كلمات في النقد الأدبي
 

د. محمد النهاري

د. محمد النهاري / لا ميديا -
يكاد النقاد يجمعون على أن الأجناس الأدبية هي القصيدة والرواية والقصة والمسرحية والمقالة، وأن لكل جنس من هذه الأجناس مباني خاصة، فالقصيدة تقوم على أبنية خمسة، هي اللغة والصورة (التّخيل) والموسيقى والفكرة والتجربة الشعرية؛ فاللغة تعني «الإفراد» (اللفظة - المفردة) والتركيب (العبارة - الجملة)؛ والموسيقى تعني الوزن والقافية، والفكرة تعني موضوع النص... غير أن هذه الأبنية تصبح محل تفاوض بين الحذف والإضافة، لاعتبار خطير وأساس، هو أنه لا تعريف حاسماً لهذه الأبنية، ولأنه أيضاً مشاحّة في مصطلحات العلوم الإنسانية، وإنما التعريفات في هذه العلوم عبارة عن مقاربات يُشكل السياق فيها دفة القيادة؛ فعلى سبيل المثال: هناك مفهومان للشعر عند القدماء والمحدثين، فالقدماء يُعرّفون الشعر بأنه كلام موزون مقفي، ليخرج عن النثر كحد منطقي، بينما يُعرِّفه المحدثون بأنه الكلام «الموقَّع» (من الإيقاع) الذي يميزه الإيقاع في أبنيته الخمسة (لغة وصورة وفكرة وتجربة شعرية وموسيقى). ويدخل في موسيقى الشعر فن البيان، من تشبيه واستعارة وكناية... كما يدخل في الموسيقى فن البديع من تورية وجناس ومطابقة وتقابل... فالشاعر المجيد هو الذي يختار اللفظة والعبارة والصورة.
والأمر الأكثر أهمية فهو التميّز، وهو نجاح الشاعر في إيجاد الصلة بين العمل الأدبي وبين القارئ، وهو التعريف الأخير للأدب، وهو أمر يتعلق بالتجربة الشعرية. وأذكر في هذا المقام طرفة هي أن جماعة من البادية خاضوا في تعريف جمال المرأة، فذكر كل واحد تعريفه الخاص، فمن قائل إنها «هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة لا يُشتكى قصر منها ولا طولُ»، ومن قائل بأنها البيضاء الفرعاء متناسقة الأعضاء اللّعوب العروب... وهكذا دار الحديث في المجلس حتى وصل إلى بتول فإذا به يعرف المرأة الجميلة بأنها التي إذا رآها شخص «شعر بأنه رجل» (وعبارة نابية لا يليق بنا روايتها).
إن الصلة بين النص والمنصوص له، في أي عمل إبداعي داخل سياج التجنيس أو خارجه، هي التي تفرض نفسها من خلال الهزة أو الرعشة التي تصدر تلقائياً انفعالا متأثرا بالنص أو فاعليته على السواء.
إن هذه الصلة ذات جذور في التاريخ الإنساني والتاريخ الأدبي على مر العصور، فالنص الأدبي عبارة عن موصل كهربي مغناطيسي ليتصل النص بالمتلقي أو القارئ، ولا بد من وقفة جمالية لشرح هذه الفكرة، فلقد خضع الشعر العربي القديم لسلطة المتلقي، بل إن البلاغة العربية ابتداء من صحيفة بشر بن المعتمد وانتهاء بدلائل إعجاز عبدالقاهر الجرجاني ومنهاج بلغاء وسراج أدباء القرطاجني، فالشعر الجيد والنثر الجيد هو الذي يلفت انتباه القارئ بما يحمل من ظلال ومفارقات ـ بحسب «لانسون»، وصدر عن ذلك عبارات تأخذ شكل المصطلح الذي من شأنه التحديد أو «التقييد» عبارات مثل: «لكل مقام مقال»، «مقتضى الحال»، «الإيجاز»، «الإطناب»... بل صدرت كتب بعنوانات تراعي المتكلم أشبه ما تكون بإعلان البضائع عبر وسائل الاتصال، مرئية ومسموعة: «العمدة في صناعة الشعر ونقده»، «الموازنة بين الطائيين»، «عيار الشعر»، «صناعة الشعر»، «نقد الشعر»... وهكذا.
إن نجاح الشاعر يكمن في إيجاد الصلة بين النص وبين المتلقي، وهو فيما يبدو آخر تعريف لمفهوم الأدب، وبدون هذه الصلة لا يمكن أن نطلق على أي نص بأنه أدبي، ويمكن أن نقارب بين هذا المفهوم ومفهوم التجربة الشعرية بعض المقاربة، إن لم يكن المفهومان متطابقين، فكلاهما توصيل للفكرة على نحو ما.
إن التجربة الشعرية هي مجرد توصيف للانفعال الصادر عن هذه الصلة التي تحدث هزة كرعشة تحدثها كهرباء النص!
لقد خضع الشعر العربي، القديم بخاصة، لسلطة المتلقي، إلى درجة الذُّل. وليس هذا الأمر وحسب، وإنما أصبح ما يسمى السلطان هذا ينتج معطيات ثانوية تدعم فكرة السلطان الأكبر، مثل «مراعاة مقتضى الحال»، «لكل مقام مقال»، «حسن الإفهام»... فالشاعر المجيد هو الذي يتمثل الموقف النفسي والموقف الواقعي زماناً ومكاناً للمخاطب، باعتبار فهم هذه الأمور موجهات لإنتاج الصلة أو التجربة الشعرية، فهذا الأمير الأموي يشكو عينيه، فينشده ذو الرمّة:
ما بالُ عَينِكَ مِنها الماءُ يَنسَكِبُ
كَأَنَّهُ مِن كُلى مَفرِيَّة سَرِبُ
يقول: لماذا دموعك الغزيرة ما تنفك تسيل كما لو كانت تتسرب من كلى مثقوبة؟!
وبما أن الشاعر ابن بيئته، فإنه يكون أكثر حساسية إزاء ما يدور فيها من أحداث. ولأن التعبير عنها وإعادة صوغها بما يناسب استعطاء رزقه، بخاصة إذا كان شاعراً له مكانته؛ فهذا الأخطل، الذي رشحته قريحته ليكون شاعر الأمويين، يدرك الخلاف بين أبناء الصحابة وبني أمية، والذي كان مداره اعتبارات اقتصادية في المقام الأول، يذم أبناء الأنصار منطلقاً من حيث العصبية العرقية، فيقول منحازاً للعصبية العربية التي ينتمي إليها البيت الأموي:
ذهبت قريشٌ بالمكارم والعلى
واللؤمُ تحت عمائم الأنصارِ

