عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبدالقوي العبسي / لا ميديا -
الحديث في هذه الأيام عن الشركة الصهيونية وفضيحة التجسس المتعلقة بها يعود بنا في التاريخ إلى الوراء لنستذكر محطات عدة في مسار تاريخي طويل حافل بالتجسس على البشر، مسار تطورت فيه تقانة التجسس بالتلازم مع تاريخ الصعود الإمبريالي ومعه الصهيوني في الغرب والعالم.
طبعا كانت الدوافع والأطماع الاستعمارية الاقتصادية والرغبة في السيطرة على مناطق النفوذ والثروة في العالم بين الإمبرياليات والاضطرار إلى خوض حروب إقليمية وعالمية طوال القرنين التاسع عشر والعشرين هي المحفز الأكبر للتطور التكنولوجي الحربي. وكانت الحاجة الحربية إلى إلحاق الهزيمة بالعدو من خلال معرفة واستباق تحركاته وخططه ونواياه الحربية ومعرفة إمكاناته وتطورات قدراته هي ما حفز على تطوير أساليب وتقنيات التجسس والاستفادة من التطور التكنولوجي الفيزيائي ونقله إلى هذا المجال، وهو ما انعكس أيضاً بشكل إيجابي على التطور في العلوم كافة وفي الصناعات المدنية السلمية الأخرى.
فتطور الاتصالات والرادار ونظم المعلومات الجغرافية والاستشعار عن بعد والتقانة الرقمية كلها كانت في البداية محفزة ومدفوعة بالأطماع الحربية واستخدام تكنولوجيا التجسس لغرض هزيمة العدو، والرغبة في الاستيلاء على الفضاء، ومراقبة تحركات العدو، والرقابة على المجتمع، وسرعة الوصول إلى المعلومة وتبادلها.
ولقد استفادت الحركات السياسية والجماعات العصبوية المتنفذة الجديدة في المجتمعات السياسية للدول الإمبريالية من هذا الوضع الجديد، وراحت عبر أجهزتها ومنظماتها تستفيد وتجير وتستخدم هذه الأساليب لمصلحة نفوذها السياسي المتعاظم. استمر الحال وتطور بعد ذلك عندما أصبحت هذه الحركات والجماعات السياسية العصبوية الفاشية كيانات سياسية ودولاً ونظماً رجعية كما هو حال الدولة الصهيونية ونظامها الفاشي الرجعي.

كرة بلورية سحرية
كان أبرز الأفراد من نخبة اليهود الصهاينة ومعهم أكبر حلفائهم الصهيومسيحيين من نخب ورجالات الدولة البريطانية والأمريكية من مطلع إلى منتصف القرن العشرين يسعون إلى تحويل كوكب الأرض إلى كرة بلورية بيد ساحرة يهودية عجوز تماما مثل ما كنا نشاهده ونحن أطفال صغار في الحكايات الأوروبية القديمة والتي قدمت لنا الكثير منها فنيا على شكل كارتون أطفال، حيث كانت العجوز الشريرة القبيحة تجلس مبتسمة وساخرة وتقهقه بصوت عال وهي تُعلم بناتها كيف يدرن الأمور والشرر يقدح من عينيها وهي تطالع حركة المخلوقات البشرية الضعيفة داخل هذه الكرة البلورية، وتتدخل بقواها السحرية لتغيير مصائرهم وإفساد حياتهم.
اليوم يكاد يصبح هذا حقيقة بما نشاهده ونلمسه من الصعود التكنولوجي المذهل وتقنية الأقمار الصناعية والاستشعار عن بعد والتجسس السيبراني عبر الشبكة العنكبوتية، وما تحققه قنوات التواصل الاجتماعي «فيسبوك» و»تويتر» وأخواتها، من انكشاف غير مسبوق لأسرار الأفراد والجهات والحكومات.
أجل، فمع تحقق كل هذا في زمننا نقول تكاد الفنتازيا أن تتحول إلى واقع، بل ها هو المشهد نراه قد أصبح واقعا الآن، مشهد الكرة البلورية بيد الساحرة العجوز التي غالبا ما كان يتم تقديمها في التراث والفن الشعبي الحكائي على أنها يهودية!! (مع تأكيدنا هنا على ضرورة التفريق بين اليهود الصهاينة واليهود المناوئين والرافضين للصهيونية والمتبرئين أيضاً من مساوئ بعص عناصر الثقافة اليهودية حتى لا يُقال إننا عنصريون!).
الجانب الرائع الرمزي في تلك الحكايات الأوروبية وغير الأوروبية القديمة هو أنه كثيرا ما كانت تخيب مساعي العجوز صاحبة الكرة في نهاية المطاف، وينتصر الخير على الشر، حيث تتمكن المخلوقات الضعيفة المناضلة، بما تمتلكه من شجاعة وإرادة، من التصدي والصمود وقهر هذا الشر والطغيان الكوني المتجسد في العجوز الشريرة التي كانت تنتقل من مكان إلى آخر في طرفة عين راكبة ظهر المقشة (المكنسة) مقهقهة بصوت عال، وكاسرة كل ما هو مألوف بقواها الخارقة!!
اليوم تخرج علينا العجوز الساحرة وتتباهى بنشاطها الأخير وتقول مقهقهة: «الجميع الآن باتوا منكشفين تحت سمعي وبصري، مراقبين على مدار الساعة. العالم أجمع قد أصبح بين يدي، وقوتي وجبروتي لا يمكن قهرهما!!».

