«هندرة» العمليات الحكومية المعوقات وفرص النجاح
- عبدالرحمن هاشم اللاحجي الأحد , 17 نـوفـمـبـر , 2024 الساعة 11:57:21 PM
- 0 تعليقات
عبدالرحمن هاشم اللاحجي / لا ميديا -
في منتصف أغسطس الماضي أصدر المجلس السياسي الأعلى القرار الجمهوري رقم (12) لسنة 1446 هجرية. تضمن القرار دمج "هندرة" عدد من الوزارات ذات المهام المتماثلة، وتقليص عددها من 41 وزارة الى 19 وزارة، وذلك في إطار سعي القيادة الثورية للقيام بإجراء عملية تغيير جذري شامل لكل مفاصل الدولة اليمنية الحديثة وإعادة بناء جهازها الحكومي المترهل من نقطة الصفر.
تعد هذه الخطوة المباركة مطلباً ثورياً وشعبياً بامتياز، وهي وإن كانت مؤلمة قليلاً كون البعض قد يفقد مصالحه فيها، إلا أنها هامة في سياق ترتيب الوضع الداخلي بشكل أمتن، وتحقيق قدر كبير من الجودة في مستوى الخدمة المقدمة للمواطن اليمني، إضافة إلى ميزتها الاستثنائية في ترشيد الهدر في الإنفاق العام، وزيادة الإيرادات الحكومية بشكل غير مخل بالمتغيرات الاقتصادية الأخرى؛ ومثل هذه الأهداف العظيمة تتطلب إجراءات أكثر عمقا من مسألة الاكتفاء بـ"هندرة" (دمج) الوزارات، بل يفترض أن تطال هذه العملية جميع العمليات المالية والإدارية في جميع وحدات الجهاز الإداري للدولة بدون استثناء.
تعني "الهندرة" أو ما تسمى "هندسة العمليات" ببساطة شديدة: "إعادة النظر في طبيعة كل عملية إدارية أو مالية داخل جميع الوحدات الإدارية الحكومية كوحدة واحدة"، على سبيل المثال: تحتاج عملية طلب أحد المواطنين إنشاء مشروع خاص سلسلة من الإجراءات البيروقراطية ابتداء من تقديم الطلب، وانتهاء بالحصول على الترخيص. يستلزم لمثل هذه العملية -وفق الوضع الراهن- أسابيع إن لم يكن أشهرا، خصوصاً مع تعدد الإدارات والمستويات الوظيفية داخل الوحدة الإدارية المعنية بذلك.
تساعد "الهندرة" في اختصار هذه السلسلة من خلال إعادة التفكير ملياً في الإجراءات الضرورية للعملية من بدايتها وحتى نهايتها و"هندرتها" بطريقة إبداعية محترفة بحيث تعمل على تقليل وقت وتكلفة الحصول على الخدمة المطلوبة، وتحسين مستوى جودتها بدرجة أعظمية، فـ"الهندرة" هي في الواقع تغيير جذري في شكل ومحتوى العملية من الصفر وليست فقط مجرد مكننة أو أتمتة لترميم الشكل الحالي وإظهاره بشكل أكثر ملاءمة.
إذن نحن أمام عمل عظيم، ومهمة كُبرى أُنيطت بها "حكومة التغيير والبناء". تتطلب هذه المهمة الجبّارة جهودا حثيثة ومضنية لتحقيق النجاح الكامل وليس النجاح الجزئي. تعمل فرق العمليات المكلفة بإجراء عملية "الهندرة" بحماسة ونشاط منقطع النظير وعلى مدار الساعة تقريبا من أجل تحقيق النجاح الشامل. للنجاح مؤشراته المبدئية على أرض الواقع. يحدد السؤال المحوري التالي مدى وضوح هذه المؤشرات من عدمه: هل بالإمكان إنجاز هذه المهمة الجبّارة في ظل الوضع القائم وتحدياته؟ وما هي فرص النجاح المتاحة لتحقيق الهدف والوصول إلى حالة من رضا المواطن؟ وذلك على اعتبار أن (رضا المواطن) من أهم مؤشرات قياس الأداء وهو المعيار الأساسي الذي تستند عليه عملية التقييم لمدى نجاح عملية "الهندرة" الجارية من عدمه بنهاية المطاف.
