العدوان في ذكرى البردوني
 

زياد السالمي

زياد السالمي / لا ميديا -

البردوني شاعر الوطن الكبير، وأستاذ الشعر العمودي الفصيح، تأتي ذكرى وفاته العشرين في ظل مرور خمسة أعوام من العدوان التحالفي العالمي على اليمن. يحتشد الكثير من الأدباء والكتاب في هذه المناسبة. واستباقاً للفعاليات التي ستقام نجد أن الشعراء كلٌّ سيتلوا بعض قصائده وما جادت قريحته في محراب الشعر ولا ضيم حولها؛ وكذلك الكتاب والنقاد سيدلي كلٌّ بدلوه...

 إنما ما اللازم علينا في هذه الذكرى العظيمة التي تأتي وطائرات العدوان تصب قنابلها فوق يمن البردوني وتفتح حاجز الصوت دون مراعاة للأطفال والنساء والشيوخ ودون مراعاة لله وشرائعه في الإنسان؟! تأتي ذكرى البردوني واليمن تُضرب بصواريخ محرمة، وتُحاصر من البر والبحر والجو، بل تأتي بعد استهداف ضريحه المهاب بحرمة الموت والقصيدة، فبالنسبة لأضرحة الموتى لم يستهدف العدوان الجبان غير ضريح الشهيد الثائر والمفكر السيد حسين الحوثي وضريح الشاعر والمفكر عبد الله البردوني. آثار القصف لم تزل شاهدة على ذلك. 
تأتي -إذن- ذكرى وفاته بعد أربعة أعوام ونيف من العدوان؛ استخدم فيها كل الجرائم والأساليب المحرمة في حق وطن عربي؛ بعد أربعة أعوام من انتهاك سيادة دولته... فماذا علينا كشعراء ومهتمين بالشأن الثقافي في إحياء ذكرى الشاعر الكبير عبد الله البردوني الذي أرخ لهذا العدوان قبل حدوثه، ورفضه، ووقف إلى جانب وطنه وقصائده تجسد على الواقع. 
وفي هذه الذكرى أليس حرياً بنا الالتزام بالسير على النهج البردوني ذاته، طالما العدوان وأثر البردوني كفيلان بأن نجعل هذه المناسبة انتصاراً لليمن وإرادته الشعبية ولقضيته الكبرى في الاستقلال والسيادة واستئصال العملاء والخونة؛ وبالتالي الوقوف بحزم أمام من يُسخّر كتابته وإبداعه بعيداً عما يحدث في وطنه، حتى نلمس أن لا استثناء منا، وأننا جميعاً في المركب ذاته، وأننا كالجسد الواحد ضد العدوان وفي مواجهته. 
كما من دواعي السرور التحدث عن البردوني، لكن من الصعب جداً أن نستطيع إيفاءه حقه. البردوني كان روح الوطن. جسّد ذلك في كل كتاباته. أعطى وحاور ووجه وتألم وأحب... كان روح المواطن. ناضل وسُجن ووهب وتغنى بوطنه وحلم... لكن لم ينل إلا اغترابه. ودليل ذلك كثير في كتاباته. البردوني إنسان كسر كل الحواجز، وقفز إلى العالمية، كقفزته تلك وهو في سن الرابعة عشرة إلى المزرعة بحثاً عن زاد يسد به رمقه ليواجه هذا العالم القبيح الذي يكافئه على ما قدمه له بالنكران -كحارس المزرعة حينها بالضرب. أما السؤال الملح: هل سنظل على ذلك النكران نتجاهل ما نحن فيه، فالبردوني أعطانا فرحتنا وحرر ألسنتنا، فما نواجه من موقف أو حدث إلا كان البردوني حاضراً عنا، نستشهد بشعره ونرد بوجه ذلك بما تعلمنا في مدرسته من حكم وعبر وتضحية وشموخ. البردوني وجه الأمة الآتي من رغيف الأمهات. 
