالة للنعومة واللين والرطوبة. يقول ماركس إن "في الإنسان شوق إلى الأخصب".
ويستمر المشهد، يرسم الشاعر مواله ببطء فيه الواقعي والأسطوري:
والتفّ بنطال الغيوم على
ساقين فاحتدمت أعاصيرُ
قرويّةٌ فستانها لغةٌ
فيها بيانُ الحسن مسطورُ
أكمامُه للحلم أجنحةٌ
خضراء تحسدها الشحاريرُ
إن الشاعر يطمع أن يكون مواله واقعياً؛ غير أن هذا "التوقيع" (أعني الواقعي) يتمرد ليستمر أسطورياً، فكل بيت أعلاه موشح بالأسطورة، يسود كل بيت مبدأ النقيض، أو الطباق، بين السماء والأرض، فالبنطال ملبس أرضي، بينما الغيوم مرتبطة بالسماء. وإذا كان التفسير منهجاً من مناهج النقد الأدبي الحديث، فلا بد أن نشير إلى المنهج النفسي وتمثله الحركة الجنسية المائلة في "أعاصير" وغيرها من مقبلات يشتاقها ذو فاقة نهم. وإذا كانت المفاضلة بين موال صبر وموال مصر يفخر أحدهما على الآخر، فيفخر موال صبر موال فراعنة مصر، فإن ما أريد السؤال عنه هو سؤال فضولي لا أكثر، لأنه لا يفيد إلا بعض القرائن عند تحقيق النصوص، والسؤال هو:
ما هي الخصائص الفنية والموضوعية التي توفرت في «موال صبري»؟
يكاد يجمع كثير من نقاد الأدب الحدث على أن مهمة النقد الأدبي تتمثل في أمرين اثنين:
الأول: توافر الشروط الفنية في أي عمل أدبي، فهناك شروط ينبغي أن تتوفر في الشعر، كما أن هناك شروطاً ينبغي أن تتوفر في المسرح والرواية والمقالة... والخاطرة.
الأمر الثاني هو: الحكم على العمل الأدبي، وهنا يتداخل الموضوعي باللاموضوعي، بحسب انتماء الناقد لهذه الفكرة أو تلك، ولهذه الأيديولوجيا أو تلك. غير أن الناقد الذي يقف موقف المحايد وعدم الانحياز هو الناقد الذي يضيف نصاً إبداعياً آخر.
في النص (مقطف ب) يقدم الشاعر "موال صبري" تقديماً يحظى بقدر من التقديس الممكن للاممكن، ليخرج "موال صبري" جنية ذات طابع بشري خاضع لتخيل يشترط في صاحبه موهبة التذوق لجماليات المادة والروح على السواء. بعبارة مختصرة: إن النص (ب) تلخصه عبارة الشاعر: "وأنا بغير الكأس مخمورُ".

خصائص النص في سياق الفكرة والفن
الفكرة هي التغزل بفتاة من جبل صبر تبيع قاتاً من يدها له فعل الخمر الذي يكرعه حسن جميلة نادر. وعلى مستوى التشكيل الفني، تشمخ الصورة باذخة في الجذر والساق بنائياً، و"ثمرة" في إبراز الفكرة. وفي رأيي أن الشاعر يلجأ إلى الصورة لاستطاعتها الفذة أن تخترق غير الممكن ليصبح ممكناً. إن الصورة -فيما يبدو- هي الرافع الأول للتشكيل المجازي، هي أمنية المبدع لإنجاز ما يريد المبدع الشاعر.
في الجزء (ب) من النص، نلاحظ أن الصورة تتبادل الموقع كبناء شعري في كيان القصيدة مع مكونات البنية العامة للقصيدة، فهنا الصورة فكرة، ثم هي موسيقى، ثم هي لغة، ثم هي تجربة شعرية.
"موال صبر" تصبح في المعطى (ب) تلتف بعباءة -إن صح التعبير- من القدس المكنون، هي معطيات عالم الغيب، هي ثقافة الشاعر في رؤيته للكون بأسره من خلال أنغام هذا الموال الصبري.
المقطف (ب) يمثل الرعشة الأخيرة إثر فعل شهواني صارخ. هذه الصبرية لا يجاريها أحد في ضوئها الظاهر كلون الطيف المستور، وهي كثيرة الحياء، شديدة الخفر، هي فواحة الأريج، تمنح القات خمرة منتشية، هي في قدها كغصن القات ليناً وخضرة ودهشة، وهي أولاً وأخيراً كأس خمرة كونت عنبها ضحوة صبح وضيئة.