من المعلوم أن الإجابة على الشق الأول من السؤال ستكون: نعم، وتحت أي ظرف. هذا التفاؤل الجميل المعتمد على الثقة بالله عز وجل هو بداية النجاح الحقيقي نحو تحقيق النجاح الكامل. الثقة بالله ملازمة لإرادة الناس والإعداد لإنجاز الأعمال مطلب (إلهي) وشرط أساسي لبلوغ الهدف. من أجل هذا ينبغي أن تتوفر قراءة أولية عن الوضع العام الذي سيتم فيه التطبيق لدى المعنيين بعملية "الهندرة"، وذلك من أجل:
- الإلمام بالتحديات القائمة، إذ تمثل هذه التحديات عقبات حقيقية أمام تحقيق أهداف "الهندرة" المنشودة وما لم يتم الأخذ بها على محل الجد فإن فرص النجاح لن تكون أكثر من سحابة صيف عابرة لا خير أو بركة ترجى منها.
- استكشاف الواقع لمعرفة الفرص المتاحة ومدى إمكانية الاستفادة منها لتعزيز القناعة بالثقة الكاملة بحتمية النجاح الشامل. يساعد اكتشاف الفرص في الدفع بالعملية نحو تحقيق الأهداف المرجوة. كما أنها هامة في سياق الحديث عن التحديات والعقبات وذلك لدراسة مدى إمكانية تحويل هذه الأخيرة إلى فرص ثمينة للاستفادة منها عند عملية التطبيق، وحتى تكون مناقشتنا مثمرة للموضوع فسنعمد الى الاستعانة ببعض تجارب الدول التي قطعت شوطاً جيداً في هذا المضمار.
في الواقع جربت دول كثيرة تطبيق عملية "الهندرة" على بعض وحداتها الحكومية. على الرغم من تمتع هذه الدول بمقومات جيدة تسمح لها بتطبيق العملية بنجاح مثل: "شبكة حاسوبية ضخمة -بيئة تنظيمية عالية التأهيل والثقافة -كفاءات بشرية -موارد مالية كافية"، إلا أنها أخفقت في الوصول لأهدافها في النهاية. تعود أسباب هذا الإخفاق لضعف قناعة الإدارة العليا بأهمية التغيير، ونفاد صبر فرق العمليات في وقت مبكر وقناعتها بالتغييرات التي تحققت من خلال عملية التطبيق الجزئي، إضافة لتعارض إجراءات "الهندرة" مع الأهداف والرؤية الاستراتيجية العامة للدولة ككل.
تعاني البيئة التنظيمية في المؤسسات الحكومية اليمنية من ترهلات كبيرة جداً فالقوانين السارية متقادمة وعائقة لعملية "الهندرة" بدرجة أساسية، والبطالة المقنعة متضخمة في الجهاز الإداري للدولة، وتحمل ثقافة تنظيمية مناقضة لعملية التغيير الجذري، وما يزيد الطين بلة هو أن هذا النوع من البطالة يفتقد أبسط المقومات اللازمة لتطبيق متطلبات "الهندرة" كالتأهيل العلمي والعملي والاستعداد النفسي.. في الحقيقة أسهمت ثقافة "الفساد" التي استشرت طيلة عقود من الزمن في دوائر الجهاز الإداري للدولة في تعزيز قناعة الأفراد بثقافة تنظيمية خاطئة حتى صار هذا الأمر نمطاً سلوكياُ (غير حميد) يعوق أي تغيير إيجابي نحو الأفضل.
لكن هذا ليس بالأمر المقلق. إذا كانت الثقافة التنظيمية السائدة في دوائر ومؤسسات الدولة من أهم العقبات التي تعوق تطبيق عملية التغيير الجذري فبالإمكان تجاوز هذه العقبة أو الحد منها على الأقل من خلال العمل الدؤوب والمستمر لإعادة تدريب وتأهيل الموظفين سلوكياً وعلمياً وقبل هذا كله روحياً. بنظرة فاحصة للواقع نجد أن هذا الأمر قد يبدو بعيداً بعض الشيء لذلك قد يكون من الأنسب قبل إجراء عملية "الهندرة" العمل على تطبيق معايير: "إدارة الجودة الشاملة".