سقوط أخلاقي
الغرور والجرأة والصلف والتنمر والغطرسة والخزي، كلها مفردات اعتيادية في قاموس الحياة اليومية لهذه الجماعات والحركات والنظم والدول التي باتت بالفعل هي التجسيد الحقيقي للإرهاب والبلطجة والشر والطغيان العالمي.
وفضائح التجسس هي المثال الأبرز على السقوط الأخلاقي المريع، وهل هناك ما هو أكثر قذارة وبشاعة من جريمة التجسس التي نهت عنها واستفظعتها واستعظمتها الأديان جميعها؟! والمضحك أنهم لطالما صدعوا أدمغتنا بأحاديثهم ليل نهار عن حقوق الإنسان، وأنهم دول ترعى حقوق الإنسان، بينما هم أول من يمارس انتهاك هذه الحقوق على نطاق واسع، وكلنا يعلم كيف أنهم قد أباحوا التجسس على المواطنين والإعلاميين والسياسيين تحت عناوين عدة وذرائع عدة أبرزها الإرهاب، ويستغفلون الناس الذين يعلمون أن نشاطهم التجسسي هو أفظع أشكال الإرهاب. وعجبي! أي عالم بالغ الانحطاط والسقوط أوصلنا إليه هؤلاء الأوغاد الفاشيون؟!

انحراف نفسي
إن الولع بالتجسس أو هوس التجسس بالتأكيد هو حاله سيكوباتية يعاني منها بعض الأفراد المختلين. والاستعداد لممارسة التجسس ربما تجده عند بعض الأنماط النفسية للبشر كاستعداد نفسي أولي يتحول إلى انحراف نفسي واضطراب سلوكي تحت ظروف بيئية ونفسية قاهرة.
الترويج للتجسس والجاسوسية والتحبيب فيهما كان محل اهتمام الكثير من الحركات السياسية الرجعية قديماً وحديثاً. وقد تم استخدام «الميديا» لهذا الترويج، وأيضاً منصات الفن السابع، وكما شاهدناه في الفن الأمريكي السينمائي الرجعي القذر، أفلام جيمس بوند على سبيل المثال، حيث كنا نشاهد على الشاشة كل ما يثير التقزز والاشمئزاز في النفس البشرية، فيظهر الجاسوس فيها بمثابة البطل الخارق مثار الإعجاب الذي ينبغي أن يقلده الناس، وكان يتم الإلحاح والإقناع بأن ما يفعله من ممارسات ويحققه من اختراقات هو أمر يثير الإعجاب ويستحق الإشادة.
انظروا كم أفسدوا أجيالاً وأجيالاً من الشباب في كل أرجاء وأنحاء العالم المتأمرك بهذه الأعمال الفنية الهابطة!

الصهيونية والتجسس
الصهيونية، وهي أكثر الحركات الرجعية الفاشية الهدامة خطورة على الأمن والسلم العالمي، أبدعت في هذا الفن الشيطاني القذر. ولا أبالغ إذا قلت إنه يكاد يكون معظم إنجازها واختراقاتها قائماً بالأساس على هذا النشاط الجبان القذر.
للصهيونية تاريخ طويل أسود من الاهتمام بالتجسس واستخدامه، ابتداء من تمجيد الجواسيس والترويج لهم في سينما هوليوود والسينما الأوروبية، مرورا بتطوير تكنولوجيا التجسس إبان ثورة الاتصالات والمعلومات، وصولاً إلى ابتكار تطبيقات للتجسس وتحويلها إلى سلعة خدماتية في السوق تخدم أغراضا سياسية قذرة كما هو الحادث مؤخرا.
فالتجسس نشاط أساسي ومحوري لدى الحركة الصهيونية وكل الشبكات والمؤسسات والمنظمات المرتبطة بها.
ونعلم جميعا تغلغلها واستحواذها على وسائل الميديا الجديدة، وكيف أن انتشار وسائل التواصل الاجتماعي بأنواعها قد تحول إلى مجال كوني للتجسس على الأفراد والمؤسسات والحكومات المناوئة والمقاومة لهذه الحركة المعادية للسلم والأمن العالمي.
والتجسس طبعا نشاط قذر إذا كانت وسائله وغاياته قذرة، وإذا كان مصبه في نهاية المطاف خدمة الباغي المحتل أو الفاشي العنصري أو الفاسد أو الإرهابي أو اللص البرجوازي، فردا كان أو مؤسسة أو نظاما ودولة.
أما إذا كان نشاطا مشروعا لاختراق مؤامرات العدو وإحباط مساعيه التخريبية، فالتجسس هنا يصبح أمرا مرغوباً، شريطة ألا يتم الانجرار إلى استخدام الأساليب القذرة ذاتها التي يتبعها الصهاينة وأضرابهم، فالغاية النبيلة لا تبرر الوسيلة القذرة.

أترك تعليقاً

التعليقات