نتيجـة:
قامت المرأة رمزاً في وعي العربي من زمن بعيد، فهي رمز الأمومة الخصيب، ومعادل موضوعي للإنجاب. وتظهر المرأة اليمنية في اللقى الأثرية مكتنزة متخلية عن الرشاقة لتكون قادرة على إنجاب عشرات المواليد. وإذا كان الوعي أسبق من الوجود، كما تذهب بعض الفلسفات، فإن الوعي في هذا النص عبارة عن مجموعة من القيم التي صاغتها ثقافة يتعالق فيها الحفاظ الاجتماعي الذي يكاد يكون فطرياً وبنية وأخلاقية.
وإذ سبقت الإشارة إلى أن الموال امتداد صوتي يعبر عن حنين أو شوق لم يستوعبه الإيقاع، فإن "موال صبري" يمتد كامتداد صوت الذي ضل عنه شيء عزيز، فهو -وهذا مربط الرمزية فيما أحسب أو أقدر- صوت يبحث عن أمنية غائبة أو ضالة فقيدة. ولئن كان مجزوء الرجز يمثل تتابعاً صوتياً، فإن هذا التتابع يعبر عن حركة لا تريم.
وقبل أن نقول أخيراً، ليس هذا موال الشاعر البديع صلاح الدكاك وحده وحسب، وإنما هو موال مجموع شعب لم يسعه إيقاع منتظم، وإنما موال يعبر عنه موال نفثات مصدور عله يجتمع بالشتيت بعد أن ظن كل الظن ألا تلاقيا.
وأخيراً يا صلاح، نرجو أن يكون "موال صبري" عنوان ديوان شعري لك نترقبه.

شكل الموال: وجه الشبه: تحليل الصورة
فتاة صبرية تبيع القات تشبه مشيتها طير "القطا"، فإذا هي تمشي فإنما هي توقع خطواتها توقيعاً موسيقياً خفيفاً كتنقير العصفور. أما عيناها فهما عوالم من مدن مسافرة. وأما جسدها الممتلئ فإن قميصها يضيق به حسن ريان فيه الماء والنور، تلتف الغيوم على ساقيها اللتين تشبهان أعاصير محتدمة قروية خام لها لغة ذات بيان ساحر. أكمام قميصها أجنحة خضراء عابرة فضاء، تحسد هذه الأكمام شحارير مسافرة. أما صدر هذه الفتاة فبروزه كأهرام يمانية تبز صدور الفرعونيات شموخاً وأنفة، وما ينتجه هذا الشموخ من صائر شهد تين ورمان ولبن طري مسكوب.
ولما كان تصور الشاعر لسواد شعر المرأة كأنه ليل، فإن قروية "موال صبري" عصبت "تاجاً عليه الليل مضفور". وإذا تتبعنا مسار التشبيه والكناية في المقطف (ب) لوجدنا أن السرد يتوالى ليوفر مفارقات كسابقاتها في المقطف (أ)، فالندى يندى من خدها خفرا وحياء، يفوح منه جوراً طيب الورد، والقات من يدها يكسب فاعلية الخمر.

مقول وجه الشبه
تمثل وجه الشبه في أداء هذا الموال مراوحة بين الحركة والسكون، وبين المشهد الجزئي والكلي، على أن علينا أن نثبت صورة مبتكرة لم يُسبق صلاح إلى طرفتها، كقوله: 
في عينها مدنٌ مسافرةٌ
وبصدرها ماسٌ وبلّلورُ
وكقوله: 
قرويّةٌ من نجمةٍ عصَبتْ
تاجاً عليه الليل مضفورُ
وقوله:
أهلاً! وغصن القات في يدها
في راحةٍ بالرَّاح ممطورُ
وقوله:
ضاق القميص ليحتوي جسداً
ريّانَ فيه الماء والنورُ
وإن كان صلاح قد أعجب بصورة المرحوم أبي نواس:
تَسْقيكَ من عيْنها خمراً، ومن يدها
خمْراً، فما لك من سُكرَينِ من بُدّ!
فإنه استطاع أن ينتج صورة كلية معماة تحتاج ذائقة تحليلية قادرة على التكوين، فعبارة "بغير الكأس مخمور" تستدعي الحدس بإمكاناته المخلفة.

نتيجـة:
إن وجه الشبه يمنح الموال جامعاً بين قيم جمالية عقلية مادية معنوية، وتكاد لا تفرق بين "المتعة" و"المنفعة"، واللتين أثارهما منظرو الشعر وفلاسفته من عصور غابرة.
"موال صبري" فتاة تعز قروية تعتز بقيمها المحافظة تتشح بسربال بكر من الخفر والرغبة الجهيرة. وليس هذا وحسب ما يقوله وجه الشبه، بل ما يقوله أركان البيان في وجوهها الإشعارية والتشبيهية والكناية، ولكن الجامع فيها هو وجه الشبه الذي جعله صلاح ممكناً.

أترك تعليقاً

التعليقات