عبدالرحمن هاشم اللاحجي

عبدالرحمن هاشم اللاحجي / لا ميديا -
عشية السبت الماضي صدر القرار الجمهوري رقم (31) لسنة 1446 هجرية. قضى القرار الاستثنائي الهام والمتوقع باندماج صندوقي الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية في كيان تنظيمي واحد سمّاه "الهيئة العامة للتأمينات". وأسند القرار مهمة إدارة هذا الكيان الجديد لوزير الخدمة المدنية والتطوير الإداري، باعتبار الوزير مسؤولاً مباشراً عن الهيئة، وليس مسؤولاً إشرافياً عن الصناديق التأمينية كما كان معمولاً به في السابق.
قبل الخوض في القرار الجمهوري -المشار إليه آنفاً- وتحليل مضامينه وأبعاده السياسية والاقتصادية والمخاطر التي يمكن أن تصاحب عملية تطبيقه في الواقع العملي، نود أن نلفت انتباه القارئ الكريم إلى أن هذا القرار يأتي في إطار التغييرات الجذرية التي تقوم بها "حكومة التغيير والبناء" لنيل ثقة المواطن اليمني وتحسين سبل عيشه بما يجعله أكثر قوة ومتانة في مواجهة التحديات الخارجية، ما يعني أن هذا القرار كان ضرورياً ولازماً لإحداث التغيير المنشود، وهو بالفعل كذلك، لكنه لا يخلو من المخاطر والعقبات التي ستكتنف عملية تطبيقه، والتي في حال إهمالها وعدم التعاطي معها بجدية من الآن فقد لا تؤدي عملية الاندماج هذه إلى كارثة حقيقية بين الصناديق التأمينية المدمجة فحسب، بل قد يطال الأمر الوضع السياسي والاقتصادي العام للبلاد برمته.
تأتي الخطورة البالغة لعملية الاندماج بين صناديق التأمينات الاجتماعية اليمنية من الحساسية القانونية التي تتسم بها أنظمتها السارية؛ إذ يختلف التشريع القانوني في كل صندوق تأميني تبعاً لخصوصية الصندوق ومدى مساهمة أعضائه في رفده بالمبالغ المالية اللازمة لاستمراريته في سداد المنافع التأمينية على المدى الطويل، وكذا من اختلاف الملاءة المالية للصناديق التأمينية، ومن الوضع السياسي والاقتصادي العام للبلاد، الذي لا يتطلب مزيداً من الأخطاء التي من شأنها مفاقمة الجراح الغائرة بدلاً من علاجها أو تخفيف وطأتها على الأقل.
بالعودة إلى القرار الجمهوري رقم (31) آنف الذكر، ورغم الغموض الذي احتوى مضامينه، كونه لم يبين على وجه التحديد نوعية وشكل هذا الاندماج المرتقب؛ إلا أن التجارب العالمية التي اتخذت قراراً بدمج أنظمتها التأمينية -حسب معرفتنا المتواضعة- لم تخرج عن الثلاثة السيناريوهات التالية:
السيناريو الأول (الاندماج الكامل): والذي يعني "دمج كافة أصول وموارد الصندوقين التأمينين في كيان قانوني واحد (صندوق واحد)"، وهذا النوع من السيناريوهات تم تجريبه خلال العامين 1997 و1998 بين الصناديق نفسها التي تم دمجها بموجب القرار الجمهوري رقم (31) (الهيئة العامة للتأمينات والمعاشات والمؤسسة العامة للتأمينات الاجتماعية)، وأثبت عدم جدواها بدرجة قطعية؛ إذ ترتب عليه مشاكل مالية واقتصادية ما تزال آثارها السلبية قائمة حتى الآن.
إن الشرط الأساسي لنجاح مثل هذا النوع من الاندماجات هو تكافؤ الملاءة المالية بين الصناديق المدمجة، وتماثل خصوصيتهما التنظيمية، وهذا ما لم يتوفر في صندوقي الهيئة والمؤسسة، اللتين تتسم خصوصيتهما بعدم التماثل فيما بينهما. وإذا كان الدمج الكامل لم ينجح في التسعينيات وهذه الصناديق في وضعية متقاربة من الناحيتين المالية والتنظيمية، فالأرجح أنه لن ينجح اليوم، خصوصاً مع التفاوت الكبير في ملائتيهما الماليتين، لصالح صندوق القطاع الخاص، واتساع حجم الهوة في خصوصيتهما التنظيمية التي تطورت عبر الزمن من خلال إدخال تحديثات جديدة على قوانينهما المنظمة. إن غاية ما يمكن أن تُحدثه عملية الاندماج هذه هو أن تفتح باب الفساد على مصراعيه، وبدلا من أن نكحل العين الرمداء نكون في الواقع قد أعمينا صوابها.
