المنطقة العربية بين صفيحين
- أمين العباسي الثلاثاء , 4 مـارس , 2025 الساعة 2:30:36 AM
- 0 تعليقات
أمين العباسي / لا ميديا -
يتقاطع في المنطقة العربية صفيحان، أحدهما ساخن جداً، والآخر بارد وأقرب إلى الجليد. صفيح الغرب الحار بقيادة أمريكا، وعمقه «إسرائيل»، وصفيح الشرق البارد بقيادة روسيا عسكرياً والصين اقتصادياً، دون عمق واضح أو علاقات متينة من أي نوع في المنطقة.
عملياً، تقع المنطقة العربية تحت هذين الضغطين أو التأثيرين القويين. وعلمياً فإن الحرارة والبرودة الشديدتين المؤثرتين على بنية معدنية معينة، تؤديان إلى تهشيم المرتكزات الأساسية لتلك البنية، وهذا ما نخشى أن يتم في منطقتنا ذات البنيان الهش اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
ترامب يعمل ما في وسعه لإخضاع المنطقة بصورة أو بأخرى لصالح «إسرائيل»، بإجراءات وأدوات ممنهجة، ورثها عبر عقود من الفعل والنشاط الأمريكي الحثيث لصالح الربيبة العبرية، وهو اليوم يسابق الضوء في مضاعفة تلك الإجراءات والأدوات لتحقيق أعلى قدر من النتائج والأهداف والمصالح العليا لكيانه الأمريكي وعمقه «الإسرائيلي» على السواء.
في الطرف المقابل لا يبدو أن رد فعل عملي قد لاحت معالمه في الأفق عند الصين والروس. أبرز دليل ما تم في سورية، الحليف الاستراتيجي لروسيا، إذ ذهبت أدراج «الناتو» دون أي رد فعل موازٍ ومكافئ من قبل روسيا؛ إلا إذا كانت الأخيرة موعودة بترك الفرصة لها لبسط نفوذها على أوكرانيا، في معادلة شبه واضحة، أو قل ضبابية إلى حد، ربما لا تتحقق، كون الطرف الآخر في تلك المعادلة غير مأمون الجانب نهائياً، ولنا في التأريخ عبر وعظات.
تسعى الإدارة الأمريكية الحالية بقيادة ترامب وجوقته الانتهازية الشرسة إلى السيطرة على ما تبقى من موارد العالم المتاحة، ولو بالتهديد والرعب وإقلاق العالم وعداً ووعيداً، والأكثر من ذلك مطالبة الحلفاء وأنصاف الحلفاء بالتعويض على الخدمات الأمنية والحماية التي لم تقدمها أمريكا لتلك البلدان إلا حبراً على ورق طيلة عقود.
هذا السلوك الانتهازي لإدارة ترامب يعبر عن منعطف وتطور أكثر خطورة في النظرية الرأسمالية يؤصل لنظرية انتهازية متكاملة الأركان راسخة البنى إلى حد كبير، فهي من ناحية تعلن نهاية عصر الحروب نظرياً، بينما تؤسس لحروب إقليمية مختلفة قد تشكل روافد لحرب عالمية جديدة.
من ناحية ثانية تسعى هذه النظرية والإدارة الأمريكية المتبنية لها شكلاً ومضموناً وأدوات إلى تفكيك عرى النظام الدولي التقليدي القديم، وتفكيك أي فضاء لأي قطب مضاد يمكن أن ينشأ مناهضاً للقطب الرأسمالي المتسيد الساحة العالمية من زمن ما بعد الحرب الباردة وحتى اللحظة، وهو يحاك حالياً ضد مجموعة البريكس من قبل قيادة القطب السائد بزعامة أمريكا وإدارتها الصاعدة «الماتادورية» الهائجة.
تحرص إدارة ترامب (الانتهازية الخالصة الجديدة) على العمل في فضاءات ومسارح عدة ومختلفة، تحقيقاً لأهداف أكثر انتهازية وأعمق استغلالاً، بعضها معلن وأخرى مضمر، متوارٍ، وأغلبها مغلف بأقنعة ملونة، ظاهرها الرفاه وباطنها الجحيم. عربياً تركز هذه الإدارة على الولوج عملياً إلى ساحة «الشرق الأوسط الجديد»، من خلال أدواتها المهيأة لها سلفاً، ضمن عدة أدوات، أبرزها السعودية وقطر والإمارات، وهي عبارة عن «كانتونات» اقتصادية، أو بالأحرى خزانات طبيعية لوقود الطاقة اللازمة للغرب وتشظياته الاستغلالية، توازياً مع استبعاد أو تحجيم دول ذات حضور وثقل إقليمي يعتد به على أكثر من مستوى؛ تاريخي، سياسي، اقتصادي، جغرافي، سكاني... وغيره، مثل مصر والجزائر والعراق، وهذا سهّل على مختلف الإدارات الأمريكية المتعاقبة العبث بمقدرات وإمكانيات المنطقة والاستهتار بشعوبها وكافة مضامينها التكوينية.
في الرياض، تعمل إدارة ترامب لجعلها مركزاً ذا سمعة وحضور عالمي؛ ليس حباً فيها، بل استهدافاً لمزيد من استغلال الموارد الطبيعية وحتى السيولة النقدية؛ كون السعودية تحتكم على أعلى حجم من السيولة النقدية في مجموعة العشرين، بحسب تقارير الرقابة والتقييم لمؤسسات مالية عالمية، وهذه المجموعة نشأت -أصلاً- لغرض ردم فجوات التمويل التي قد تحدث لدى مؤسسات الاستثمار والتجارة والصناعة الغربية، وبالذات الأمريكية منها.
خط آخر تركز أمريكا ترامب على اللعب مع السعودية به، هو خط الاستثمار في مجال التعدين، الذي أعلنت عنه الأخيرة في مؤتمر خاص بهذا الغرض، إضافة إلى منتدى «دافوس» الاقتصادي، عرضت فيهما السعودية رؤيتها وبرنامجها القائم على الاستثمار في هذا المجال في ما يقارب مائة ألف موقع حقلي معظمها في الجنوب، وبتكلفة استثمارية تصل إلى تسعة تريليونات دولار خلال عشر سنوات، وهذا ما أسال لعاب ترامب وفريقه. أضف إلى ما سبق المحاولات الأمريكية الحثيثة لتجديد اتفاقية «البترو دولار» مع السعودية، التي أنجزها كيسنجر في سبعينيات القرن الماضي.
والواقع أن صقور الصقور داخل البيت الأبيض وخارجه في سباق مع الزمن لتفكيك واقع العالم الحالي، وبناء واقع عالمي جديد يدين بالانتهازية ويؤمن بفلسفة الفوضى واللامسؤولية، يخاتل العالم وينهب مقدراته.
في السياق العربي، لا يمكن لأي بلد أن يأمن ويواجه مكر الانتهازيين الجدد في أمريكا بمفرده، وبالذات السعودية، إلا ببناء عمق استراتيجي واسع أساسه وحدة العرب، وسقفه الأمن القومي العربي، ومن وراء ذلك حصن إسلامي رافد.
المصدر أمين العباسي
زيارة جميع مقالات: أمين العباسي