عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبدالقوي العبسي / لا ميديا -
تقول كلمات مقطع في الأوبريت اليمني الشهير «خيلت براقا لمع» والذي تم إنتاجه كعمل فني موسيقي غنائي  كبير في العام 2000 بمناسبة الذكرى العاشرة لتحقيق «الوحدة اليمنية»:سهيل يا نجم اليمن من سفح صعدة إلى شمسان الأبي شع نوره وأزاح ظلمه بعد ليل
هنا أعطى مؤلف الكلمات رمزية سهيل نجم اليمن والذي كان رمزا للحكمة اليمانية ليشير بها إلى سطوع نجم الوحدة اليمنية باعتبارها دليلاً على الحكمة اليمانية، لكن واقع الحال كان يقول بأن هناك استعجالا واضحا وعملية «سلق بيض» على السريع دون دراسة أو ترو أو تفحص لأنسب أسلوب لتحقيق هذه الوحدة الذي كان ينبغي أن يكون تدريجياً على مراحل وعلى أسس سليمة علمية وديمقراطية وشعبية، وهو ما كان يطرحه باستحياء وخجل بعض السياسيين المتنفذين الحذرين، وكذلك بعض المثقفين الوطنيين (في السلطة وخارجها)، حتى أولئك المثقفون الوطنيون الذين كانوا قد انزووا تماماً وابتعدوا عن النشاط السياسي أو التنويري قبل ذلك الوقت بكثير لوقوعهم فريسة الإحباط واليأس ومنهم والدي الذي كان قد أبدى تخوفه الشديد في أواخر العام 1989 واعتراه خوف شديد، لأنه كان يتوقع حدوث دوامات صراع أكثر عنفا قادمة لا محالة، ثم تحمس فرحا لها بعد ذلك مع ذلك القلق المصاحب له وهو يراقب تسارع الأحداث والانزلاق بعد ذلك دخولاً في نفق مظلم أشد ظلمة من نفق «جولد مور» في عدن، وكلكم يعرف الحكاية الشهيرة عن توقف سيارة علي سالم البيض في نفق «جولد مور» وحديثه لعلي عبدالله صالح عن ضرورة الخروج من النفق المظلم، نفق التشطير والصراع الشطري السياسي الأيديولوجي إلى نور الوحدة المشع.
مازلت أتذكر كلمات والدي لي وأنا في مطلع الشباب في تلك الأيام وهو يقول لي إن الوحدة ينبغي أن تتحقق بالتدريج وعلى مراحل وإلا ستبوء بالفشل!
نعم، كان لا بد أن تحدث هذه العملية السياسية التاريخية الاجتماعية انطلاقا من ضرورة معرفة أولاً: ماهية التحديات المتوقعة وكيفية معالجتها، بل دراسة معمقة لمعرفة أنسب ما في النظامين الشطريين السابقين من سياسات ونظم وتشريعات وبرامج وآليات عمل وتقاليد إدارية مع إيجاد الآليات الديمقراطية (الملائمة لظروف واقعنا الاجتماعي) المتوافق عليها لمعالجة الخلافات والاختلافات الموجودة والطارئة، سواء تلك المتوقع حدوثها أو غير المتوقع حدوثها، بالنظر إلى إرث الصراع الثقيل وماضيه الطويل وبالنظر إلى تخلف البنى الاجتماعية في المجتمع اليمني ككل مع اختلاف في الخصوصية هنا وهناك وفي الدرجة هنا وهناك.
لم يحدث شيء من ذلك، بالرغم من أن قادة الحزب ومفكريه ومثقفيه وكوادره كانوا يتحدثون مراراً وتكراراً عن ضرورة الأخذ بأفضل ما في النظامين الشطريين حسب اتفاق الوحدة، ولكن ما الفائدة إذا لم يكن ذلك واضحاً ومشرعناً ومكتوباً ومنفذاً بوضوح وبتفصيل شديد منذ اللحظة الأولى وبرغبة شديدة وإرادة شجاعة في التصدي لمماطلات وخداع الطرف الآخر منذ اللحظة الأولى لم يحدث للأسف شيء من ذلك، حسب معلوماتي.
