حسني محلي

حسني محلي- باحث علاقات دولية ومتخصص بالشأن التركي -

يقول الرئيس التركي إنه «سيدافع عن فلسطين إلى الأبد، كما فعل السلطان عبد الحميد"، ناسياً أو متناسياً أن كلّ ما قيل عن موقف عبد الحميد من فلسطين ليس صحيحاً بالكامل، فقد قدّم الأخير الكثير من التسهيلات والمساعدات لليهود، وسمح لهم بالهجرة إلى فلسطين.
منذ إعلان ما يُسمى "صفقة القرن"، أخذ الرئيس أردوغان يهدّد "إسرائيل" ويتوعَّدها، متهرباً من استهداف صديقه وحليفه الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الَّذي سبق أن هدَّده بتدميره وتدمير الاقتصاد التركي في حال هجومه على كرد سوريا.
وبعيداً من اتهامات المعارضة له بالمتاجرة بالقضية الفلسطينية من منطلقات عقائديَّة تنافسيَّة مع إيران، وعدم اتخاذ أيِّ موقف عملي في هذا الموضوع، سنكتفي هنا بالتذكير بالمحطات الرئيسية في مسار أردوغان من أجل القدس وفلسطين بعد استلام حزب العدالة والتنمية السلطة في بداية تشرين الثاني/ نوفمبر 2002.
قبل هذا التاريخ وبعده فوراً، زار أردوغان واشنطن، والتقى قيادات اللوبي اليهودي ومسؤولين أميركيين، معظمهم من اليهود، ومن بينهم بول فولفويتز وريتشارد بيرل، نائبا وزير الدفاع، وعاد إلى أنقرة ليدافع بحماسٍ عن ضرورة العمل المشترك مع أميركا خلال احتلال العراق في بداية آذار/ مارس 2003، وهو ما رفضه البرلمان التركي آنذاك. 
وجاءت مشاركته في قمة مشروع الشرق الأوسط الكبير في 8 حزيران/ يونيو 2004 لتضع أنقرة على طريق التنسيق والتعاون التركي الأميركي من أجل إعادة رسم خريطة المنطقة، مع مساعي واشنطن لتسويق تجربة حزب العدالة والتنمية في بلد مسلمٍ وديمقراطي وعلماني في دول المنطقة.
وكانت زيارة أردوغان إلى "إسرائيل" في الأول من أيار/ مايو 2005 بمثابة التحول الأكثر إثارةً في سياسات الرجل الَّذي استقبله شارون وقال له: "أهلاً بك في القدس، عاصمة إسرائيل الأبدية"، فلم يعترض عليه، وهو الذي تعرَّض آنذاك لانتقادات عنيفة جداً من زعيمه السابق نجم الدين أربكان، بعد أن اتَّهمه "بالتواطؤ مع الصهيونية العالمية وأميركا ومنظَّمات اللوبي اليهودي" إثر زيارته متحف ضحايا النازية.
ولم تتأخَّر رابطة مكافحة التشهير (ADL) اليهوديَّة الأميركية في منح الرئيس أردوغان وسام الشجاعة السياسية في 10 حزيران/ يونيو 2005، وسبقتها في ذلك منظَّمة المؤتمر اليهودي الأميركي (AJC)، التي منحته وساماً مماثلاً في 25 كانون الثاني/ يناير 2004. وبدأت بعد ذلك علاقات أردوغان مع منظّمات اللوبي اليهودي وتوطَّدت، والتقى قياداتها في أميركا وتركيا عشرات المرات حتى آخر زيارة له إلى أميركا في أيلول/ سبتمبر 2019.
وجاءت زيارة خالد مشعل إلى أنقرة في 15 شباط/ فبراير 2006 لتلفت انتباه الجميع، وخصوصاً بعد أن تهرَّب أردوغان من اللقاء به خوفاً من "إسرائيل" وأميركا، فاستقبله عبد الله جول في مقر الحزب، لا في وزارة الخارجية، وأوصاه بالتخلّي عن العمل المسلّح ضد "إسرائيل"، ولاسيما أنَّ الزيارة جاءت بعد فوز حماس في الانتخابات الفلسطينية.
ولم يتأخّر أردوغان في دعوة الرئيس بيريز إلى أنقرة في 13 تشرين الثاني/ نوفمبر 2007، ليكون أوَّل رئيس "إسرائيلي" يتحدَّث في البرلمان التركي، ثم لحق به محمود عباس في اليوم نفسه، في محاولةٍ من أردوغان لتحقيق التوازن في العلاقة بين الطرفين، ناسياً أو متناسياً أنَّ الطائرات "الإسرائيلية" التي قصفت مبنى قيل إنه مصنع كيماوي في دير الزور السورية في 8 أيلول/ سبتمبر 2007، دخلت الأجواء التركية في طريق عودتها، ثم رمت خزانات الوقود على الأراضي التركية.
