جلال وكمال
 

د. محمد النهاري

د. محمد النهاري / لا ميديا -
لم يبلغ بشر من الكمال ما بلغه هذا اليتيم الذي رغبت عنه مراضع مكة لفقره، هذا اليتيم الذي أدركته عبقرية الفقر، فصار إلى أن يرعى "بُهَم" قريش في هجير الشمس الحارقة وزمهرير الصحراء المستبد!
محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم، خيار من خيار من خيار، بلغ من أرومة النسب والحسب ما جعله يتصل بملتزم الكعبة والمسعى بين الصفا والمروة ويتجذرهما في البيت العتيق الذي جعله الله مثابة للناس وأمنا، يتخطف الناس من حوله.
يتيم عبدالمطلب الذي صنعه الله على عينه ليكتمل به الوجود محفوظا ملحوظــا:...
وإذا العناية لاحظتك عيونها
نَمْ، فالمخاوف كلهنَّ أمانُ
يوم ولادته أشرقت الأرض والسماء، وعمَّت أنواره كل حيٍّ وجماد، كما كان طالع نحس لكل طاغٍ ظالم متكبر جبار يستعبد الفقراء والضعفاء، الذين لا يستطيعون حيلة لمقاومة الظالمين ولا يهتدون سبيلا.
إنه محمد، مثال الكمال لكأنه الإنسانية. أما المؤمن الصادق فحسبه قول الله عز وجل يصف خُلقه وشمائله بقوله: «وإنك لعلى خلق عظيم»، كما يمتنّ على عباده من إنس وجن وحيوان فيقول تعالى في حقه: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين». ها هو بطل الإسلام سيف الله المسلول خالد بن الوليد تثور فيه غيرة الإسلام ليعالج حديث عهد بالإسلام فيقتله، فينتهي الخبر إلى سيدنا النبي الكريم فيسأل خالدا عن الحدث، فيجيب صادقا: إنما قال شهادة التوحيد «تُقية» يا رسول الله، خوفا من السيف! فيوجه له ولعموم المسلمين سؤالا شرعيا تربويا: «هلا شققت عن قلبه؟!». وفي هذا السؤال توجيه شرعي لأولئك الذين يخولون أنفسهم حق محاكمة النوايا التي هي من حق الله وحده لا شريك له.
النبي الرحمة المؤيدة بالمعجزات وكأن تخرق عادة ينبغي أن تنفعل لها قلوب لما تخالط بشاشتها سماحة الإيمان قد عمرت بالحجارة الصلدة والمعاطفة الغليظة فلم تعد تلين إلا بخارق العادة ومعجز الوحي يتنزل من السماء. يصغي الحبيب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للجمل، هذا الحيوان الأعجم، فإذا بالنبي الكريم يقول بصوت عاتب منفعل: يا صاحب الجمل، إن جملك يشكو معاملتك له، فأنت ترهقه وتجيعه...!
وها هي عصفورة توقف الركب النبوي لتشكو أفرادا سلبوها ابنيها من عشها الصغير، وإذا بالرسول الكريم يسأل بصوت سميع: «من فجع هذه بولديها؟ ردوهما عليها».
نحتفل بمناسبة ولادة النبي الرحمة: «ألا من كان طابخا مرقا فليكثر ماءه وليذكُر جاراً له»، لتستيقظ فينا عاطفة الأخوة الإسلامية فلا ننسى إخواناً لنا داهمهم الجوع وغالتهم يد المسغبة واستبد بهم رجال قادرون على المواساة وتخفيف الأثقال ووطأة الأحمال. ولو أن الرسول بيننا حي، ولو أن شرعه قائم، لأنطق الموتى وأحيا القلوب الغافلة وفتح العيون العُمْي لتشهد مجتمعاً أفاق ذات يوم على عدوان ما كف عن استئصال شأفة أبناء اليمن ليل نهار.