ولا بأس أن يختص شاعر بفريق سياسي، كأي إعلامي في عصرنا الحاضر، ومعنى ذلك أن هذا الشاعر يستطيع من خلال هذا الاختصاص أن يوفر المعنى المناسب والمُلابس لهذا الممدوح أو ذاك، فللسياسة شعراء، وللخوارج شعراء، وللشيعة شعراء، وقل مثل هذا للأغراض الشعرية، كالغزل والزهد والمجون والطبيعة.
وفيما الفريقان مكامن القوة يظهران بمظهر الإخوة المغلوبين على أمرهم، فإن ابن أبي حفصة قد أدرك الصراع الذي لم يعد خفياً بين الأسرتين الهاشميتين، علويين وعباسيين، بينما تظل العين الفارسية على طريقة مثلى من اليقظة والانتباه، ترصد حركتي الضعف والقوة، لتثأر من هؤلاء القوم الذين أسقطوا علم فارس من تاريخ قريب، على أن يشمخ من جديد، فيصدح لسان مروان ابن الخلافة.
لقد حاول بعض النقاد، وانطلاقاً من إمكانية التغيير والتحديث، النظر في مفهوم البلاغة العربية في ثوبها القشيب، ابن الخولي ومصطفى ناصف، الأول في «تجديد البلاغة» (انظر في مجلة المجمع اللغوي، دائرة المعارف)، والثاني في «نحو نظرية ثانية».
من الملاحظ أن هناك ما يشبه العقد الاجتماعي بين الشاعر والمجتمع، فهو لسان القبيلة والمدافع عن هويتها ويقوم بالسفارة عنها وضد أي من ينال منها، معلقة عليه عينه في مجالس الأنس والطرب... وعندما تسافر الأشعار في الأمصار رحلة أبي تمام إلى سيف الدولة وأبونواس، والسفر إلى الداخل من حدائق الخليفة إلى بغداد إلى بغداد كان على الشاعر مراعاة موقف المخاطب، يستوي هذا الأمر في «قلعة حلب» بلاط سيف الدولة، وفي «دار الناصر» بلاط الإمام أحمد حميد الدين.
لقد درجت العادة أن يكون الشعراء ضمن ديكور السلطة على نحو ما، بل أن جوقة الشعراء تعد ضمن صيغ كثر تمنح الحاكم شرعية الاستيلاء على السلطة أو دوام البقاء فيها، فالبلاط الأدبي بمثابة البرلمان المفوض الذي يمنح الحاكم خلافة الله في الأرض، وأصبح الشاعر بمثابة فقيه أو على الأصح بمثابة المفتي الشرعي الذي يمنح السلطان البيعة الشرعية ليكون أميراً للمؤمنين، عالمهم وجاهلهم على السواء، فالخليفة وكيل الله في الأرض، والشاعر جهاز إعلام هذا الوكيل.

أترك تعليقاً

التعليقات