السيناريو الثاني (الاندماج الجزئي): ونعني به "احتفاظ كل صندوق تأميني بأصوله الثابتة ونماذجه التأمينية، وما يتم دمجه يتعلق فقط بالفوائض المالية، بحيث يكون للصندوقين التأمينيين وعاء استثماري واحد". وفي هذه الحالة لا بد من إشراك نقابة العمال اليمنيين واتحاد أصحاب العمل في اتخاذ القرارات الاستثمارية، على اعتبار هذه التكتلات مالكة لأصول الصندوق، فصندوق تأمينات القطاع الخاص -على سبيل المثال- مملوك للمؤمَّن عليهم، ما يتطلب إشراكهم في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بحقوقهم وحقوق المستفيدين من بعدهم، وأن إقصاءهم يُعد انتهاكاً صارخاً لأملاكهم، وهو ما يفترض أن تبيّنه اللائحة التنفيذية المنظمة للقرار الجمهوري رقم (31) على نحو واضح وصريح.
السيناريو الثالث (الاندماج التنظيمي): بمعنى أن يتعلق هذا الاندماج بإعادة ترتيب المهام والاختصاصات الإدارية بين الصناديق التأمينية وفقاً لخصوصية كل صندوق تأميني، وبما لا يتعارض مع الهيكل الإداري الجديد لوزارة الخدمة المدنية والتطوير الإداري، وذلك على اعتبار أن هذا الدمج المؤسسي ضروري ولازم في إطار تغيير منظومة الحكم العامة (الكلية) في الجمهورية اليمنية. وهذا النوع هو الأقرب للتحقق، وهو المؤمَّل والمنشود، خصوصاً في ظل الظروف السياسية القاهرة التي تمر بها البلاد، وما قد يصاحب عملية الاندماج من إرهاصات سياسية غير محمودة التبعات.
بصرف النظر عن السيناريو الذي ستتبعه الجمهورية اليمنية لعملية الاندماج، وسواء صحت توقعاتنا القاصرة بتبني نموذج بعينه أم لا، فإن درجة المخاطرة التي ستصاحب عملية الاندماج تلك ستكون متوقعة بدرجة عالية. ومن هذه المخاطر على سبيل المثال لا الحصر ما يلي:
المخاطر السياسية: أنشئت التأمينات الاجتماعية للحد من الثورات العمالية التي أطاحت بالأنظمة الرأسمالية التقليدية في أوروبا خلال القرن الثامن عشر؛ إذ تعتبر التأمينات الاجتماعية من أهم العوامل التي أدت وتؤدي إلى استقرار الدول بمختلف أنظمتها الحاكمة. إن من شأن الاندماج بين الصناديق التأمينية اليمنية في ظل عدم التكافؤ بينهما واختلاف خصوصيتهما أن تؤدي إلى تهييج الشارع اليمني المثقل بمختلف أصناف القهر والعذاب نتيجة الحصار وانقطاع المرتبات ضد الحكومة الحالية... إذا كان الغرض من عملية الاندماج هو تسهيل إجراءات التقاعد وتبسيطها بين الصناديق التأمينية فإن من شأن هذه العملية أن تعقد الإجراءات أكثر، خصوصاً مع اختلاف طرق احتساب المنافع التأمينية ومستوى دخول المؤمن عليهم في القطاعين العام والخاص. أما إن كان الغرض منها هو الاستفادة من الفوائض التأمينية لصندوق بعينه فمن باب أولى فتح حسابات مدينة ودائنة بين هذه الصناديق وفقاً لآلية متفق عليها، وعلى أن يكون ممثلو القطاع الخاص جزءاً لا يتجزأ من هذه الآلية المتفق عليها، وبما لا يخل بسلطات وصلاحيات الوزير ورئيس الهيئة العامة للتأمينات (الهيئة الجديدة) أو بالشكل العام لمنظومة الحكم العامة للجمهورية اليمنية ككل.
المخاطر المالية: تتعلق هذه المخاطر بانخفاض الملاءة المالية للصندوق النشط (الصندوق المستمر أعضاؤه برفده ماليا) نتيجة التهرب التأميني من قبل المؤمن عليهم، فتنخفض بذلك الإيرادات المتوقعة وتصعب عملية تحصليها، كما تصعب عملية توسيع المظلة التأمينية نحو شرائح أوسع في المجتمع عند الرغبة بعملية التوسع، لتكون المحصلة الإجمالية ضعف الكفاءة المالية للصناديق المدمجة واتجاهها نحو العجز الإكتواري وزيادة أعباء الحكومة الملزمة بسداد رواتب المتقاعدين.