إن احتفال أحفاد الأوس والخزرج هو تذكار للقادرين بأن يؤدوا ما عليهم من حق وما فرض الله عليهم من واجب، والمنة لله ورسوله. هو استدعاء ليقوم ولاة أمور المسلمين بالقوامة الحقة إزاء مواطنيهم، وليسألوا فريقا من الذين حملوا أسفارا من المسؤولية من أين لهم إشباع رغباتهم إن كانت حلالا أو حراما، فيما تقفل أسر كثيرة من الناس أبوابها يموتون جوعا ومرضا «لا يسألون الناس إلحافا»؟! لو أن سيرة سيدنا محمد حاضرة في حياتنا لكُنا مؤمنين صادقين، ولكان قد انطبق علينا ما نَفَرَ منه عليه الصلاة والسلام: «ما آمن بي من بات شبعانا وجاره جائع».
يوم مولده عليه الصلاة والسلام يذكرنا بأن تخضرّ أرواحنا بشعور واجب الأخوة وتشرق بهذا اللون الذي تعتم به «القبة الخضراء» التي تظلل حناياها جسد نبينا الكريم.
الشعب اليمني من أقصاه إلى أقصاه يفرح بهذه المناسبة الخضراء البهيجة، فيملأ السماء بضجيج الصلاة والسلام عليه، فهو صلة رحم الله بعباده، وهو رحمة الله للمسلمين والكافرين، يوم يسجد النبي الكريم تحت العرش فيفك أزمة المحشر ويتمنى كثير أن يقذف في النار من الهول العصيب. إنه رحمة الله للعالمين اصطفاه ربه ليكون بشير رحمة وهدى وأمن وسلام عليه أفضل الصلاة والسلام.
ومن تكميل الله له أن جعله تتمة أنبيائه ورسله، وشرفه الله من سابع سماواته بأن أخذ له البيعة والعهد قبل أن يخلق الأنبياء والرسل ويعهد إليهم برسالاته وكلامه، قال تعالى: «وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ ۚ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَىٰ ذَٰلِكُمْ إِصْرِي ۖ قَالُوا أَقْرَرْنَا ۚ قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ» (آل عمران، 81).
فأي فخامة لجنابه الكريم! وأي تنويه بقدره العظيم ومقداره الفخيم! إن هذه الآية دلالة على أن سيدنا محمد عليه صلى وسلم آخر رسل لله وآخر أنبيائه، ودليل على أن أمته خير الأمم تكون شهيداً على الأمم السابقة، وأن سيدنا محمد بلغ من الأهلية والكمال والرعاية من الأزل، قبل أن يعد إلى الحياة، وهو يتقلب في أطوار النشوء والارتقاء، يقول تعالى يذكره بهذا الأمر ويعزيه في ما لاقاه من صلف قريش وكيدهم له ولرسالته: «وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ * الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ» (الشعراء، 219).
يقول تعالى ما معناه: لا تحزن يا محمد على ما يمكره الكفار، فتوكل عليَّ، فأنا عالم الظاهر والباطن، أمرتْ قدرتي أن تكون محفوظاً في أصلاب آبائك وترائب أمهاتك، وأنك من ذلك الأزل وأنت تتقلب في الساجدين خياراً من خيار من خيار، وأنك تظل شاكراً لأنعمي عليك، قائماً راكعاً وساجداً آناء الليل وأطراف النهار، فلا تبتئس بما يصنعه قومك، فكلما حفظتك من الأزل سأحفظك للأبد!
فكيف لا يؤدي المسلمون واجب شكر الله على هذه النعمة المهداة والرحمة المسداة؟! وإذا كان الأنبياء والرسل قد بايعوه على النصرة والإيمان وهم بعض خلق الله فإن الناس عندما يقومون لرب العالمين سيلجؤون إليه ويلوذون به حينما يعتذر وجهاء الرحمن عن الشفاعة ليشهد الناس جميعهم تكريم الله لهذا السيد الخاتم، حين يقول تعالى ما معناه: يا محمد ارفع رأسك واشفع تشفّع، فإذا كان عهد الأنبياء والرسل دليل كماله فإن يوم المحشر دليل جماله وكماله معاً.