وقد شجَّعت العلاقةُ مع "تل أبيب" من جهة، ودمشق من جهة أخرى، الرئيسَ أردوغان، فدخل على خطِّ الوساطة بين العاصمتين. إلا أنَّ رئيس الوزراء "الإسرائيلي" أولمرت غدر به، فشنَّ عدوانه الغاشم على غزة في 27 كانون الأول/ ديسمبر 2008، على الرغم من موقف الرئيس الأسد الإيجابي من المساعي التركية.
وجاء ردّ أردوغان على موقف أولمرت بهجومه العنيف على بيريز في دافوس في سويسرا في 29 كانون الثاني/ يناير 2009، عندما قال له: "إنَّكم مجرمون وقتلة". وأثار هذا الموقف ضجة كبيرة على الصعيدين السياسي والشعبي، وساهم في زيادة شعبية أردوغان في العالمين العربي والإسلامي، وخصوصاً فلسطين.
لم يتأخَّر الردّ على موقف أردوغان، فقام الجيش "الإسرائيلي" في 31 أيار/ مايو 2010 بالهجوم على سفينة "مرمرة" التي كانت تنقل المساعدات إلى غزة، وقتلت 10 مواطنين أتراك. كان هذا الحادث بداية التدهور السريع والخطير في العلاقات التركية - "الإسرائيلية"، إلى أن أقنع الرئيس أوباما نتنياهو، خلال زيارته إلى "إسرائيل" في 22 آذار/ مارس 2013، بضرورة الاتصال هاتفياً بأردوغان والاعتذار عن الهجوم على السفينة "مرمرة"، وهو ما فعله نتنياهو أمام أوباما، صديق الطرفين.
وقد جلس الطرفان بعد هذا الاعتذار الشفهي على طاولة المفاوضات في جنيف، واتفقا في 10 نيسان/ أبريل 2016 على أن تتبرّع "إسرائيل" (تبرعاً وليس تعويضا) بمبلغ 20 مليون دولار لعائلات الضحايا، في مقابل أن يصدر أردوغان تعليماته للمحاكم بإسقاط كلّ الدعاوى المرفوعة ضد المسؤولين "الإسرائيليين" في المحاكم التركية والدولية، وهو ما حصل في كانون الثاني/ يناير 2016، بعد أن حمّل أردوغان منظمة الإغاثة الإنسانية (İHH)، صاحبة سفينة "مرمرة"، مسؤولية الأزمة مع "إسرائيل".
وجاءت المفاجأة من رئيس هذه المنظَّمة، بولنت يلدرم، المقرّب جداً من أردوغان، عندما علَّق على القصف الأميركي والبريطاني والفرنسي على مواقع سورية في 14 نيسان/ أبريل 2018، وقال: "هذا القصف لم يشفِ غليلنا. كنت أتوقَّع المزيد".
لم يكن هذا الموقف مفاجئاً بالنسبة إلى الرأي العام التركي، وهو يعرف أنَّ سيارات الإسعاف التابعة للمنظمة كانت تنقل الأسلحة والمعدات الحربية للإرهابيين في سوريا، وتعود بالجرحى منها وتنقلهم إلى مستشفياتها في غازي عنتاب. 
وعلى الرغم من كلِّ ذلك، لم يحالف أردوغان الحظّ في زيارة غزة التي قال إنَّه صالح "إسرائيل" من أجل فكِّ الحصار عنها، فسبقه إليها الأمير القطري في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2012 في قمة التحالف والعمل المشترك في سوريا.
ولم يتذكّر أحد كيف تخلّى أردوغان عن استخدام الفيتو ضد انضمام "إسرائيل" إلى منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) في أيار/ مايو 2010، قبل أيام من حادث السفينة "مرمرة"، ولم يعترض في 4 آذار/ مارس 2016 على قرار القمة الأطلسية السماح لـ"إسرائيل" بفتح ممثلية دائمة في مقرّ الحلف في بروكسل، على الرغم من أنها ليست عضواً فيه. 
بالعودة إلى الماضي أيضاً، فقد قرَّر أردوغان في العام 2009 منح شركة "إسرائيليّة" حقّ نزع الألغام المزروعة على الحدود التركية مع سوريا، كما منح شركة أميركية كندية يهودية حقّ الاستثمار السياحي في ميناء إسطنبول الرئيسي، وهو ما أثار ضجة كبيرة إعلامياً وسياسياً، ما اضطره إلى التراجع عن القرارين، ولكنَّه استمر في علاقاته التجارية مع "إسرائيل"، ليصل حجم التبادل التجاري بين الطرفين في العام 2018 إلى 6 مليارات دولار تقريباً، فيما وصل عدد السياح "الإسرائيليين" الذين زاروا تركيا في العام نفسه إلى 320 ألف سائح.
