عدلي عبد القوي العبسي

عدلي العبسي / لا ميديا -

عقب سقوط الناصرية (التجربة الثورية الرائدة والدولة الوطنية التي كان تأثيرها بارزا على المجتمعات في المنطقة 
والعالم الثالث ككل)، ومجيء الأنظمة السياسية العربية القمعية والفاسدة والتابعة بدلا منها، تلك التي ظهرت إبان سنوات (1970 ـ 2010)، أو الجمهورية الثانية (إن صح مثل هذا الوصف) ساد كثير من مظاهر الانحطاط الثقافي والأيديولوجي في السياسات الثقافية والتربوية والإعلامية لأنظمة هذه الدول وفي توجهات النخب والقوى السياسية والفكرية المتحالفة معها والداعمة لها.
ابتداءً من استخدامها لذلك المزيج من الأيديولوجيا الأصولية والثقافة التقليدية الرجعية أو تبني نوع من الخطاب الشعبوي الديماغوجي المضلل والزائف غير الجاد في تبني قضايا الجماهير والهادف إلى السيطرة عليها من أجل إطالة فترة بقائها في السلطة، وصولاً إلى الترويج للفكر الليبرالي في أبشع اتجاهاته (المتأمرك المتوحش) والذي يلقن الجماهير مفاهيم الفردية الأنانية والتنكر لفكر العدالة الاجتماعية والبراغماتية النفعية والتبعية وينبذ أفكار المقاومة الثورية للمشروع الإمبريالي العولمي ويكرس ذهنية الاستهلاك ويروج لثقافتها ويؤدي إلى تسطيح الفكر وانحطاط القيم، اتبعت هذه الأنظمة بمشروعها الساداتي التدميري في عدة بلدان عربية، وسائل وأساليب متعددة لإلهاء الجماهير وإشغالها وترويضها وامتصاص غضبها وخداعها في كل المنعطفات والمراحل التصفوية والتدريجية لتركة الثورة الوطنية ودولة الاستقلال السابقة، وخصوصاً بالمصاحبة مع اللحظات التاريخية السوداء التي كانت تقرر فيها وبمراسيم كارثية تصفية المكتسبات الاجتماعية للدول الوطنية عقب انتصار الحركة الثورية للتحرر الوطني إرضاء للإمبريالية وأدواتها ومنظماتها الدولية ومصالحها وحلفائها الرجعيين في المنطقة وداخل البلدان العربية لتصب أخيرا في خدمة مشاريعهم لنهب الثروة واحتكار السلطة.
تم استخدام أدوات الهيمنة الأيديولوجية كأدوات فائقة التحكم لغرض إعادة هندسة وعي وسلوك الجماهير من قبل تلك الأنظمة الديكتاتورية المتغولة لتغدو الجماهير معها أكثر انقيادا وإذعانا وضعفا وتشتتا وأكثر بعدا عن المطالبة بانتزاع حقوقها الاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن السياسية والمدنية، ناهيك عن السقف الأعلى المطالب بالتغيير الثوري لتلك الأنظمة.
وكان أكبر أداة للهيمنة الأيديولوجية وأسلحتها الفاعلة التي توصل إليها جهابذة الأنظمة الفرعونية المتسلطة سلاح فكر الإسلام السياسي بمختلف تنويعاته، وهو يمثل منظورات اجتماعية طبقية متباينة، وأبرزها ذو الخلفية البورجوازية الصغيرة، حيث يتسم هذا الفكر بالانسحابية من فكرة الثورة والتغيير ومشروع العدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية، واستبدالها بمنظور إصلاحات شكلية في النظام الاجتماعي والاقتصادي الرأسمالي المتوحش لغرض إضفاء بعض الملامح الخيرية والإنسانية وبعض جوانب الترشيد فيه.
وكان أتباع هذا التيار طيلة العقود السابقة (بقصد أو بدون قصد) أكبر مناصر أيديولوجي ودعائي للسياسات الاقتصادية والاجتماعية للأنظمة العربية الرأسمالية التابعة والفاسدة والتي تسببت بسياساتها التدميرية الفاشلة في إفقار الشعوب العربية، ونشر البؤس وتفاقم البطالة وتدمير الطبقة الوسطى، وتوسيع حجم الطبقة العاملة بانتقال شرائح واسعة من الطبقة الوسطى إليها، وإحباط عشرات الملايين من الشباب العرب، بل ودفعت نسبة كبيرة منهم إلى التطرف الديني والإحباط والجريمة والانسحاب من الحياة السياسية والعامة والانكفاء على الذات، وفقدان الأمل في نهضة مجتمعاتهم.