البردوني ديدن الموروث و»صياد البروق»، «جواب العصور»، ومملكة البساطة وحكاية الغريب في الوطن الغريب... البردوني ضمير الإنسانية اللاذع لملل الفاشية والقصور. 
يظل ينبض في قلوب فقهت، ويحرق وجوهاً جفت. البردوني هو البردوني، دونه البر، وتحته السماء، وحبره البحر... يمضي بنا ربما لمكانٍ نزعم أنه الوطن، وهوية نزعم أنها العروبة، وزمانٍ نزعم أنه الكفاح، ويكشف بالأخير قصر رؤانا وعمق خطوته. يعري كل ذلك ويبدي رحمته. 
إنه الخلد الخالد والنور الصامد في وجوه الحالمين، والعصف السافخ في عيون الخونة. استعينوا به في كل ظرفٍ، واحذروا أن تكونوا منهم. 
من خلال ما تنبئنا به ملامح تجارب الكثير، البردوني إلهام متجدد في خيال الشعراء. لهذا لست ممن يرغب في اتخاذ نهج البردوني الشعري -لا القيمي والثوابت الوطنية- طريقاً. لكن العذر كل العذر للآخرين، الذين وبكل مصداقية وقعوا في فخ الشاعر عبد الله البردوني. تقرأ تجارب الشعراء الكبار حسب ما يصفهم البعض فتضحك؛ أي شاعر كبير يقرأ البردوني، ثم تجد نظمه الشعري أقل بكثير؟! إذن ما هو الإبداع في نظرهم، طالما الجميع يظل مجسداً أو مختفياً بين سطور البردوني؟! 
البردوني التهم من جايله، ويلتهم من جاء بعد ذلك، باعتبار أن القراءة الزمنية تقتضي قرناً كاملاً، كما تقتضي وجود وعي مسبق بوضع لمسة فنية تضيف في الصورة والوعي إكمالاً لنهج أو ضداً له. لهذا يظل البردوني هو الشاعر الوحيد الذي سيطوي صفحة القرن العشرين، ويضعها تحت إبطه، ولن يسمح لأحد بنزعها عنه. 
البردوني شاعر تقرؤه حين تقرأ شعراء العمود الأحياء والأموات. 
قد أكون قاسياً بعض الشيء، إنما هذه هي الحقيقة التي علينا أن نتعامل معها بكل جدية، ونتواءم مع هذه الفرضية الحتمية التي ليست من باب الافتراض. وحين نعي ذلك سنبحث عن أمر آخر ينفعنا. 
في هذا الزمن الممتد من بعد أبي تمام والمتنبي ظل الأدب زائفاً، وتراكمت الفجوات الزمنية التي أصبحت عائقاً أمام كل متطلع لإيجاد حيز في خانة الشعراء العظماء... حتى جاء البردوني. 
لست أدري هل ما قام به هو عن وعيٍ أم عفوية المبدع الملهم، في كسر الفجوات الزمنية المتعاقبة طيلة سبعة أو ثمانية قرون. لم يكن أحمد شوقي أمير الشعراء ذكياً بالتنبه لذلك أو تجاوز هذه العقبة، فقد عاد بنفسه سبعة قرون إلى الوراء ليكتب بعد الشعراء الحقيقيين، وبهذا لم يكن شاعراً معاصرا.
بالمقابل الشاعر أدونيس أو محمود درويش لم يستطيعا كسر الفجوة الزمنية، فكانت أعمالهم الشعرية معلقة في هاوية، ولم تستطع الربط بينها وبين الإبداع الحقيقي الذي كان آخره هو المتنبي. 
سيسأل البعض: ماذا قدم البردوني ليخرج نفسه من قفص اتهام الأدب الزائف؟! 
نعم، لقد اعتمد على الموروث الشعبي وقام بتوظيفه بإجادة، فكان معادلاً موضوعياً في ردم الفجوة الزمنية، ولهذا كان الشاعر الوحيد بعد أبي تمام والمتنبي، بل يزيد عليهما رؤية الماضي بعد رؤية المستقبل وتحديد مجرياته، ليتصدر الذاكرة مدة ثمانية قرون. 
