د. أحمد عبدالله الصعدي

د. أحمد عبدالله الصعدي / لا ميديا -

ستكون ملحمة الصمود التي يجترحها الشعب اليمني في وجه تحالف العدوان والغزو والاحتلال، التي تطوي عامها الخامس هذه الأيام، مادة ثرية ومثيرة للدراسات والتحليل، بغية معرفة عوامل وكيفية حدوثها، واستخلاص الدروس والعبر على أساس إدراك مصادر وأسباب القوة ومكامن الضعف، وهو ما سيتطلب بالضرورة إعمال العقل والطرق العلمية بهدوء وبأعصاب باردة، لأن العواطف لا تنتج في هذا الشأن إلا أفكاراً واستنتاجات تدغدغ المشاعر وتلبي الرغبات بتجاهل الوقائع، وحتى لا تتحول أسباب وعوامل صمود شعبنا إلى ألغاز وأحجيات وأساطير تقلل من التضحيات الجسيمة التي بذلت، والتي تشهد عليها شواهد كثيرة، أبرزها روضات الشهداء وآلاف الجرحى.
مما لا شك فيه أن اليمن لم يتعرض في أية مرحلة من تاريخه إلى عدوان غاشم ذي أخطار وجودية كالذي يتعرض إليه اليوم، وأن أحدا لم يكن يتصور أن يبدي الشعب اليمني المقاوم هذا القدر من العزيمة والكرم في بذل التضحيات واحتمال المعاناة، وأن يقف على قدميه وينتصر، وذلك بالنظر إلى الفارق الهائل في موازين القوى في كافة مجالاتها.
وعندما نتأمل -نحن المواطنين- في كنه ما حدث ويحدث، لا نملك أي تفسير لصمود الجيش واللجان الشعبية والشعب من خلفهم، وتحملهم من قسوة الظروف ما هو فوق قدرات البشر على تحمله، إلا بالعودة إلى الطاقات الروحية (أعني بالروحي في هذا السياق نقيض المادي).
هذه الطاقات الروحية والذخيرة المعنوية هي قوتنا الجوهرية التي تتفرع عنها كل أسباب المنعة، وهي تتأسس على الإيمان، الذي لا يمكن أن يكون عميقا وصادقا من غير أن ينظم في سلّم متماسك واحد سائر القيم، ومن أهمها قيمة الوطن وقيمة الحياة، وأن يصيغ ويضبط قواعد السلوك والتصرفات على مستوى الفرد أو الجماعة. وهذا ما كان يشير إليه باستمرار الرجل الممسك بدفة القيادة في هذه المعركة الوطنية المصيرية، قائد الأنصار، في خطاباته وأحاديثه، منذ بدء العدوان. أما في آخر خطاب له فقد بلغ إدراكه لقدرة وأهمية السلاح المعنوي، الذي لُبه الإيمان، مستوى الثقة واليقين.
ففي خطابه بمناسبة جمعة رجب، مساء الجمعة 28 فبراير 2020، وبعد أن أكد أن الإيمان بمفهومه القرآني الصحيح وبمنظومته الكاملة عنصر خلاص وحرية، وعامل أساسي ورئيسي لتماسك الأمة ولمواجهة التحديات والأخطار وتصحيح وضعيتها وإنقاذ نفسها، وأن استفادتنا الكبيرة منه هي التي مكنتنا من مواجهة العدوان الأمريكي السعودي الإماراتي "الإسرائيلي" الغاشم، قال: "عندما نعود إلى أهم عامل لتماسك شعبنا في مواجهة هذا العدوان بالرغم من حجم هذا العدوان، أقول لكم بكل ثقة، بكل يقين: إن أهم عامل هو الانتماء الإيماني، وما بقي لنا في هويتنا الإيمانية، ما بقي لنا من آثار إيجابية معنوية ونفسية وعملية، من أثر على المستوى الاجتماعي، هو الذي مثل عامل قوة، هو الذي جعلنا نطمئن ونثق بالله -سبحانه وتعالى- ونعتمد على الله -سبحانه وتعالى- كشعب في مواجهة هذه التحديات وهذا العدوان، بالرغم من هذه الظروف الصعبة".
للمرة الأولى يكون هذا التأكيد "بكل ثقة، بكل يقين" من الرجل الذي يقف في لجة المعركة على كون سلاح الإيمان هو السلاح الأقوى والأمضى والأفتك ومنه تصنع البطولات في ميدان المعارك، وتأتي إنجازات التصنيع العسكري ومهارات استخدام السلاح على تواضعه، وإرادة القتال الفولاذية، ونجاحات الأجهزة الأمنية، وعطاء وصبر ذوي الشهداء، والجرحى والأسرى.
وإذا كان للسلاح المعنوي هذه الأهمية الفريدة والدور الحاسم في التصدي للعدوان ودحره، فإن ضرورة صيانته ومضاعفته هي ضرورة حياتية ومصيرية. وهذا يتطلب أموراً كثيرة، منها -كما يبدو لي- الحرص على وطنية المعركة، بمعنى أن الدفاع عن الوطن اليمني مسؤولية كل أبناء اليمن وواجبهم، وتكريس هذا الخط والموقف في الخطاب السياسي والإعلامي، وفي الحوارات والمواقف، والنظر بأفق سياسي واسع إلى كل مشكلات اليمن، بما في ذلك تنوع قواه الاجتماعية والثقافية. ولأن قوة وفاعلية الإيمان تأتي من صدق المؤمنين، الذين يبرهنون على صدق إيمانهم بما يتحلون به من قيم حاكمة لسلوكهم وتجعلهم مصدر جذب للناس بالمصداقية وحدها، فلا بد من الانتباه إلى نمط آخر ممن يسمون أنفسهم "مؤمنين"، لأن الناس يقارنون بين الأقوال والأفعال، وقد منحهم الله الأبصار والبصائر وملكة الحكم.

أترك تعليقاً

التعليقات