ويصدح الكون بالنشيد وتتوالى بشرى الهواتف أن قد ولد المصطفى وحق الهناء. به أخرج الله الناس من الظلمات إلى النور وخلق الإنسان خلقاً جديداً وسبحت الأماكن والأزمنة بحمد الله وحده لا شريك له الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. وإذا كان مولد سيدنا عيسى عليه السلام آية ناطقة بأن الله خالق الأسباب فإن مولد سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام الآية الكبرى للعزيز الوهاب، وبينما تنتهي آية عيسى في زمن ومكان ويخبو نورها بعد إشراق فإن آية محمد من الأزل الى الأبد تتفجر كل يوم بل كل لحظة عن معجزة مدهشة فيرجع البصر خاسئاً وهو حسير.
ها هو النشيد تعزفه ألسنة المنشدين فتؤوب جبال اليمن الأوتاد مرجعة شفة الفضاء زغاريدها محتفية بهذا المولود عديم الأشباه والنظائر، فلم ير إبليس شيخ نجد أذل ولا أحقر من يوم مولد سيد الكائنات محمد عليه أفضل صلوت الله وسلامه:
نبيٌّ أتانا بعد يأسٍ وفترة
من الرسل والأوثان في الأرض تعبدُ
فشقّ له من اسمه كي يُجلّه
فذو العرش محمود وهذا محمدُ
فأمسى سراجاً مستنيراً وهادياً
يلوح كما لاح الصَّقيلُ المهندُ
وأنذرنا ناراً وبشّر جنةً
وعلمنا الإسلام فالله نحمدُ
(حسان بن ثابت)
ما أرسل الرحمن أو رسل من رحمة تصعد أو تنزل في ملكوت الله أو ملكه من كل ما تختصر أو تشمل إلا وطه المصطفى عبده نبيه مختاره المرسل.
(محمد البكري)
كيف ترقَى رُقِيَّك الأَنبياءُ
يا سماءً ما طاوَلَتْها سماءُ
إنّما مَثَّلُوا صِفاتِك للنا
س كما مثَّلَ النجومَ الماءُ
أنتَ مِصباحُ كلِّ فضلٍ فما تَص
دُرُ إلا عن ضوئِكَ الأَضواءُ
لكَ ذاتُ العلومِ من عالِمِ الغَي
بِ ومنها لآدمَ الأَسماءُ
لم تَزَلْ في ضمائرِ الكونِ تُختَا
رُ لك الأُمهاتُ الآَباءُ
ما مضتْ فَترةٌ من الرُّسْلِ إِلّا
بَشَّرَتْ قومَها بِكَ الأَنبياءُ
تتباهَى بِكَ العصورُ وَتَسْمو
بِكَ علْياءٌ بعدَها علياءُ
وَبَدا للوُجُودِ منك كريمٌ
من كريمٍ آبَاؤُه كُرماءُ
وُمُحَيّاً كالشَّمس منكَ مُضِيءٌ
أسْفَرَت عنه ليلةٌ غَرّاءُ
ليلةُ المولدِ الذي كَان للدِّي
نِ سرورٌ بيومِهِ وازْدِهاءُ
(أحمد شوقي)
فما لعينيك إن قلت اكففا همتا
وما لقلبك إن قلت استفق يهمِ
نعم سرى طيف من أهوى فأرقني
والحب يعترض اللذات بالألمِ
وكيف تدعو إلى الدنيا ضرورة من
لولاه لم تخرج الدنيا من العدمِ
محمد سيد الكونين والثقلين
خير الفريقين من عرب ومن عجمِ
نبينا الآمر الناهي فلا أحدٌ
أبر في قول لا منه ولا نعمِ
هو الحبيب الذي ترجى شفاعته
لكل هول من الأهوال مقتحمِ
دعا إلى الله فالمستمسكون به
مستمسكون بحبل غير منفصمِ
فاق النبيين في خَلق وفي خُلقٍ
ولم يدانوه في علم ولا كرمِ
وكلهم من رسول الله ملتمس
غرفاً من البحر أو رشفاً من الديمِ
فهو الذي تم معناه وصورته
ثم اصطفاه حبيبا بارئ النسمِ
(البوصيري)
إن البشرية لم تخلق في جوانحها إلا بوجوده «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين» وليصبح آية من آيات السماء فبهر الخلق بجمال أوصافه وصفاته لتجيب الصدّيقة بنت الصدّيق محاولة إدراك حقيقة شغلت السائلين: «كان خلقه القرآن» ولما جارت البرية في تفسير هذه المعجزة نفث روح القدس في لسان أحد أتباعه ومحبيه، حسان بن ثابت:
وأحسن منك لم تر قط عيني
وأجمل منك لم تلد النساءُ
خلقت مبرّأً من كل عيب
كأنك قد خلقت كما تشاءُ
كان هذا الوصف بطاقة هوية لسيدنا النبي الكريم، ولكأن ألسنة الشعراء وقرائح الأدباء عندما عجزت عن متابعة بيانات هذه البطاقة استسلمت لقول أحدهم فكان ما فيه كفاية في القول لا كفاءة في حدّية التعريف:
دع ما ادعته النصارى في نبيهمُ
واحكم بما شئت مدحاً فيه واحتكمِ

أترك تعليقاً

التعليقات