ربما كانت صدمة انهيار المنظومة الاشتراكية أهم العوامل والمتغيرات التي كان لها تأثير شديد عليهم ثقافياً وفكرياً ونفسياً وسياسياً واجتماعياً أيضاً مع ضراوة القصف الإعلامي الإمبريالي العولمي والرجعي الإقليمي والمحلي والذي راح يتحدث بزهو سخيف وبخداع شيطاني مضلل عن أفضلية نظام الشمال المطلقة في كل الجوانب.
ومنذ البدء لم تحدث أيضاً إزاحة للمتطرفين الذين ناصبوا هذه العملية الوحدوية (المليئة بالأخطاء والثغرات والعيوب) العداء منذ اللحظة الأولى لها انطلاقا من خلفية أيديولوجية ظلامية متطرفة وكان بيدهم الجهاز الأمني والنفوذ القبلي السلطوي والدعم المالي الخارجي، ولهم ارتباطاتهم المشبوهة بالعدو التاريخي لليمن (المملكة السعودية) التي كانت لا تخفي خشيتها من تحقيق وحدة يمنية تضع البلد الموحد والدولة الوطنية الجديدة في المسار الصحيح لامتلاك القوة سياسياً واقتصادياً بما يجعل منها دولة مهابة في الإقليم بدلاً من ليل الوصاية والتبعية الطويل المظلم.
طبعاً، يتحمل الحزب الاشتراكي اليمني النصيب الأكبر في الوقوع في هذا التأسيس المتسرع العاطفي وغير المدروس للوحدة، باعتباره هو الذي كان الأكثر إلحاحاً على قيامها والأبرز وطنياً من بين من دافع عن فكرتها وناضل من أجلها جنوباً وشمالاً، وروج لها على نطاق شعبي واسع لعقود من الزمن (منذ منتصف الخمسينيات)، منذ أن كان أستاذ المناضلين عبدالله عبدالرزاق باذيب يرفع شعار «نحو وطن يمني ديمقراطي حر موحد»، في وقت كان فيه الكثيرون شمالاً وجنوباً يفتقدون الرؤية الصحيحة لمفهوم الوطن، بل إن كلمة «يمن» نفسها كان يشوبها الكثير من التضليل والتعمية والتشويش بفعل النشاط الاستعماري البغيض، النشاط الذي كان يستهدف الهوية والثقافة الوطنية وتحريف معاني النضال الشعبي، وكان له مخططاته الشيطانية في البلد ومشاريعه السياسية القذرة في خلق كيانات سياسية مصطنعة، زائفة، مرتبطة بمشروعه التفتيتي الاستنهابي لثروة البلد.
الحزب الاشتراكي هو من كسب صف أغلبية قطاعات الشعب إلى الوحدة بمن فيهم معظم التجار وغالبية أبناء القبائل في الجنوب والشمال، لما امتلكه من كاريزما وشعبية ومصداقية عالية في صفوف الحركة الوطنية اليمنية وبين أبناء الشعب اليمني، وهو أيضاً أول من دافع عن فكرة الوطنية اليمنية وامتدادها الجغرافي الطبيعي بحماس وثقة.
في الشمال كان حجم الغرور المتعصب الجاهل كبيرا لدى قطاع كبير من متنفذي المجتمع السياسي ووجهاء المجتمع والرموز السلطوية التقليدية والعسكر وموظفي السلك الإداري، بل حتى النخبة المثقفة!
كان الجميع ينعق ويتشدق بالوحدة اليمنية دونما معرفة بمتطلبات وشروط حامليها الاجتماعيين وقادتها ومناصريها السياسيين، وهم من كان مرتبطا مباشرة وغير مباشرة بالدوائر الاستعمارية الأمريكية البريطانية وحلفائها من رجعية الإقليم كالمملكة السعودية على وجه الخصوص، ودونما معرفة حتى بأبسط أبجدياتها السياسية، ومعظمهم كان يردد مقولات ومفاهيم قروسطية قومية ودينية متخلفة عن الوحدة، ويستشهد ويسترشد بأحداث زمن بعيد بناه وأيديولوجيته وثقافته وسيكولوجية مجتمعاته بعيدة كل البعد عن مجتمعات الزمن المعاصر حتى المجتمعات شبه الإقطاعية والرأسمالية البدائية المتأخرة منها كمجتمعنا اليمني على سبيل المثال، والتي بالكاد تضع أقدامها على العتبة الأولى للدخول في العصر.