المخاطر الاجتماعية:
ينشأ هذا النوع من المخاطر في حال فقدان الثقة بأنظمة التأمينات الاجتماعية كأنظمة ادخارية إجبارية قادرة على إعالة المؤمن عليهم أو المستفيدين من بعدهم. بإجراء عملية استطلاعية لآراء المؤمن عليهم في الوقت الراهن يتضح أن هناك حالة من عدم الثقة بأنظمة التأمينات الاجتماعية كأنظمة حمائية بإمكانها القيام بهذا الدور مستقبلا. ومن المرجح أن يرتفع مستوى هذه الحالة من عدم الثقة مع القيام بدمج صناديق التأمينات الاجتماعية وتوجيه مدخرات المؤمن عليهم النشطين اقتصادياً نحو صناديق تعاني من حالة العجز الإكتواري الدائم (غياب شبه تام لمبدأ العدالة).

مخاطر جماعات النفوذ والمصالح:
 أدت التغييرات الجذرية الحالية في مفاصل الدولة إلى فقدان بعض الجماعات المتدثرة بجلباب الوطنية والمتخمة بجميع أنواع الفساد المالي والإداري لمصالحها. ومن المتوقع أن تعمل هذه الجماعات الفاسدة على مقاومة التغيير بشكل مباشر أو غير مباشر. وما يزيد الطين بلة هو أن هذه الجماعات باتت على تأثير كبير نتيجة قربها من شخصيات نافذة في القطاعين العام أو الخاص.
إن من الحكمة التعامل مع هذا الخطر بجدية كبيرة، ووضع الخطط الكفيلة بالقضاء عليه. إضافة إلى ذلك يمكن اتباع الحلول التالية لتخفيض درجة المخاطرة المرتبطة بعملية الاندماج بين صناديق التأمينات الاجتماعية اليمنية:
الأول: تبني سياسة اندماج واضحة ومفصلة تحدد ماهية هذا الاندماج وشكله ومضمونه ونطاقه، والأسباب التي دفعت إلى القيام به، وكذا المعالجات والبدائل الممكنة المصاحبة لعملية الاندماج... إننا ندرك أهمية التسليم للقيادة الثورية ونثق كثيرا في كفاءة الحكومة الحالية، وفي نزاهة وجدارة وهمّة الوزير الشاب وهو المعروف بحنكته وكفاءته في الوسط الأكاديمي اليمني، ونجاحاته الباهرة في الأعمال المسندة إليه في الماضي؛ إلا أن هذه الأمور ضرورية عندما يتعلق الأمر بمجتمع عام تتعدد فيه الاتجاهات والأفكار، وإن المكاشفة في مثل هذه الحالة هامة لضمان نجاح الأمر من ناحية، وتفويت الفرصة على المنافقين والمتربصين من الاصطياد في الماء العكر من ناحية ثانية!
الثاني: القيام بحملة دعائية كبيرة ممهدة لعملية الاندماج؛ إذ لا بد من تلطيف الأجواء بداية قبل إجراء العملية المرتقبة وطمأنة المتقاعدين والعمال النشطين اقتصادياً من أن إيداعاتهم المالية في مأمن، وأنه يجري تأمينها بشكل أفضل من خلال الإجراءات الحالية. إن من شأن هذه الحملة أن تخفف من حالة الذعر التي باتت تنتاب العمال وأصحاب العمل، خصوصا في القطاع الخاص، حيث فتحت باب للتهرب التأميني من الاشتراكات. وهذا الباب لا يمكن ردمه ما لم يتم تلطيف الأجواء بداية، وهذا أمر ضروري وعلى درجة بالغة من الأهمية.
الثالث: إعادة الثقة لأصحاب العمل، خصوصا في القطاع الخاص، وذلك من خلال منحهم حوافز تأمينية ملائمة. في هذا الصدد يفترض إعادة النظر في الغرامات المتراكمة على الشركات الخاضعة للتأمينات خلال فترة الحرب بالشكل الذي يرفد الصندوق بسيولة مالية جيدة ويعيد ثقة أصحاب العمل بالتأمينات الاجتماعية باعتبارها ملاذاً آمناً لتجنيبهم مساءلة عمالهم وموظفيهم مستقبلا.
الرابع: مد جسور الثقة بين الحكومة والمؤمن عليهم سواء كانوا في القطاع العام أو القطاع الخاص باعتبار الأولى معنية بالحفاظ على حقوقهم وأملاكهم. وفي هذا السياق ينبغي أن تسارع وزارة المالية بإيجاد الحلول الممكنة للدين العام الداخلي. تمثل حصة صندوقي تأمينات القطاعين العام والخاص من جملة الدين العام المحلي حوالى 15%، بمبلغ يقدر بحوالى 1.4 تريليون ريال يمني، وهذه المبالغ عبارة عن استثمارات في السندات الحكومية وأذون الخزانة والتي جرى إيقاف عوائدها في العام 2019.
إن من شان إيجاد بعض الحلول الممكنة للدين العام المحلي يعتبر إنجازاً كبيراً لـ"حكومة التغيير والبناء"، وفرصة ملائمة لإجراء عملية الاندماج المرتقبة بدون عراقيل تذكر أو على الأقل التخفيف من حدة هذه العراقيل بشكل كبير، والله الموفق.

أترك تعليقاً

التعليقات