د. محمد النهاري

د. محمد أحمد النهاري / لا ميديا -

طبوغرافيا النص:
دع عنك لومي فإن اللوم إغراء
وداوني بالتي كانت هي الداء
قامت بإبريقها والليل معتكر
فلاح من وجهها في البيت لألاء
فأرسلت من فم الإبريق صافية
كأنما أخذها بالعين إغفاء
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
إن مسها حجرٌ مسته سراء
رقّت عن الماء حتى ما يلائمها
لطافةً وجفا عن شكلها الماء
فلو مزجت بها نوراً لمازجها
حتى تولد أنوارٌ وأنواء
دارت على فتية دار الزمان بهم
فما يصيبهمُ إلا بما شاؤوا
لتلك أبكي ولا أبكي لمنزلة
كانت تحل بها هند وأسماء
حاشى لدرة أن تبني الخيام لها
وأن تروح عليها الإبل والشاء
فقل لمن يدعي علماً وفلسفة
علمت شيئاً وغابت عنك أشياء
لا تحظر العفو إن كنت امرأً حرجاً
فإن حظركه في الدين إزراء

طبوغرافيا أبي نواس:
أولا: الموقع:
تتأتى الشهرة أو الزعامة من أحد مصدرين:
1 - مصدر صناعي يشتغل على أكثر من آلية، كانت في العصور السابقة على سبيل المثال تعتمد على الشاعر الذي يقوم بالإشارة والتنويه بشخص الحاكم والدعاية له. كان هذا في العصر الجاهلي. والحطيئة (أبو مليكة جرول بن أوس) أظهر مثالٍ في هذا السياق، فها هم "بنو أنف الناقة" أشبه ما يكونون بمستأجري البضاعة أو شيء من الأشياء، يستضيفون هذا الشاعر (المرتزق) فيذبحون له الجزور ويسقونه الخمر، فما يشرق صباح اليوم الثاني إلا وقد قال فيهم:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهمُ
ومَن يسوّي بأنف الناقة الذنبا؟!
ويحط الشعر من قبيلة "نمير" حتى ليغدو المنتمي إليها لا يكاد يرفع رأسه، خزياً وهواناً:
فغضّ الطرف إنك من نُمَيْرٍ
فلا كعباً بلغت ولا كلابا!
وتأتي عصور ما بعد الجاهلية، وخاصة العهد الأموي، حتى يشتري الأمراء الشعراء المفلقين، كجرير والأخطل والفرزدق، ليذيعوا أمجاد هذا الأمير أو ذاك، وهي أمجاد زائفة مكذوبة. وتلحق عصور فتزدحم بلاطات الحاكمين بكثير من الشعراء جهازاً إعلامياً يرفع قدر الطغاة إلى مصاف الأنبياء والمرسلين.
2 - مصدر حقيقي: تفرضه عبقرية صادقة وموهبة قاطعة. وفي النقد الأدبي -كما في غير العلوم الإنسانية- هناك مصطلح يؤدي معنى "التميز"، "التفرد"، "الصوت الخاص" (Uniaueness). وإذا كان امرؤ القيس الصوت الخاص لعهد الجاهليين، وعمر بن أبي ربيعة والأخطل صوتي العهد الأموي، فإن صوتين خاصين مثّلا علاقة فارقة في العصر العباسي الأول، هما بشار بن برد بن برجوخ، والحسن بن هاني أبو نواس، وكلاهما من حيث العنصر فارسي، شكلته البيئة العربية بجوانبها الخطيرة المؤثرة بحسب العلامة الفرنسي "تين".
وبداية لا بد أن نشير إلى ملحظين نقديين راكزين وازنين، الملحظ الأول هو ما يتعلق بدراسة النص من الخارج، باعتبار أن للخارج دوراً في إبداع النص، وهو أمر يعلي من شأنه "سانت يف" ومن العرب قبله عبدالقاهر الحرجاني (القرن الخامس الهجري)، وقد وجد أكثر من منهج لدراسة النص من الخارج، كالمنهج التاريخي والنفسي والاجتماعي، كما وجد أكثر من منهج لدراسة النص أو الأدب عموماً من الداخل كالمنهج البنيوي والمنهج الأسلوبي والمنهج اللغوي الذي يحتوي المنهجين فإنه يترتب على ذلك.
الملحظ الثاني هو أن بالإمكان قراءة الأدب والنص (الأدبي) بمنهج أدبي واحد، ولكنه قد يكون أدباً أو نصاً فقيراً، هو إلى "ذي الحاجات الخاصة" أقرب. وخلاصة هذه السطور أن أبا نواس صوت متفرد استطاع أن يفيد من "الإطار القديم" بحسب أستاذنا الدكتور عز الدين إسماعيل، وهو الإطار الموروث، وبخاصة الأدب الجاهلي والأموي، كما استطاع ألا يخضع للإطار الحديث المفروض بإمكانات العصر العباسي وحسب، ولكنه كان أحد أبرز صانعي هذا الإطار. ولعلنا نستطيع أن نطل على النص الآن ونقارب بين شبكة علاقاته قدر الإمكان وقدر ما تتيحه صحيفة سيارة من مساحة.
