الحضارة القرآانية
 

يحيى اليازلي

يحيى اليازلي / لا ميديا -
لفت نظري قول الله في القرآن الكريم "لكن الذين اتقوا ربهم لهم غرف من فوقها غرف مبنية تجري من تحتها الأنهار”، إلى أن هذا الإخبار عن كيفية شكل المباني في الجنة أصل فكرة البناء وأشكال البناء في الدنيا.. ثم فكرت أن ذلك ينطبق على كل أشكال الحضارة في الدنيا مأخوذة من آيات القرآن التي تصف الجنة بكل مكوناتها.. وهذا ما جعلني أكتب هذا المقال تحت عنوان "الحضارة القرآنية”.
وقلت هذا المقال لأني أكتبه من خلال ما أتذكر من ذاكرتي من القرآن لأني لم أرد أن أجعله بحثا أو مبحثا.. ليس اعتباطا ولكن تعمدا بعناية، ولو شئت لاعتمدت على المصحف في اختيار الآيات المتعلقة بالموضوع.. لكن لا أريد أن يطول، وفقط سأعطي فكرة، وعلى القارئ -إذا أراد- العمل على تحقيقها حين يطلع على المصحف ومطابقتها في الواقع.
أتذكر الآن من القرآن قصة ذي القرنين وبنائه السد، وكذلك قول فرعون "فأوقد لي يا هامان على الطين فاجعل لي صرحا”.. وذكر القرآن الحضارات القديمة "إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد وثمود الذين جابوا الصخر بالواد.. وفرعون ذي الأوتاد”.
ضمن قصص ثمود وصالح ذكر أنهم كانوا يتخذون من الجبال بيوتا ويبنون في كل ريع آية يعبثون ويتخذون مصانع لعلهم يخلدون.
فبهذه الطريقة يعلم القرآن الناس البناء من الذين قبلهم في الدنيا من ناحية، ومن ناحية أخرى يعلمهم البناء من وصفه للجنة في الآخرة.
أتذكر الآن قصة صاحب الجنتين في سورة الكهف، الجنتين اللتين وصفهما الله بقوله: "واضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما نهرا”.. هذا الوصف كان أنموذجا في قمة الدقة لكيفية بناء المزارع بحيث تكون جنتين من أعناب محفوفتين بالنخل حواليهما ويتخللهما نهر.
أتذكر الآن قوله تعالى لداوود "أن اعمل سابغات وقدر في السرد”.. في هذه الآية يعلم القرآن الناس كيفية صناعة الأسلحة.. ويليها آية يقول تعالى فيها: "ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر"، وفيها يعلم الله الناس صناعة الطائرات.
وبعد ذلك يتحدث عن الجن الذين يعملون مع سليمان بقوله: "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات”.. وفي هذه الآية كيفية بناء المحاريب كدلالة على وجود مساجد، وذكر التماثيل للدلالة على شرعية التوثيق التاريخي من جهة وشرعية الإبداع والفن الفكري الإنساني.
الجفان هنا وصف عملية تصنيع الأدوات المنزلية، وقد تكون للجفان أغراض أخرى حربية مثلا.. ولا أفهم معنى قوله "وجفان كالجواب"، لكني أعتقد أن قوله "وقدور راسيات"، يقصد بها المعامل العملاقة التي يتم بها صناعة المواد الضخمة ويتم فيها صهر الحديد والنحاس.. ولذلك جاء قبل هذه الآية ذكر النحاس في قوله "وأسلنا له عين القطر”.. وقبلها جاء ذكر "وألنا له الحديد" متحدثا عن داوود.
إن قصة صناعة نوح السفينة نقلت المجتمع الإنساني من حالة العيش في البرية إلى حالة حضارية أكثر تقدماً، وأتاحت له فرصة الحياة في البحر والاستفادة من هذه النقلة النوعية في التنقل بين القارات للتجارة وفي استغلال موارده من الأحياء البحرية والمرجان وغيره.
لقد علم القرآن الإنسانية كيفية ترويض الحيوانات والاستفادة منها في المأكل والمشرب والملبس والتنقل كالنحل والبقر والغنم والخيل والحمير.. واستفدنا من قصة النمل وكل قصص القرآن كيف أمكن التخاطب مع النمل والطير والجن.