وتحدَّث الإعلام التركي عن قيام السفن التي يملكها براق أردوغان، نجل الرئيس أردوغان، بنقل البضائع التركية والبترول الكردي العراقي إلى "إسرائيل"، وغزت منتجاتها الزراعية الأسواق التركية بعد أن سمح أردوغان باستيراد البذور "الإسرائيلية" المعدلة جينياً.
وجاء الربيع العربي والتدخّل التركي والعربي في سوريا وضد إيران وحزب الله ليغيّر موازين القوى في المنطقة لصالح "إسرائيل"، المستفيد الوحيد من دمار سوريا والعراق وباقي دول المنطقة، وأثبتت التطورات اللاحقة أنَّ لسياسات أردوغان الفضل الأكبر في هذا الدمار، بعد أن نجح، ومعه الدوحة، في نهاية العام 2011 في إقناع حماس بإغلاق مكاتبها في دمشق، وهي لولا سوريا لما كانت موجودة أصلاً الآن.
هذا التناقض لم يمنع الرئيس أردوغان من شنّ هجماته التقليدية على "إسرائيل"، وفي كلِّ مناسبة يراها مناسبة، كما هو الحال عندما اعترف الرئيس ترامب في 6 كانون الأول/ ديسمبر 2018 بالقدس عاصمة لـ"إسرائيل"، إذ دعا -بصفته آنذاك رئيس منظَّمة مجلس التعاون الإسلامي- إلى قمة عاجلة في إسطنبول، لم يحضرها سوى 19 من زعماء الدول الأعضاء، وأرسلت الدول الأخرى ممثلين من مستويات مختلفة.
وتكرَّرت هذه القمة في أيار/ مايو عندما تمَّ نقل السفارة الأميركية إلى القدس، من دون أن يخطر على بال أردوغان أو أيٍّ من الزعماء العرب والمسلمين اتخاذ أيّ موقف عملي ضد أميركا أو "إسرائيل".
وعلى الرغم من قرارات القمَّتين وتهديدات الرئيس أردوغان لكلٍّ من الدولتين، وكما هو الحال الآن في ردِّ فعله على "صفقة القرن"، فقد هدَّد "إسرائيل" وتوعَّدها، "متهماً الدول العربية بالخيانة وبيع القضية الفلسطينية"، وقال إنه "سيدافع عنها إلى الأبد، كما فعل السلطان عبد الحميد"، ناسياً أو متناسياً أن كلّ ما قيل عن موقف عبد الحميد من فلسطين ليس صحيحاً بالكامل، فقد قدّم الأخير الكثير من التسهيلات والمساعدات لليهود، وسمح لهم بالهجرة إلى فلسطين.
وكانت تركيا الدولة الإسلامية الأولى التي اعترفت بالكيان الصهيوني الَّذي قام على أرض فلسطين بعد عامٍ واحد من إعلان "دولة إسرائيل"، كما كانت الدولة الإسلامية الوحيدة التي استقبلت بن غوريون في العام 1957، وبحث الأخير مع نظيره التركي عدنان مندريس (مصدر الإلهام الحقيقيّ لأردوغان) تفاصيل التنسيق والتعاون المشترك، كما فعل مع شاه إيران ضد المدّ القومي العربي الناصري. 
ويبقى الرهان الأكبر والأهم على الموقف المحتمل للرئيس أردوغان، ويقال إنه براغماتي، والَّذي سعى حتى العام 2017 لإقناع "تل أبيب" بمدِّ أنابيب الغاز من شرق الأبيض المتوسط إلى تركيا، مقابل مد أنابيب للمياه التركية إلى "إسرائيل" عبر شمال قبرص التركية وجنوبها.
فيا ترى أيهما أهمّ بالنسبة إلى أردوغان: التخلّص من الرئيس الأسد، مهما كلَّفه ذلك، أو استمرار التوتر مع "تل أبيب"، ما دامت هذه الضجة لا تكلّفه شيئاً، وتزيد من شعبيته بين الإسلاميين، ولا تؤدي إلى توتر حقيقي في العلاقة مع الحليف الأكبر واشنطن التي لا يريد أن يزعجها، مهما فعلت في فلسطين، وهو لم يزعجها، بل اتّفق معها في شرق الفرات؛ حدود "إسرائيل" الكبرى المزعومة!؟

أترك تعليقاً

التعليقات