لقد نلاحظ أن النص يبدأ بفعل الأمر "دع"، ومن دلالات الأمر الاستعلاء والقوة، ومن هنا يصعد الصوت، صوت أبي نواس المتفرد، حتى ليكاد يصم السامع. ويمكن أن يبدو المنهج النفسي والتاريخي والاجتماعي واضحاً، فأبو نواس المنهك نفسياً بفعل العقدة التي صنعها شعوره بخزي سلوك أمه من ناحية، ثم أبو نواس الذي يشعر بالاضطهاد الشعوبي الذي جعله يستجلب الحماية الاجتماعية من (حكم) القبيلة العربية اليمنية، ثم أبو نواس الخارج على الإطار القديم الموروث، كل أبي نواس هذا يظهر هنا بمظهر المتحدي للقيم الفاضلة التي من شأنها أن تظهر بمظهر الرفض للقيم المرذولة والماثلة هنا بشرب الخمر. ويتجلى صوت الفنان أنبي نواس من خلال استخدام الفكرة استخداماً خاصا، وهو أن اللوم يدفعه للاستزادة: "فإن اللوم إغراء"، وهو ليختلف عن غيره في أن الخمر سر شفائه: "وداوني بالتي كانت هي الداء"، وهو الرافض لعادة المجتمع المحافظ من جهة، ولعادة درج عليها المجتمع من حيث التواضع الاجتماعي في أن الخمرة جلابة للأدواء مما يظهر صوت أبي نواس ليعلو أكثر.
لقد أذهب إلى أن أبا نواس وسلفه بشار قد شكلا ثنائياً في إنجاز مهمتين سياسيتين سخرا لهما إمكانات ممتازة، الحاكم الفعلي أو فلنقل الخليفة الأجنبي (البرامكة) الذي أسلم لمؤسسهم يحيى البرمكي -بحسب الطبري- الخليفة هارون الرشيد "خاتم" الخلافة: "هذا الخاتم يا أبي، فأنت الذي أجلستني هذا المجلس وأقعدتني هذا المقعد". أما المهمة الأولى فهي الصدع بالدعوة الشعوبية التي حمل مضمونها الحنق الفارسي على العرب الذين أطاحوا بحضارة فارسية وزلزلوا أركانها، هذه الحضارة التي ألجأت بشاراً وأبا نواس وكثيرا غيرهما ليلوذوا بفكرة "الولاء" حماية لأنفسهم من الذل والشعور بالاستعباد. فكان بشار صوتاً للنقمة على العرب والانتقاص منهم باعتبارهم "أعراباً حرشة ضباب، وأعراباً يبولون على أعقابهم"، بينما صدع أبو نواس بصوت جهيري ينتقد سياسة أخرى هي سياسة "تفسيخ" المجتمع من خلال كسر المواضعات الاجتماعية والاعتداء على حدود العرق وحدود الشرع.
نجد بشاراً يعمل جاهداً مستخدماً أساليب شتى لإذكاء الموقد الشعوبي، محرضاً على العنصر العربي، مشيداً بالفرس والحضارة الفارسية. كما نجد أن أبا نواس يكلف نفسه أو يكلف بخلخلة المجتمع العربي والإسلامي قيمياً، فيدعو إلى الحرية المطلقة، لتكون الخمرة والجنس الحر كالبغاء واللواط ضمن فكرة كرس لها أكثر من نص من أولى ركائز هذا "التفسيخ" الذي نذر له نفسه وحياته.
فناً: تلابست معطيات الإبداع الشعري عند الحسن بن هاني، فلا تكاد الصياغة الفنية تنفصل عن الموضوعات إلا نادراً، فهو يحطم المقدمة الصياغية التي تمثل هوية قومية لشخصية العربي وإبداعه معاً بفأس غليظة. وبمداخلة مع أستاذنا د. عز الدين إسماعيل في كتابه "الشعر العباسي الرؤية والفن" أطمح أن أضيف لما سماه الإطار القديم فكرة "القومية"، فلم يكن الموروث الذي أطلق عليه أستاذنا المرحوم عز الدين "الموروث الإطار القديم" الذي حدده باسم "الذوق الجديد"، وإنما كان أبو نواس يقصد عامداً (وهذا ما لا يتنافى مع الذائقة الجديدة بحال) إلى تحطيم القومية العربية التي تشكل المقدمة الطللية في العصر الجاهلي والمقدمة الغزلية في العصر التالي (الأموي) شخصيتها البارزة.
ولا يغيبن عن ذهن القارئ متلقياً والمبدع مرسلاً أن أبا نواس انصرف إلى ما سماه أستاذنا عز الدين "شعبية اللغة"، فلم تكن هذه الشعبية صادرة عن الذوق الجديد، وإنما عن وحي من الذوق الجديد والنضال الجديد لإسقاط الخلافة العربية ودك قواعد تمكينها!!