وعلى صعيد التجارة هناك آيات كثيرة تعلم الناس أساليب العمل في المجال التجاري من سورة قريش وسور أخرى غيرها.. وكل تلك في معرض الحديث عن الأمم السابقة.
من أهم ما علم القرآن الناس من أساليب التحضر من حديثه عن الجنة ووصف ما فيها من أشياء.. الأنهار التي لا توجد آية تذكر الجنة إلا ووصفت أن تحتها تجري الأنهار.. ومن ذلك وصفه الأواني في قوله "آنية من فضة"، وذكر الملبس من سندس والحلي من أساور.. والأسرة في قوله "على سرر موضونة" وكيفية ترتيبها فقال "على سرر متقابلين”.. وذكر الأرائك وذكر المطاعم وشكل الخدمة "يطوف عليهم ولدان مخلدون”.. وطريقة طلب الاحتياجات والاستغناء عنها "دعواهم فيها سبحانك اللهم وتحيتهم فيها سلام وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين”.
في كل قصة قرآنية فائدة حضارية لا بد أن الإنسانية أخذت بها في تطوير نفسها.. وفي قصة يوسف معارف كثيرة في الاقتصاد والبناء والزينة.. وفي الإجراءات الجنائية.
في سورة الرحمن، هذه السورة التي تحمل اسم الله الأعظم إذا جاز التعبير، وإلا فهي سورة الله وسورة الربوبية، ويمكنني القول إنها سورة الميزان بامتياز، لشواهد كثيرة تدل على ذلك. كل أوصاف الجنة التي ذكرها الله في السورة هي أسس ومحددات وخرائط ومعادلات بناء الحضارات في الدنيا، ابتداء من رفع السماء ووضع الميزان. وهذه الأخيرة هي أجندات وفيها قوانين الدنيا والآخرة لإيصال المجتمعات الإنسانية إلى حالة متقدمة من العدل الاجتماعي وحقوق الإنسان والحيوان وما يحافظ على البيئة والغلاف الجوي والقشرة الأرضية ومياه المحيطات والأنهار والآبار والأمطار، ووضع محددات زراعة الأرض وبالقدر الذي يجعل منها جنة بالنخل والفاكهة والحب والريحان... ووصولا إلى قوله تعالى: "رب المشرقين ورب المغربين". في هذه الآية قال الباحث محمد العابد إن في قوله تعالى: "رب المشرقين ورب المغربين" إن هذه أسس اكتشاف مداري الجدي والسرطان. وبالمثل إن قوله تعالى: "ولله المشرق والمغرب" أساس اكتشاف خط الاستواء، وقوله: "فلا أقسم برب المشارق والمغارب" هي أسس ما يسمى بخطوط الطول.
ثم قال تعالى: "مرج البحرين يلتقيان بينهما برزخ لا يبغيان". أعتقد أن في هذه الآية محددات وأبعاد علوم العالم الغيبي المقترن بالعالم المادي، أي أن ثمة علاقات وقوانين تحكم العالمين الميتافيزيقي والمادي. وهنا تكمن نواميس ذلك العلم. ثم يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان. هنا أسس حضارة العالم البحري والاصطياد، إضافة لما ورد في قصة أهل السبت، وفيها قوانين اصطياد الأحياء البحرية.
كما ذكرت السورة "الجواري المنشآت في البحر كالأعلام"، ثم ذكرت "يا معشر الجن والإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السموات والأرض فانفذوا لا تنفذون إلا بسلطان". في هذه الآية نبه الله الناس أن بإمكانهم الصعود إلى السماء والاستفادة من ذلك الصعود في ما يطور حضاراتهم ويساهم بشكل كبير في رفاهية شعوبهم وإعداد قوة ورباط خيل بالمعنى العلمي وإرهاب أعدائهم وأعداء الله، ولكن ذلك لن يتم لهم إلا بسلطان. والسلطان هنا هو العلم. لذلك على الناس أن ينطلقوا من هذه الآية في تطوير قدراتهم العلمية للصعود إلى الفضاء..
ثم يقول تعالى في سورة الرحمن: "يرسل عليكما شواظ من نار ونحاس فلا تنتصران". وخطابه هنا للجن والإنس، مما يفيد ويعزز فكرة هي نبوأة أن الإنسان سيصعد الفضاء. وفي قوله: "شواظ من نار ونحاس..." فكرة لتصنيع الصواريخ التي عادة ما يتم تصنيعها من النار والنحاس.
"يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام"، هنا يكمن علم الجنايات واكتشاف المجرمين من خلال سيماهم، وسيماهم هنا غير مقتصرة على الملامح، وإنما هناك ما يمكن أن يدل على المجرم من خلال علامات في ناصيته وأقدامه قد تكون البصمة وأشياء أخرى احتمال أن العلم قد اكتشفها واحتمال أنها ستكشف في المستقبل.
هناك علوم جمة في سورة الرحمن، وتليها علوم كثيرة في سورة الواقعة، والقرآن مليء بما يؤكد أن كل الحضارات الإنسانية القديمة والجديدة أساسها قرآني ولذلك يمكننا بحق أن نطلق عليها الحضارة القرآنية.
إن الحديث عن كتاب هو خلاصة الكون صورا وذكرا وخلاصة كلام الخالق إرشاداً وفكراً، لا يمكن أن يكون غير القرآن، لأنه يتضمن كل الكتب المقدسة السابقة بين دفتيه، أو بين سورتيه الفاتحة والناس، وحري بنا الاهتمام بمعرفة ماذا يكمن بين سطوره، فيه علم الدنيا والآخرة وعلم ما قبل الدنيا وما قبل الآخرة، وتندرج تحته كل النظريات المعرفية، بل أنها انبثقت منه، ما من فلسفة وعلم إلا ولها وله منه جذور، الصين والهند والفرنج والفرس والروم واليونان والفراعنة وسبأ وثمود وعاد، وكل ملة ونحلة ستجده يخبرها بأصولها وفصولها وأخطائها وصوابها، الإنجيل والتوراة والزبور وصحف إبراهيم وموسى ووصايا حمورابي والوصايا العشر وتعاليم بوذا والهندوس فيه.
إن المجتمعات الأوروبية والدول المتقدمة علميا في القارات السبع يرصدون مليارات الدولارات لينفقوها في الأبحاث العلمية، ومن ضمنها ومن أهمها وعلى رأسها أبحاث في علوم القرآن الكريم، وإن كانوا لا يظهرون ذلك إلا أنهم يستمدون الحلول لأعصى مسائل العلوم ويبتكرون القوانين من القرآن.
ونحن المسلمون نعرف ذلك ومع ذلك ليس لدينا مركز أبحاث واحد متخصص في علوم وأبحاث القرآن الكريم، بالشكل الذي يجعلنا ننافس ونتفوق على تلك الدول في التقدم العلمي، وليس بالشكل الذي يبديه بعض الدجالين للعوام كحكايات أبحاث الإعجاز في القرآن، التي يستمدونها من اكتشافات الغرب ثم يبحثون لها عن مصادر في القرآن.
نحن بحاجة لإعادة قراءة القرآن والبحث في كنوزه وخباياه وعطاياه وكوامنه والغوص في آياته وأحزابه وأجزائه ومعانيه، والتأمل فيه بعقول نظيفة وقلوب طاهرة، والنظر إليه بعيون حية والإصغاء إليه والإنصات له بحواس شفافة وحساسة.
ألا ننظر إلى أهمية قوله تعالى: "أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم"؟! والعاقبة هنا لاستكشاف الآثار والبناء عليها علمياً وثقافياً، وقوله: "ألم تر كيف فعل ربك بعاد"، وقوله: "ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل"... أليس يدعونا للتفكر في كيفية صناعة طائرات حربية قاذفة؟! وقوله: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم لجعل الشمس عليه دليلا". هذه دعوة لمعرفة ما الذي خلف طاقة الظل من طاقات، ذلك وكل الآيات التي تدعو إلى النظر والرؤية والتفكر والتأمل هي آيات بالتأكيد دعوة لاستكشاف العلوم التي تبنى بها الحضارات. يا رجل في قصة سليمان وداود وذي القرنين علوم لا حصر لها، ابتداء من المقلاع والدرع والقدور الراسيات وانتهاء بالريح التي منها أوصلتنا إلى الطائرة، الريح بالمفهوم العلمي والحضاري وليس بالمفهوم الخرافي الذي يجعلك تتخيل سليمان وكأنه يصعد على السجادة لتحمله الريح وكأنه ساحر (حاشاه).

أترك تعليقاً

التعليقات