حسني محلي

حسني محلي / لا ميديا -
خلافاً لما يُقال ويُروّج، فإن السلطان سليم، الذي دخل إلى سورية بعد معركة "مرج دابق" في 24 آب/ أغسطس 1516، ومنها إلى القاهرة في 22 كانون الثاني/ يناير 1517 بعد معركة "الريدانية"، لم يستخدم لقب "الخليفة" أبداً، واكتفى بلقب "خادم الحرمين الشريفين"، بعد أن سلمه أشراف مكة مفاتيح الكعبة.
وخلافاً لما يُقال ويُروج أيضاً، فإن معظم السلاطين العثمانيين لم يستخدموا لقب "الخليفة" في مراسلاتهم الرسمية أو أحاديثهم اليومية، باستثناء بعضهم، ومنهم السلطان أحمد الثالث، الّذي وقع عام 1727 اتفاقية الصداقة مع الملك الأفغاني أشرف خان، فأعلن نفسه خليفة المسلمين.
وكان السلطان عبد الحميد الأول قد وقّع على معاهدة السلام مع روسيا عام 1774، واستخدم صفة الخليفة رسمياً أيضاً، وهو حال السلطان محمد الثالث، الذي أمر يوم اعتلى العرش عام 1595 بقتل جميع إخوته الـ19، ومعهم أولادهم وجواريهم، حتى لا ينافسوه على السلطة، وهو ما فعله معظم السلاطين العثمانيين وزوجاتهم وأمهاتهم غير المسلمات، روسيات وبلغاريات وأرمن وأوكرانيات وصربيات وفرنسيات وإسبانيات ويهوديات.
واستخدم السلطان عبد الحميد الثاني لقب الخليفة، وخسرت الدولة العثمانية خلال فترة حكمه (33 عاماً) جميع ممتلكاتها في أوروبا والعالم الإسلامي، وفي قبرص أيضاً، التي أجّرها عبد الحميد لبريطانيا مقابل دفاعها عنه في وجه الخطر الروسي.
وشهدت دول عربية عدة، منها ليبيا واليمن والسودان ولبنان، تمرداً ذا طابع ديني ضد الحكم العثماني، كما تمرد بنو سعود ضده بدءاً من العام 1780، فاستنجد السلاطين العثمانيون بمحمد علي باشا، حاكم مصر، الذي أرسل نجله إبراهيم، فقضى على التمرد، وأسر عبد الله بن سعود، وأرسله إلى إسطنبول. وهناك، أمر السلطان محمود الثاني بقطع رأسه، كما أمر محمد بن سلمان بقطع رأس جمال خاشقجي، وهو من أصل تركي ومقرّب إلى أردوغان، في إسطنبول أيضاً.
كان هذا التداخل التركي السعودي المصري، وما زال، عنصراً مهماً في مجمل تطورات المرحلة اللاحقة في المنطقة، وخصوصاً بعد قيام الجمهورية العلمانية في تركيا (1923) وميلاد حركة الإخوان المسلمين في مصر بعد ذلك بخمس سنوات، ليكون ذلك بداية الصراع العقائدي في العالم العربي والإسلامي بين العلمانيين والإسلاميين، بتحريض واستفزاز من الدول الاستعمارية والإمبريالية والقوى الصهيونية والماسونية التي تغلغلت بين صفوف المثقفين في المنطقة بذكاء خارق، وخصوصاً بعد دخول بني سعود من جديد على الخطّ، بعد لقاء الرئيس الأمريكي روزفلت والملك عبدالعزيز بن سعود على متن المدمرة "كوينسي" في 14 شباط/ فبراير 1945، ولقائه (روزفلت) الملك فاروق قبلها بيوم.
بعدها، استنفرت الرياض كل إمكانياتها النفطية والبترودولارية والدينية والمذهبية خدمة للمشاريع الأمريكية، بما في ذلك قيام الكيان الصهيوني بعد هذا اللقاء بعامين، وقامت المدمرة الأمريكية "ميسوري" بعد عام من لقاء (روزفلت - عبدالعزيز) بزيارة إسطنبول في نيسان/ أبريل 1946، ليكون ذلك بداية التحالف التركي الأمريكي ضد التيار القومي العربي التقدمي المعادي للإمبريالية والصهيونية والرجعية العربية.
وجاء الردّ على هذا التحالف، بتشابكاته العربية والإقليمية (إيران في عهد الشاه)، بثورة 23 تموز/ يوليو 1952 التي تصدى لها الجميع في المنطقة، وفي مقدمتهم الرياض وأنقرة وعمان، أي بني هاشم، أعداء بني سعود تاريخياً، الذين يتهمهم الأتراك بطعنهم من الخلف بثورة الشريف حسين عام 1916.
هذا التداخل والتشابك التركي المصري السعودي اكتسب طابعاً جديداً بعد ما سُمي "الربيع العربي"، إذ أحالت واشنطن ملف الإخوان والحركات الإسلامية إلى بني عثمان، أي الرئيس أردوغان، الذي اعتقد أن هذا "الربيع" سيساعده على إحياء ذكريات السلطنة (ألغاها أتاتورك في تشرين الثاني/ نوفمبر 1922) والخلافة (ألغاها أتاتورك في آذار/ مارس 1924).