والنتيجة أننا رأينا كلا يدعي وصلاً بليلى وليلى كانت عنهم بعيدة!
لقد فشل دعاة الوحدة هؤلاء أدعياء الوحدوية الذين سيطروا على السلطة قبل وبعد الوحدة، لأنهم أخطأوا في فهم المعنى الحقيقي للوحدة وأخطأوا في الهندسة الاجتماعية لها وفي أسلوب بنائها الصحيح، أي البناء الديمقراطي الشعبي العلمي، لأنهم فهموا الوحدة بمضمون رجعي متخلف ولم يكن لهم إلا ذلك، لأنهم ببساطة رجعيون متخلفون و»فاقد الشيء لا يعطيه»، ولأن لا مصلحة حقيقية لهم في تحقيق هذه الوحدة الشعبية الديمقراطية العلمية، لأنهم أصحاب مصالح لا أصحاب وحدة ولا تربطهم بمشروع الوحدة الحقيقي، أي رابطة، لهذا كانت ممارستهم وتجربتهم في الوحدة ممارسة كاذبة، ولم يفعلوا شيئاً لإنجاحها وتحقيقها الفعلي، بل كان مبلغ همهم هو مراكمة ثرواتهم وتعظيم مكاسبهم السياسية الضيقة والفئوية الضيقة والشخصية الضيقة، وكانت لديهم أطماع في السلطة والثروة تتحكم في سلوكهم ومواقفهم السياسية الذهنية العصبوية الضيقة والإرث السيكوباتي الاجتماعي والنزعة النفعية الضيقة وقبل كل ذلك المصالح الطبقية الضيقة.
ما كان يعنيهم أبداً الخطاب الوطني الوحدوي الشعبي الثوري الذي كان يحمله ويقدمه حكماء الوحدة اليمنية من القادة الوطنيين الكبار وأستاذهم عبدالله باذيب وأبرزهم عبدالفتاح إسماعيل وعمر الجاوي السقاف وسالم ربيع علي وإبراهيم الحمدي وعلي سالم البيض وآخرون.
نعم، كل الشعارات الجوفاء التي أطلقها أدعياء الوحدة والوحدوية، وفي معظمها كانت اقتباساً من غيرهم، كانت فقط لخداع الشعب وإلهائه وذر الرماد في العيون.
لقد ارتكبوا باسم الوحدة أبشع الجرائم ونكلوا بخصومهم واستغلوا الشعار والمبدأ والفكرة النبيلة كقنطرة عبور وحصان لاجتياح طروادة، وراحوا يخفون الدوافع الحقيقية للحرب العدوانية الظالمة التي شنوها على الجنوب عام 1994.
لقد كانت عدن في تاريخنا المعاصر أشبه بأثينا وباريس وبرشلونة، حيث تعرضت للاجتياح مرات عديدة على يد العصبويين الفاشيست من أدعياء الوطنية والقومية وأدعياء الإسلام الذين خدعوا الناس بهذا الشعار وهذا المبدأ وحولوه من شعار ومبدأ وطني تقدمي علمي ثوري يصب في مصلحة الوطن ومصلحة الشعب الكادح ومصلحة التقدم الاجتماعي إلى شعار فاشي بامتياز يخدم مصلحة الطبقة العليا البورجوازية المتنفذة بمختلف فئاتها من كمبرادور وعسكريتاريا وبيروقراطيين أو حولوه إلى شعار رومانسي ثوري في أحسن الأحوال يثرثر به بغباء شديد مثقفو الطبقة البورجوازية الصغيرة من يسار قومي ويمين ليبرالي وهم لا يعلمون مدى التيه والضياع وحال فقدان البوصلة الذي وصلوا إليه.