وجدت هذه الأنظمة في هذه المعارضة الشكلية خير داعم لها واحتياطا حقيقيا لمشروعها اللاوطني، من خلال التعبئة الدعوية التي كانت تستنزف طاقات الشباب الذهنية والفكرية فيما لا ينفع وفيما هو بعيد كلية عن صحيح الدين الإسلامي وموقفه من الاستبداد والاستغلال والجمود والانحطاط والظلم الاجتماعي والحرية وحقوق الإنسان والنهج العلمي.
كانت تلك الأنشطة الأيديولوجية لتيار الإسلام السياسي الرجعي تلهي الأتباع والمناصرين بالأمور الجانبية والثانوية وأحيانا الشكلية والتافهة وتشغلهم عن الفهم الحقيقي لجوهر مشكلات المجتمع وأزمته الشاملة ومسبباتها ومساوئ وعيوب الأنظمة التابعة وكيفية مواجهتها.
وفي بعض الأنظمة من هذا الطراز والتي كانت تحكم في مجتمعات قبلية، كما هو حال نظام صالح في اليمن، نجد التنوع الواسع في الأساليب والأدوات السياسية والثقافية السيطرية للبورجوازية وحلفائها من بقايا الإقطاع وشيوخ القبيلة من أجل تجميد الصراع الطبقي وتخفيف تفاقمه واحتدامه أثناء تنفيذ سياساتها الاستحواذية على المال العام والسلطة داخل هذه البلدان، عن طريق إيجاد المتنفسات الوهمية (لصرف الأنظار عن الاحتجاج الشعبي) كالإغراق في تخدير ثقافة الاستهلاك والوعود الزائفة بشأن التحرك الاجتماعي صعودا والثراء الشخصي، وتشجيع نزعة الخلاص الفردي والتفكير البراغماتي في صفوف الأجيال الجديدة أو بغسل الأدمغة بأوهام الدروشة والتصوف والزهد والانسحاب من الحياة الدنيوية أو بالأكاذيب المضحكة عن نعيم الرأسمالية والخلاص الليبرالي الفردي، والترويج الإعلامي واسع النطاق عالميا للنظريات البورجوازية المبشرة والمتهافتة والتي لم تصمد حتى لأكثر من عشر سنوات (1987 ـ 1997)، وأضحت مثالا على إحدى مهازل الأيديولوجيا البورجوازية في زمن أزمة النظام الرأسمالي وشيخوخته واحتضاره.
بعد ذلك سعت بقايا أنظمة الجمهورية الثانية أو ما يسمى قوى الدولة العميقة وعبر الثورات المضادة إلى تنفيذ محاولات استبسالية في البقاء والتشبث بالسلطة والتلون كالحرباء ولا تزال مستهدفة إعادة تجديد نفسها، وأيضا من خلال اختراقها للقوى السياسية الجديدة الحاكمة للأنظمة الجديدة المنبثقة عن «الربيع العربي»، ومن خلال صراعها المحموم مع قوى الإسلام السياسي الراكبة موجة «ثورات الربيع العربي»، وعبر محاولات ممارسة الخداع الديماغوجي تجاه الشارع العربي وإيهامه من خلال وسائل الإعلام المملوكة لها بأن «ثورات الربيع العربي» كانت عبارة عن تحركات شعبية إسلامية أصولية متطرفة للانقضاض على السلطة بدعم من سياسيي الفوضى الخلاقة الأمريكان، وهذا الطرح المضلل انتقاما وتشفيا لغرض الإمعان في تشويه حقيقة «ثورات الربيع العربي»، ولخلط الأوراق وإرباك الجماهير الشعبية.
وللأسف فإن الكثيرين قد وقعوا في فخ التصديق وغفلوا عن حقيقة أن اختراق صفوف «الربيع العربي» من قبل سياسيي الفوضى الخلاقة أو ركوب الموجة لأغراض السلطة من قبل الإسلاميين لا يعني أبدا أن «ثورات الربيع العربي» ليست انفجارات اجتماعية تاريخية طبيعية، بحكم خيانية قيادات ونخب الجمهورية الثانية وفشلها وإخفاقها الذريع في تحقيق مطالب وأمنيات الشعوب في العدالة الاجتماعية والتنمية الحقيقية والاستقلال والديموقراطية، وبفعل انحرافها الكبير عن مبادئ وأهداف ومقاصد وقيم ونهج ثورات التحرر الوطني التي اندلعت في الخمسينيات والستينيات.
وبسبب كل هذه الجهود التخريبية المعرقلة والتي تقوم بها بقايا أنظمة الجمهورية الثانية والمستمرة إلى الآن، مانزال نشهد عملية الولادة المتعسرة البطيئة للجمهورية الثالثة، أي الجمهورية الوطنية الديمقراطية بثوبها الجديد بعد المراجعة والتجديد واستخلاص العبر والدروس من أخطاء الماضي.

أترك تعليقاً

التعليقات