عود على بدء
تظهر خمرة أبي نواس بشخصيات متعددة، وهي شخصيات منسجمة أحيانا متقابلة أخرى، وهي في تعددها منسجمة ومتقابلة يعمدها د. محمد النويهي في كتابه الذي تناول فيه ومن خلال المنهج النفسي: "نفسية أبي نواس"، بأن ذاك عائد إلى نفسية أبي نواس المضطربة.
ولو كان فضاء صحيفتنا الغراء متسعاً لأوردنا عشرات الأمثلة، وحسب القارئ أن يعود إلى الديوان، وحسبنا أن نقف عند أنموذج من نماذج هذه الخمرة "المقدسة".
وإذ نقول "مقدسة" فلمفارقتها الموضوعية للخمرة المتداولة، فينما تقوم هذه الخمرة بتغييب الوعي مطابقة لتعريفها اللغوي فتتخامر العقل (تستره) وتفقده حرية الإرادة والاختيار، تحيي خمرة أبي نواس الموتى وتطرد الأحزان:
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها
لو مسّها حجر مسّته سراء
وإذ أشرنا قبل إلى الصوت المتفرد أو عبقرية الأداء المتميز (Featarcd pergor mance) فإن من مصاديق هذه الفكرة الجديدة التي أحسبها جديدة ولئن افترضنا أحدا قبله قد ابتكرها فلأبي نواس فضل إلباسها ثوباً قشيباً من الصياغة المبتكرة، فلم يقتصر أثرها على إحياء الطبيعة الحيوانية التي حذفها الموت من قائمة الحياة والأحياء، وإنما أدرك أثرها الحجارة الصلدة الصماء فانتشت سروراً بمجرد لمسها. تتبدى لنا ثقافة الاقتباس من القرآن الكريم فتذكرنا هذه الثقافة بالقدرة الإلهية على إحياء الموتى، حيث ينزل مطر السماء على التراب الجاف الميت فتخرج بفضله الزروع والأثمار مختلف ألوانها وطعومها!!