وكما كانت سورية بوابة التوغل التركي العثماني في المنطقة العربية بعد معركة "مرج دابق"، فقد أصبحت مرة أخرى بوابة أردوغان للانفتاح على المنطقة، من خلال صداقاته مع الرئيس الأسد بعد زيارته التاريخية لأنقرة في كانون الثاني/ يناير 2004.
ولم تمنع هذه الصداقة الرئيس أردوغان من التحالف مع مصر خلال حكم الإخواني محمد مرسي، ومع السعودية في ظل حكم بني سعود، للتدخل المباشر في سورية ودعم الفصائل المسلحة من أجل الإطاحة بالرئيس الأسد، الذي كان أحد أقرب المقربين إليه، فأعلنه من ألدّ أعدائه.
كان ذلك بمباركة ودعم مباشر من بني سعود، كما اعترف حمد بن جاسم، لتكون قطر "عرّابة" التآمر الإقليمي على سورية، ويساعدها ذلك على سحب بساط الحركات الإسلامية من تحت أقدام بني سعود وتسليمها بالبريد المضمون لبني عثمان، الذين يقول أردوغان إنه وريثهم الوحيد، فبايعته كل الحركات الإخوانية، المعتدلة والمتطرفة، بتشجيع من واشنطن، التي كانت طيلة 70 سنة ماضية يداً بيد مع الرياض (وأحياناً أبوظبي)، لدعم كل الحركات الإسلامية وفعالياتها السياسية والمسلحة في أفغانستان وباكستان والشيشان والبوسنة وكل أنحاء العالم، وحيث "القاعدة" و"طالبان" والمجموعات الجهادية الأفغانية التي كانت مدرسة لكل الإسلاميين المتطرفين عربياً وإسلامياً وعالمياً، فتحولت تركيا إلى مدرستها الجديدة، بعد أن بايع الجميع في السر والعلن الرئيس أردوغان مع بدايات "الربيع العربي" في مصر وتونس وليبيا وسورية واليمن والسودان والمغرب وفلسطين والعراق وأماكن أخرى، ما جعل بني عثمان وبني سعود في خندقين معاديين في العديد من الساحات المشتركة بينهما.
وقد دفع ذلك بني سعود وبني نهيان إلى دعم انقلاب السيسي والبرهان، والتصدي معاً للدور التركي في ليبيا والصومال ومواقع أخرى، إلا أنهم بقوا في سورية ما دام الجميع ضد الرئيس الأسد، رغم العداءات المعلنة بين أردوغان وكلٍّ من حكام السعودية والإمارات ومصر.
وكان لهم جميعاً دورهم في مسرحية المضحك المبكي، فدعوا أردوغان (حليف بني ثاني) إلى الكفّ عن دعم الإخوان، فاستجاب لهم فوراً، كما استجاب لـ"تل أبيب"، فأوقف دعمه لحماس أيضاً، من دون أن يقول له بنو سعود وبنو نهيان والسيسي سبب استمراره في دعم إخوان ليبيا وسورية، ما دامت واشنطن راضية عنهم جميعاً.
وقد ساهموا معاً، بدرجات متفاوتة، بعلم أو بجهل، في انتكاسات الإسلام السياسي، أولاً في مصر، ثم تونس، فالسودان والمغرب واليمن، وكل ذلك بفعل الانتكاسة المسلحة الكبرى في سورية، مع استمرار بني عثمان، بالتحالف مع بني ثاني، في دعمهم برضا بني سعود وبني نهيان والسيسي، وهذا الأخير وإن كان من دون لفظة "بني"، إلا أنه كان، وما زال، مفتاح كلّ هذه المعادلات وقفلها، لأن الإخوان ولدوا في مصر، وترعرعوا في السعودية، وتدربوا على القتل والإجرام في سورية والعراق.
ويبقى السؤال الأهم: إلى متى سيبقى الرئيس أردوغان حامياً للإسلاميين، سواء المعتدلون منهم أو المتطرفون، في سورية وليبيا؟ وهل يساعدهم لجمع شملهم من جديد بعد كل الانتكاسات التي لن تعني نهايتهم، ما دام الجميع بحاجة إليهم في المنطقة وأمريكا والغرب، وفي "إسرائيل" أيضاً، ولكلٍّ حساباته الخاصة به، كما هي الحال بالنسبة إلى الرئيس أردوغان الذي يخطط للاستفادة منهم لتحقيق أحلامه العقائدية والقومية والتاريخية، التي كادت تتحقق لولا بنو سعود وبنو ثاني و"بنو السيسي"، وهم في نهاية المطاف "في الهوى سوا"، تارةً مع الإسلاميين، وتارة أخرى ضدهم، وهم سبب انتكاساتهم، لأنهم للبيع والشراء دائماً، وأحياناً للإيجار لمن يدفع أكثر!

أترك تعليقاً

التعليقات