علينا الآن أن نقر ونعترف جميعاً بأن هناك طريقاً طويلاً وسنوات طويلة لتحقيق تلك الوحدة الديمقراطية السليمة المنشودة، بعد أن رأينا الفشل الذريع لسلطتي الوحدة السابقتين سلطة الوحدة الاندماجية (1990-1993) التي قادها الحزب الاشتراكي اليمني والمؤتمر الشعبي العام، ووحدة الضم والإلحاق (1994-2014) التي حكم فيها فعلياً حزبا المؤتمر والإصلاح وتقاسما فيها السلطة ودخلا معا في تجربة سلطوية سياسية عصبوية عسقبلية وسياسات اقتصادية رأسمالية متوحشة فاشلة ظالمة مفروضة من صندوق النقد الدولي أدت إلى تعاظم الإفقار الاجتماعي وانهيار الطبقة الوسطى وتبديد ثروة المجتمع واستشراء الفساد ونهب المؤسسات والموارد في الجنوب وكذلك الشمال وتدمير ركائز السلطة الوطنية السابقة في الجنوب ومسح ما تبقى من إيجابيات نظام الحمدي في الشمال الذي كان لديه طموح بناء الدولة الوطنية وطموح تحقيق الوحدة.
وكانت النتيجة هي تعاظم السخط الشعبي وصولاً إلى النهاية المنطقية وهي الانفجار الاجتماعي الكبير واندلاع انتفاضة الحراك الجنوبي السلمي في منتصف العام 2007 كمرحلة أولى في ثورة شعبية سلمية امتدت بعد ذلك إلى وسط وشمال البلاد.
لكن رأينا بعد ذلك كيف أن أعداء الوحدة وأعداء الثورة من المستعمرين الغزاة إلى أدواتهم في الداخل تمكنوا من استغلال الأخطاء والتراكمات العميقة السلبية في المشهد واستغلال غرور البعض وتعنتهم وإنكارهم لارتكاب الجرائم والأخطاء واستغلال الشعور العميق بالمظلومية والاضطهاد وحالة اليأس لدى البعض الآخر فراح هؤلاء المستعمرون وأدواتهم يتدخلون بشكل مباشر أملاً في حرف المسار النضالي الشعبي الثوري وجرفه بعيداً عن حل قضية الجنوب العادلة حلاً سلمياً ديمقراطياً شاملاً وعادلاً بالشكل الذي يرتضيه شعبنا في الجنوب اليمني المظلوم، وبعيداً عن تحقيق مطالب الشعب اليمني ككل شمالاً وجنوباً، وبعيداً عن حل قضايا الأزمة الوطنية التي حاول مهندسو «موفنبيك» ملامسة أوجاعها الحقيقية وهم الذين نجحوا بشكل جزئي في ذلك، لكنهم للأسف أخفقوا في التعامل الديمقراطي العلمي الصحيح مع كل المكونات واستخفوا واحتقروا إلى حد ما نشاطات ومطالب الحركة السلمية الجنوبية وحاول البعض منهم تمييع القضية الجنوبية لنصل إلى ما وصلنا إليه اليوم من أحداث مؤسفة ومؤلمة.
عساهم أن يتعلموا من الدروس ويبدأوا بداية صحيحة تدشيناً لمسار وحدوي سلمي ديمقراطي يمتد باتجاه المستقبل، عقوداً قليلة من الزمن وصولاً إلى الوحدة اليمنية الديمقراطية السلمية المبنية على أسس العدالة الاجتماعية والتفكير العلمي.
نعم الحوار والتسامح وحس العدالة والنقد والمراجعة والتفكير الوطني الديمقراطي العلمي هو الحل. لنصغ بواقعية وإحساس رفيع إلى صوت الشعب والجماهير ونحتكم إلى رأي الغالبية الشعبية، ونصغ بعقل إلى صوت حكماء اليمن.

أترك تعليقاً

التعليقات