لم يكن بإمكان الناقد الأدبي وهو يقرأ الشعر الجاهلي أن يقدم الإجابة على أسئلة هذا الشعر، وهي أسئلة مشروعة ومتجددة، ليس لأن الأدب والشعر يدخل في إطار العلوم الإنسانية المطاطة والاجتماعية وحسب، ولكن لأن هذا الشعر الجاهلي مسكون بهواجس إنسانية، باعتباره حمّال معطيات تشكل رموزاً لا متناهية تشمل الأرض والسماء على نحو موصول! ومن ضمن هذه الأسئلة: لمَ الرمز أولاً في حياة الإنسانية؟ قد يكون الجواب كامناً في أن الخوف كان حاضراً في حياة الإنسان الذي يواجه عوالم طبيعية مأهولة بكل معطيات الرعب: ليل معتكر شديد الظلمة والسواد يُجهز كل يوم على نهارات مضيئة تجعل الكائنات تحت أضوائها الباهرة، والتماع بروق تولد انفجار رعد يودي بالأحياء على نحو مفاجئ مذهل، ووحوش مستنفرة تُجهز على الإنسان والحيوان، وشمس حارقة ترسل قيظها إلى كل مجال، وسُحُب طوافة في فضاء سماء فسيح سرعان ما تنهمر فتحيي الأرض بعد موتها و... و... و... مما يجعل الوقوف على الطلل صياغة فلسفية للمجهول الذي يكاد يصبح معلوماً. ولعل هذا الطلل الذي يقف منه أبو نواس الحسن بن هاني موقفاً عدائياً أشد ما تكون العداوة والبغضاء، إنما يمثل رمزاً للحياة المزدحمة بشعور قومي يكاد يكون موازياً لحضارات نشأت أو صاحبت الحضارة العربية التي استطاعت الإجهاز على حضارة عريقة هي الحضارة الإيرانية الفارسية في القرن السادس للميلاد، هذه الحضارة التي قدمت على لسان وكيلها -إن صح التعبير- أبي نواس الخمرة بديلاً للطلل، هو خمرة -نواسية- مفارقة بإطلاق للخمرة التي تستمد فاعليتها من دلالتها اللغوية المباشرة: ما خامر العقل وغطاه وستره لتنتج الفوضى. إن خمرة أبي نواس خمرة تنتج اليقظة والرشد وتجعل متعاطيها على درجة من المسؤولية والوعي، وهي في تنويعاتها المختلفة أشبه ما تكون بالأسطورة!!

هي خمرة يستحضرها أبو نواس لإنهاء الغفلة والنوم والبلادة التي أصبحت ملازماً للفارسي الذي أصبح في معطى المجال العربي عبارة عن مولى أو عبد مضطهد!
الخمرة النواسية استبدال لهوية الطلل، وتحفيز لفكرة ثورية تستهدف الكيان العربي، ليس ذلك وحسب، ولكنها تستهدف الدين:
"قم سيدي نعصِ جبار السماوات..." (أبو نواس)
"إبليس خير من أبيكم آدم فتنبهوا يا معشر الفجار
إبليس من نار وآدم طينة والطين لا يسمو سمو النار" (بشار بن برد).

ثانيا: التاريخ:
لم يكن إشراق الإسلام على الجزء الشرقي للجزيرة العربية، أو على الدقة الحد الشرقي الجنوبي لإمبراطورية فارس ذات المد الاستعماري الذي داهم حدود مصر، بل مصر، وتحكم في مقاليد اليمن، لم يكن هذا الإشراق الإسلامي -رغم الترحيب به من الطبقة الدنيا التي رأت فيها انعتاقاً من القهر الاستعبادي الذي مورس ضدها من قبل الأكاسرة الطرف الأول في عقد قهري أملاه على الأكاريين (الطبقة الدنيا) من أبناء الشعب الفارسي- قادراً أن يمحو الشعور بهزيمة الإمبراطورية التي تعتد بحضارتها العريقة الضاربة الجذور في أعماق التاريخ، بل لم يكن هذا الإشراق الإسلامي -فيما يُخيّل لكل طبقات المجتمع الفارسي- أكثر وهجاً وضوءاً من نور النيران الموقدة في حاضرة وبادية الأرض الفارسية، التي "كانت معبودة مذ كانت النار"، بل ظلت هذه النار الفارسية -وإن خبت بعض الدهر- تستعر في أفئدة أبناء فارس لتبرز في موقع تبادلي هو سدة حكم الخلافة العباسية، وهي خلافة فارسية أعجمية - بحسب الجاحظ؛ وكأنّ الفرس استبدلوا -راضين أو مكرهين- بقسمة أن يسيطر نور شكلي عبارة عن رسوم خلافة تؤدي طقوساً فارغة مقابل نيران كانت خامدة لتشغل سلطة حاكمة متنفذة تبسط قرارها في كل الأطراف الخلافة العباسية، حتى أن الخليفة العباسي هارون الرشيد غدا وأمسى -بحسب أمه- ما يستطيع أن يصرف بضعة دريهمات بدون إذن البرامكة، الأمر الذي دعاه في الأخير أن يغرب بهم في مهلكة من مهالك نادرة في سجل التاريخ القديم.

