حسني محلي

حسني محلي / لا ميديا -

جاء إعلان الرئيس الأمريكي جو بايدن (الخميس) وقف الدعم الأمريكي للعدوان السعودي الإماراتي على اليمن، وتعيين تيم ليندركينغ مبعوثاً خاصاً إلى اليمن، ومطالبته بعد يوم واحد الكونغرس بإلغاء تصنيف جماعة «أنصار الله» منظمة إرهابية، ليحدد ملامح المرحلة القادمة لسياسات واشنطن في المنطقة الممتدّة من الشمال الأفريقي إلى أفغانستان وباكستان المجاورتين لإيران.
لم يعد الموضوع يحتاج إلى منجّم كي يقول لنا إن هذه المرحلة لن تكون ضد إيران، ما لم يقل أيضاً إنها انتصار لدبلوماسيتها طيلة السنوات الأربع الماضية، فعلى الرغم من كلّ ما فعله الرئيس السابق ترامب ضدها مباشرة أو من خلال سياساته في العراق وسوريا واليمن ولبنان، وأخيراً اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس، بقيت طهران صامدة ضد كل هذه الهجمات الخبيثة، وأهمها اتفاقيات التطبيع بين تل أبيب وكل من الإمارات والبحرين على الضفة الغربية من الخليج، ومعهما سلطنة عمان التي زارها نتنياهو، والسعودية معقل التآمر التاريخيّ.
ويرى الكثيرون في الصمود الإيراني مبرراً أساسياً لسياسات الرئيس بايدن الجديدة في المنطقة. هذا بالطبع إن كان صادقاً في أحاديثه عن «مرحلة جديدة من الدبلوماسية الأمريكية»، فالفريق الذي اختاره ليساعده في تطبيق هذه السياسة هو الأكثر دراية بالإمكانيات التي تملكها طهران، والتي قد تساعد واشنطن في مساعيها لحلحلة كل الأمور.
ويفسر ذلك قرار الرئيس بايدن وقف الدعم الأمريكي للعدوان السعودي والإماراتي على اليمن، كما يفسر ترؤسه (الجمعة) أول اجتماع لمجلس الأمن القومي، تم خلاله مناقشة مستقبل الاتفاق النووي الإيراني بوصفه أولوية، وهو ما يعني مناقشة كل مشاكل المنطقة بالتنسيق مع حلفائه الأوروبيين.
بمعنى آخر، إن الحوار الأمريكي المحتمل مع إيران هو سلّة متكاملة تضم خليطاً من المواضيع والقضايا التي لا يمكن للرئيس بايدن أن يحسمها إلا بالاتفاق مع طهران، إذا كان جاداً وصادقاً في نياته التي يتحدث عنها، فالعودة الأمريكية والأوروبية إلى الاتفاق النووي، رغم مناورات باريس الخبيثة، ستساعد واشنطن لمعالجة أهم مشكلتين معقدتين بالنسبة إليها، وهما العراق وأفغانستان، فلا حل لمشاكلهما إلا بالتنسيق والتعاون مع الجارة إيران.
كما يعرف الرئيس بايدن وفريقه الدبلوماسي والعسكري أن لا حلّ للأزمة السورية المعقدة إلا بالاتفاق مع طهران؛ شريك تركيا وروسيا في أستانا وسوتشي، فبعد الحديث المطوّل (الخميس) بين الوزيرين لافروف وبلينكن حول سوريا وليبيا وأمور أخرى، بات الأمريكيون يعرفون أنّ التواجد الإيراني في سوريا هو المعادلة الأصعب، لا بالنسبة إلى حساباتهم الخاصة بهذا البلد العربي فحسب، بل المنطقة عموماً، فالدعم الإيراني لحزب الله في لبنان عبر سوريا هو الهم الأكبر بالنسبة إلى «إسرائيل» التي لم يتّصل بايدن برئيس وزرائها نتنياهو حتى الآن، كما لم يرد على محاولات أردوغان ونتنياهو الاتصال به.
ويفسر ذلك عدم اتصال الوزير بلينكن حتى الآن بنظيره التركي جاويش أوغلو. وقد أصدرت وزارته بياناً شديد اللهجة ضد انتقادات واشنطن لأنقرة بسبب معاملتها السيئة لطلبة جامعة البوسفور في إسطنبول. ويتذكّر الجميع هنا مواقف بلينكن ورئيسه بايدن السلبية تجاه الرئيس أردوغان وتركيا التي حمّلها بايدن في تشرين الأول/أكتوبر 2014، ومعها الإمارات والسعودية، «مسؤولية المجموعات الإرهابية في سوريا، وفي مقدمتها داعش والنصرة».
يأتي ذلك في الوقت الذي تتذكر الأوساط السياسية مساعي الرئيس أوباما، في أول زيارة خارجية له إلى تركيا في 6 نيسان/أبريل 2009، لتسويق تجربة العدالة والتنمية وزعيمها أردوغان في الجغرافيا العربية والإسلامية عبر ما يسمى مشروع «الشرق الأوسط الكبير». وقد انتهى الأمر بالنسبة لواشنطن بالدور الذي أدته أنقرة في سنوات «الربيع العربي» في سوريا والمنطقة عموماً، وهو ما اعتبره أوباما ونائبه بايدن آنذاك خيبة أمل كبرى بالنسبة إليهما بعد امتداد «داعش» في المنطقة، كما لم يخفِ الأخير عدم ارتياحه إلى سياسات الرئيس أردوغان الداخلية، ووصفها بأنها «استبدادية ويجب وضع حد نهائي لها عبر دعم المعارضة».