ليس القصد تتبع العثرات بقدر ما هي حقائق وركائز في تقييم الواقع الأدبي، ولمس بعض المحطات التي تقف عليها الذائقة الجمعية، فتأتي الملاحظة حول تطور الصورة الفنية بموازاة الوعي كنتاج الاجتهاد في تضميد شرخ الإبداع العربي، الذي لم يستوعب بعد حتى الآن. 
وبالتالي قد تكون مراحل التطور تدرجاً في المحطات الأولى: امرؤ القيس وتجربته القائمة على تصوير المجون والجسد، ثم تأتي محطة المتنبي وتجربته المستوحى منها الحكم والطموح، بعد ذلك مرحلة أبي تمام وتجربته المزجاة من الفكر والفلسفة كضرورة في جدية الشعر. توقف بعدها الشعر مستظلاً في ظل الأطلال يستجر هذه الملامح الثلاثة، حتى جاء البردوني مضيفاً في الذائقة والوعي الفني شيئاً آخر، وهو الموروث الشعبي وتعرية القبح السياسي والديني والوطني، وبدأ يضع العالم أمامه ويعيد تقويمه وبناءه بصورة تبعث الدهشة. 
كغربلة الحصى والرمل غربل الواقع العربي والمعيشي والتضعضع القيمي وانجرار ذوي القرار إلى العمالة والتبعية للخارج وانصياعها للوصاية، مظهراً ثورته ضدها. وها نحن نتلو كل يومٍ وأمام كل حدث ما تيسر من أثره. 
من النافل القول بأن ما واكب هذه الذكرى في عام سابق قيام أحد المجاهدين بإطلاق دوي صيحته على جنود بني سعود قائلاً: «سلم نفسك يا سعودي»، التي ستصير فولكلوراً شعبياً ومثلاً على ألسنة الناس يحكي حقبة زمنية كدلالة رمزية على الثبات والإرادة مهما كانت الصعاب وشحة الإمكانيات وقلة العدد. ولو كان البردوني حياً لجعلها في إحدى قصائده بما يناسب دلالتها، باعتبار البردوني كان يعي أن ما يمنحه الريادة هو الاتكاء على الموروث الشعبي كمعادل موضوعي لتجاوز الفجوة الزمنية التي خلفها الأدب الزائف طيلة قرون بعد أبي تمام والمتنبي. هنا ينتصر الإصرار والصبر الذي تكلم عنه في قصيدته «أحزان وإصرار».
أخيراً: هذه مناسبة ليست كسابقاتها من المناسبات، فلتكن ميثاق شرف بما يناوئ ويواجه ويعري هذا العدوان الظالم؛ احتراماً لهويتنا اليمنية ولأنفسنا، واحتراماً لتاريخ البردوني وأثره الإبداعي ونضاله الكبير في تثبيت معالم السيادة الوطنية ورفض الوصاية والتدخلات في الشأن اليمني ونبذِ كل مخلفات الوصاية من عملاء. 
يظل البردوني رمز كفاح وماهية وجود لدى كل حر ومنصف، يتطلب أن نكون بمستوى مجاراته أخلاقاً وقيماً ورؤى، كترسيخ الوعي ورفع حماسة الشعب في الانتماء لليمن والدفاع عن سيادتها وبقائها ومكانتها ومنح شعبها من تقرير مصيره، دون الرضوخ للأطماع الآنية. 
ها هو البردوني يقول لكم إنه ضد العدوان وضد استعمار بلده وضد العملاء. فماذا يا أدباء ويا كتاب اليمن ستقولون له؟!
وليعذرني البردوني على الجرأة في الوقوف أمام تجربته بهذا الانطباع العجل، وأعده أن أعيد قراءته من جديدٍ لعلي قد أتبع سبباً يلامس طود إبداعه ما استطعت إليه سبيلا.

أترك تعليقاً

التعليقات