ثالثا: الإبداع:
سلف القول إن أبا نواس الحسن بن هاني الفارسي، وشيخه بشار بن برد، كليهما انتسب بالولاء لغير عنصره الحقيقي؛ بشار انتسب لقبيلة عقيل، بينما انتسب أبو نواس لقبيلة يمنية هي حكم بن سعد العشيرة، فمضى كلاهما يقوم بدور استئصالي لكل ما يمت بصلة للعروبة، بل للإسلام، فبينما تقلد بشار أو قلدوا بشاراً مهمة التحريض ضد العرب والعروبة لم يكن النقاد "ت. س. إليوت" و"ازرا موند" و"كولردج" و"وودرز وورث" فقط هم ملهمي العقاد وزميليه المازني وشكري في موضوع الوحدة الموضوعية، التي تعني سرد موضوع واحد في العمل الأدبي والشعري بخاصة، وإنما التفات الشعراء بالدرجة الأساس هو الذي لفت العقاد و"مدرسة الديوان" لهذا الموضوع.
لقد بدا لشعراء العصر العباسي أن بالإمكان استبدال الرموز، ومنها الطلل والغزل والرحلة بما فيها من صراع مع الثور الوحشي وأهوال الطريق التي تشكل صياغة نظرية على مستوى الفن والموضوع جملاً اعتراضية بين الراحل والمرتحل إليه، بدا لهم أن يستبدلوا هذه الرموز بأخرى كالخمرة والطبيعة ومظاهر كونية أخرى.
وتذهب دراسات نقدية معاصرة (د. مصطفى ناصف: "قراءة ثانية في شعرنا القديم") إلى أن الوحدة الموضوعية قد توافرت في الشعر القديم رغم وجود هذه الموضوعات التي تعتبرها "مدرسة الديوان" ما يشبه الفضول أو التقليد البليد الذي سار عليه معظم شعراء الجاهلية، فالموضوعات التي تبدو فضولاً هي نسيج في إطار الوحدة الموضوعية، ولربما -وهو أمر نرجحه- أن هجوم أبي نواس وغيره على الغرض بشكل مباشر -كهذا النص نحاوره- إنما يشبه مواجهة الواقع بجرأة متناهية!
إن صح التعبير، فأبو نواس شاعر خارجي على المجتمع، موضوعاً وتشكيلاً، إنه شاعر مستفز، حاقد، ناقد، كائد، شارد، واجد!
يتنازع النص أربعة شخوص يتداخل فيها التأثير والمؤثر:
1 - الشاعر، أبي نواس، الذي يقفز ليكسر حاجز القصيدة القديمة وبصيغة تعكس حقداً شعوبياً على الثقافة الجاهلية، بل على الرمز الذي يعتد به الجاهلي العربي، غير مبال بـ"قالة" القائلين ولوم اللائمين: "دع عنك لومي..."!
2 - الساقية التي تقدم الخمرة للشَّرْب: "يتلألأ وجهها وضاءة ونورا"!
3 - الخمرة، وهي شخصية تمثل ينابيع من النور ومصادر ضوء ذات وهج من الصفاء وإحياء الماوت، فهي طاردة للأحزان، ولو حسها الجماد لسرت فيها الحياة.
4 - الفتية الذين ألموا بإبريق الخمرة، وهم فتية مختلفون، لأنهم يتحكمون في مصائر الكون، "دار الزمان بهم فما يصيبهم إلا بما شاؤوا".
ويختم  النص بفكرتين تلخصان، ليس فكرة النص وحسب، وإنما هي حاصل فكر أبي نواس في تعريفه للخمرة وفهمه للدين، في سماحته وغفلته، بعيداً عن أدعياء الحقيقة، فمبلغ علمهم جحر ضيق ونقص شنيع في إدراك الأشياء.