قد تكون العودة إلى الاتفاق النووي والعمل على حل مشاكل المنطقة عبر البوابة الإيرانية أسلوباً أمريكياً آخر للانتقام من أردوغان وتواجده العسكري في سوريا والصومال وقطر وليبيا، وهو ما لن يكون سهلاً، وخصوصاً بعد فوز المقربين من أنقرة في انتخابات السلطة الانتقالية في ليبيا.
وجاءت اتهامات وزير الداخلية التركي سليمان صويلو لأمريكا (الخميس) «بالمسؤولية عن محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز/يوليو 2016 والانقلابات السابقة» لتزيد الطين بلة في مستقبل الحوار التركي ـ الأمريكي. ويبدو أنه سيبقى مؤجلاً إلى أن يبصر الرئيس بايدن النور في نهاية النفق المظلم، فيخرج منه وينجح في إغلاق ملفات المنطقة جميعاً، بما فيها مستقبل الخلافات الخليجية مع إيران بانعكاساتها على «إسرائيل»؛ الحليف الاستراتيجي والتقليدي لأمريكا.
إن واشنطن التي سكتت، ولأسباب عديدة، عن النووي الباكستاني (المسلم السني)، لا تريد للنووي الإيراني (المسلم الشيعي) أن يبقى مصدر قلق بالنسبة إلى «إسرائيل»، وخصوصاً مع استمرار تحالف أنظمة الخليج مع «تل أبيب»، على الأقل في هذا الموضوع.
وقد يدفع ذلك - ويجب أن يدفع - الرئيس بايدن إلى النظر للأمور نظرة شمولية، تعني أن المصالحة مع إيران صفقة متكاملة لن تحقق أهدافها إلا بالتوصل إلى حلول نهائية لكل الأزمات، وهو الاحتمال الذي سيجعل الأخيرة بوابة أمريكا الجديدة إلى المنطقة، بعد أن جربت في الماضي نظام بني سعود وباقي أنظمة الخليج ومن تحالف معها من الدول العربية والإسلامية، ومنها باكستان وتركيا.
هذا بالطبع إن كان الرئيس بايدن جاداً في أحاديثه، ويريد أن يترك بصماته في مستقبل الولايات المتحدة الأمريكية، التي لا حلول لمشاكلها الداخلية إلا بنهج عقلاني جديد يتطلب المزيد من الحوار الإيجابي والبناء مع جميع الأطراف، وبشكل خاص تلك التي تملك المزيد من الأوراق القوية، وهي في هذه الحالة إيران فقط، بعد أن سقطت كل الأوراق مع الأطراف الأخرى!
إذا كان هذا الوصف دقيقاً، فالأيام القليلة القادمة ستحمل في طياتها الكثير من المفاجآت للجميع، مادامت «إسرائيل» منشغلة بانتخاباتها، وأردوغان قلقاً من الموقف الأمريكي المحتمل ضده وضد تركيا، وبنو سعود لا ينامون الليل، خوفاً من أن يروا في منامهم ما فعلوه بجمال خاشقجي، ومادام بايدن قد أحال ملف جريمته إلى الكونغرس.
ويبقى الرهان على قوة التكتيك والاستراتيجية الإيرانية في مواجهة السيناريوهات المحتملة، التي تبدو مؤشراتها حتى الآن على الأقل إيجابية. وسيساعد ذلك القيادة الإيرانية لاستغلال هذا الظرف وتحويله إلى مكاسب عملية تعوضها، ومعها حلفاؤها في المنطقة، كل معاناتهم طيلة السنوات العشر الأخيرة بأدق تفاصيلها ومعطياتها الخطيرة التي كانت واشنطن سبباً مباشراً أو غير مباشر فيها في عهد أوباما وترامب.
والسؤال هنا: هل يفكّر الرئيس بايدن في إغلاق ملفات الماضي؟ وهل سيسمح النظام الأمريكي التقليدي له بذلك حتى تتفرغ واشنطن لقضايا أكبر داخلياً وخارجياً، أم أن كل ما نراه ليس إلا تكتيكاً أمريكياً تقليدياً اعتدنا عليه منذ الحرب العالمية الثانية؟
جوابي مع المعطيات الملموسة: هناك تفاؤل حذر، وما على طهران ودمشق وحلفائهما إقليمياً ودولياً إلا أن تتعامل مع الأمور بمزيد من الحنكة والذكاء السياسيين، وأن ترى الصورة من جميع زواياها، حتى يتسنى لها تحقيق الكم الأكبر من المكاسب، وهي ليست بعيدة المنال بالحكمة والفراسة!

باحث في العلاقات الدولية 

أترك تعليقاً

التعليقات