في ذات السياق يظهر التحدي التكنولوجي كأحد أهم التحديات التي تواجه نجاح عملية "الهندرة" في الجهاز الإداري للدولة اليمنية الحديثة، فحتى تحقق العملية نجاحاً ملائما ينبغي أن تتوفر لدى جميع الوحدات الحكومية قاعدة تقنية كبيرة تمكنها من تبادل المعلومات ذات العلاقة في ما بينها بطريقة سريعة وغير مكلفة. وكشرط لنجاح عملية "الهندرة" ينبغي أن تربط هذه القاعدة (التقنية) بقاعدة (بشرية) كفؤة وإلا فقدت "الهندرة" مفهومها العام وأصبحت العملية أشبه ما تكون بعملية "أتمتة". من المهم بهذا الصدد التحري عن الأسباب الكامنة وراء عدم نجاح عملية "الربط الشبكي" بين الوحدات الإدارية الحكومية خلال المرحلة الماضية. تشير التوقعات الى أن "الفاسدين" قد وقفوا عائقا أمام نجاح هذه العملية. بصرف النظر عن صحة هذه التوقعات من عدمها فإن من الحكمة -في ظل هذا الظرف الفارق- التعامل بحزم وصرامة مع "الفساد"، فالمرحلة لا تحتمل أي "فاسد" مهما كان قربه وولاؤه من مصادر صناعة قرار "التغيير والبناء".
على الجانب المقابل تقف عقبة "عدم كفاية الموارد المالية" كأحد التحديات الحاسمة في هذا الميدان. تؤكد التجارب المختلفة أنه ما لم يتم وضع المخصصات المالية التي تحتاجها عملية "الهندرة" فإن هذا التحدي سيطفو على السطح بشكل أو بآخر ليعوق أي تقدم باتجاه النجاح الكامل. من الأضمن لمثل هذه الحالة أن يكون هناك بند في الموازنة العامة للدولة يخصص لفرق العمليات المكلفة بتطبيق عملية "الهندرة" وأن يتم السحب منه وفق ترتيبات خاصة تتعلق بنسب الإنجاز.
أمام هذه التحديات بمختلف تأثيراتها تبرز رغبة القيادة الثورية الجامحة باستكمال عملية "الهندرة" وإجراء التغيير الجذري الشامل لكل مفاصل الدولة. تمثل إرادة القيادة أولى الفرص الثمينة أمام فرق العمليات للاستفادة منها في تسهيل مهمتها والوصول إلى النتائج المرجوة بأوقات قياسية. نقاط الاتصال المشتركة بين فرق العمليات من جهة وبين القيادة من جهة أخرى ينبغي أن تكون فعّالة بقوة لإحداث التغيير المنشود. ما لم يكن هناك اتصال فعّال بين أعضاء الفريق فإن هذه الفرصة الثمينة قد تفقد جدواها بنهاية المطاف.
يساعد في ذلك الاستراتيجية الشاملة لمنظومة التغيير الجذري الكامل، فشمول عملية التغيير الجذري يمنع تصادم الرؤى في بعض الوحدات الإدارية مع الاستراتيجية العامة. يمثل هذا الإطار إحدى الفرص التي بإمكان فرق العمليات الاستفادة منها لجعل عملية "الهندرة" أكثر مرونة وقابلية لتقليل حجم الأخطاء، واتخاذ القرارات الصحيحة في هذا الجانب.
تأتي الفرصة الأخيرة على شكل استفادة من تحد قائم؛ فالبطالة المقنعة التي تثقل كاهل الجهاز الإداري للدولة والتي من المتوقع مقاومتها للتغيير، من الأجدى توجيهها نحو مجالات تسهم في رفع إنتاجيتها بشكل أفضل، تشجيع الاستثمار العام قبل الاستثمار الخاص ومنح المزايا الملائمة له من أهم الأولويات التي يفترض أن تتماشى مع تطبيق عملية "الهندرة".
إذا كان البعد "الإنساني" مغفلا تماما في عملية "الهندرة" وهو من أهم مساوئها -كما تؤكد ذلك التجارب الدولية- فإن "الهندرة" التي يفترض تطبيقها في الدولة اليمنية الحديثة يجب أن تكون مختلفة بحيث يتم إيلاء الجانب "الإنساني" أهمية واهتماما أساسيا بالمقام الأول.
ذلك أن الهدف الأساس من عملية "الهندرة" ليس جني الأرباح من خلال ترشيد الإنفاق العام، وزيادة الحصيلة الإيرادية للدولة -كما قد يتصور البعض- وإنما الرقي بالإنسان اليمني ليكون عند مستوى المهام المنوطة به وأن يكون فاعلاً ومنتجاً في مجتمع يسير بخطى حثيثة ووثابة نحو بناء الحضارة المنشودة. الحضارة التي طال انتظارها سنوات مديدة تقف اليوم على عتبة الباب. إذا كانت "الدولة" باب الحضارة الأول فإن "الهندرة" مفتاحه الذكي.
المصدر عبدالرحمن هاشم اللاحجي
زيارة جميع مقالات: عبدالرحمن هاشم اللاحجي