تنتظم  شبكة علاقات النص وفق معطيين اثنين:
الأول: موضوعي يقدم لنا خمرة أبي نواس التي تتجاوز أن تكون سائلاً مائعاً يستدعي الغياب ويفقد الرشد، وإنما فاعل صحو مسؤول يقدم الحقيقة والعلم الكامل غير المنقوص الذي لا تغيب عنه الأشياء.
والسؤال: ما هي الصلة بين مدمن للخمر وقع في مرمى اللوم إلى درجة التشنيع كأنه مجترعها الوحيد، الذي يرى أن اللوم يزيده إقبالاً على الشرب، شرب هذه الخمرة قاتلة الأدواء طاردة الهموم فلا تنزل الأحزان بساحتها، الحرم الآمن، ما الصلة بينه وبين هذه الساقية التي تنبجس نوراً وضوءاً، ثم بين هذه الفتاة وجماعة الشَّرب المندمجين انسجاماً وحميمية، تأتمر بأمرهم الأشياء مسخرة لهم ذليلة؟!
ثم ما صلة هذه الشخوص بهاتين الفكرتين: فكرة ناقدة متعالية تنقم من هؤلاء اللوَّم (بتشديد الواو المفتوحة) الذين يدّعون العلم بالأشياء، بل هم قوم عَمُون (بفتح العين وضم الميم) ولا يعلمون غير القشور، ثم الفكرة الثانية التي تنطوي على فكرة تسامح تمثل قدرية مطلقة يفقهها العارفون؟!
الثاني: الرؤية الفنية، ولا بأس من بضعة سطور توضح الفكرة. لقد نعت "مدرسة الديوان" في منتصف القرن الماضي، بزعامة جهابذتها الثلاثة عباس العقاد وعبدالرحمن شكري وعبدالقادر المازني، المتأثرين -تمام التأثر- بجهابذة مدرسة إنجلترا النقدة الثلاثة: "كولردح" و"ووردزورث" و"برونج"، فذهبوا يعلون من شأن الشعر الإنجليزي، الذي يتميز عن الشعر العربي بما سموه "وحدة الموضوع"، الذي تفتقده القصيدة العربية! وظن أصحاب "الديوان" أنهم سبقوا - ساء ما يحكمون! ولو أنهم أحسنوا قراءة تراثنا القديم لوقفوا على صنيع محمد بن سلام الجُمَحي في كتابه القيّم "طبقات الشعراء"، حين ذهب يحلل بنية القصيدة الجاهلية ثم الغزل الذي يشكل البنية الثانية ثم الرحلة التي تفضي إلى الغرض من القصيدة، وتغافلت "مدرسة الديوان" عن أن هذه البنى الثلاث تشكل وحدة الموضوع، التي تعني واحدية الفكرة، بل نسيت "الديوان" أن لكل زمن وحدته الموضوعية، كوحدة الموضوع في المسرح اليوناني عند أفلاطون وأرسطو. ذلك أن العمل الفني في أجناسه المختلفة، شعرا ورواية وقصة ومسرحاً وسينما، له وحدته الموضوعية التي تتشكل من أبنيتها الخاصة. فالناقد وإن قام بتفكيك هذه البنى فإنما ينطلق من البحث عن دور كل بنية في إنجاز العمل الفني كوحدة موضوعية وفنية متكاملة. ونحن مثلاً عندما نُشرِّح (بتشديد الراء - من التشريح) فنجان الشاي، فنحدد مكوناته بأنه يتكون من الماء والسكر ونبات الشاي، فإن ذلك لا يعني إلا أن نحدد الشاي كمشروب يختلف عن مشروب الشوكولاتة والبيبسي كولا.

وليس آخراً:
فإن الخمرة النواسية ذات تنويعات إن اختلفت في معطياتها فإنها لا تختلف عن كونها فاعل صحو وتنم عن إيقاظ صادر عن صفة لا تخرج عن كونها قدسية، فتنال الواقع مع ما يسميه تلميذ اللغة العربية الملهم محمد أمين متولي الشعراوي: "طلاقة القدرة". ولقد استطاع النواسي بجدارة أن يقدم بعرضه هذا للخمرة دعاية في منتهى الجمال قائمة على الإغراء والإغواء.

أترك تعليقاً

التعليقات