عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبدالقوي العبسي / لا ميديا -
اليوم (13 كانون الثاني/ يناير) يصادف ذكرى استشهاد المناضل الثوري التقدمي الكبير القائد المؤسس عبدالفتاح إسماعيل، الشهيد في الأحداث المشؤومة 1986 (أحداث 13 يناير) في مدينة عدن، والتي راح ضحيتها أبرز قادة الحزب الاشتراكي اليمني، الذي كان هو الحزب الحاكم في الدولة الثورية الماركسية الوحيدة في العالم العربي ما سميت «جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية».
وعبدالفتاح إسماعيل -لمن لا يعرف- هو أبرز قادة ثورة 14 أكتوبر التحررية، وهو قائد الجبهة الفدائية في عدن ضد الاحتلال البريطاني البغيض، بل هو منظر هذه الثورة اليمنية الأكتوبرية المجيدة 1963، ثورة التحرر الوطني في جنوب اليمن ضد الاحتلال البريطاني الذي دام أكثر من 130 عاماً. وفتاح ماركسي لينيني ينحدر من أصول حركية، وكان عضواً فاعلاً في حركة القوميين العرب التي تحولت فيما بعد إلى الجبهة القومية مطلع الستينيات (حزب الثورة الأكتوبرية) بعد أن غادرت مواقع النهج الفكري الفاشي باتجاه الناصرية منتصف الستينيات ثم إلى الماركسية اللينينية أواخر الستينيات.
وفتاح هو مؤسس الحزب الاشتراكي اليمني الذي جاء نتاج عملية حوارية طويلة امتدت طوال سنوات السبعينيات بين التنظيمات الثورية الثلاثة: الجبهة القومية لتحرير الجنوب التي قادت الكفاح المسلح في الجنوب ضد المستعمر (حركة قوميين عرب تحولت إلى الماركسية اللينينية)، والطليعة الشعبية (بعثيين تحولوا إلى الماركسية اللينينية)، واتحاد الشعب الديمقراطي (ماركسي لينيني أسسه مطلع الستينيات الأستاذ والمناضل الكبير عبدالله باذيب الذي هو بمثابة الأب الروحي للثورة اليمنية والوحدة اليمنية وهو معلم فتاح وأكبر المؤثرين فيه).
وعبدالفتاح إسماعيل هو أبرز المناضلين والسياسيين اليمنيين الداعين والعاملين من أجل تحقيق الوحدة اليمنية، وكان يراها وحدة تقوم على أسس ديمقراطية شعبية ثورية، وحدة تلعب الجماهير الشعبية الكادحة عبر طليعتها الثورية الدور الأبرز في صناعتها وبناء دولتها الثورية المنشودة.
لعب فتاح دوراً كبيراً في تحقيق التقارب بين أبناء الشمال والجنوب، خاصة المناضلين والمثقفين وعموم الكادحين، وكسب بفضل نضالاته وتضحياته وأفكاره المبدئية النيرة قلوب وعقول المستنيرين والبسطاء من أبناء الشعب اليمني، وأصبح هو القائد السياسي اليمني الأكثر شعبية في تاريخ اليمن المعاصر.
وضع أمام الأجيال الثورية دليلاً مرشداً للعمل الثوري لإنجاز المهام الوطنية الديمقراطية الخمس، مستلهما بذلك فكر لينين العظيم.
فتاح فضح وكشف مساوئ وزيف العهد الاستعماري، وبين استنفاده تاريخياً وعدم جدوى بقاء الاستعمار الذي أثبت تعطيله للمسار التنموي الحقيقي لليمن الذي كان ينبغي احتذاؤه في عصر الجماهير الثورية وعصر نهوض الشرق العظيم. كان بحسه الثوري منذ بواكير شبابه يستشرف قرب أوان نهاية النفوذ الغربي الاستعماري ويتصرف على هدي من ثقة أبناء ذاك الزمان بحتمية انتصار المد الثوري الاشتراكي في نهاية المطاف مهما كانت الصعوبات والعقبات. وهو صاحب المقولة الشعرية المغناة «يا قافلة عاد المراحل طوال وعاد وجه الليل عابس».
عبدالفتاح كان شاعراً موهوباً رثاه صديقه الشاعر العربي الكبير أيمن أبو الشعر في قصيدة مشهورة، ورثاه أبو الشعراء الكلاسيكيين العرب عبدالله البردوني الذي قال عنه إنه يسبق زمنه بخمسين عاماً، أي بحساب زمني بسيط الأستاذ الراحل البردوني هنا يتنبأ بأن «فتاح» سيعود بثوب جديد، بمعنى أن التجربة الاجتماعية الثورية ستنشأ مجدداً من دون أخطاء ومن دون أي شوائب تظهر كصبيانيات يسارية بلهاء أو تجنحات يمينية عمياء.
قال البردوني في وصف «مصطفى»، يقصد «فتاح»:
«يا مصطفى يا كتابا من كل قلب تألف
ويا زمانا سيأتي يمحو الزمان المزيف».
فعنده أن كل زمان خلا «فتاح» هو زمان مزيف. وقوله غاية في الصدق والحكمة. وفي قصيدة أخرى يقول متسائلاً:
«لماذا الذي كان مازال يأتي؟ لأن الذي «سوف يأتي» ذهب».
لاحظ هنا تعاقب الأنظمة، وركز معي عند عبارة «سوف يأتي».
وما أفهمه أنا هنا، هو أننا بصدد المراحل الزمنية التالية: الذي كان عهدا بائدا ثم الذي أتى بعده ويشبهه كتسوية مرحلية انتقالية ثم الذي جاء نقيضا ثوريا أتى وذهب بفعل ثورة مضادة ثم الذي مازال يأتي ويعود بفعل الثورة المضادة ويجدد نفسه ثم الذي ذهب وسيعود ثانية بقوله «سوف يأتي» كحتمية تاريخية.
هكذا فهمت هذا البيت، بينما فهمه غيري فهما آخر بسيطاً لا يحتمل برأيهم كل هذا التعقيد والتتابع المتعدد، وقد أكون على خطأ والمعنى في بطن الشاعر.
نعود ونقول، فتاح كان على حق في معظم طروحاته وتصوراته على الأقل في الخطوط العريضة لما يجب أن يكون عليه المسار الثوري واتجاهه في بلد متأخر اجتماعيا متحرر يعاني من مشاكل وموروثات جمة.
قد يكون «فتاح» كما يُقال ساهم فعلاً في ارتكاب بعض الأخطاء السياسية والانحرافات اليسارية في تجربة الحزب والدولة، لكن مخاوفه كانت حقيقية وقد برهن عليها الزمن. وأيا يكن الحال فدوره الكبير النضالي والتنويري وتضحيته العظيمة وفكره المتقد تجعل منه مصباحا للهدى في ليل التخبط والضياع، ضياع البوصلة، والبوصلة تعطلت فعلاً عند من ابتعد عن نهج «فتاح» بالرغم من المحاولات التصويبية والمراجعة للأخطاء التي حدثت في زمن المراجعة وما بعده.
ومن حسن حظ «فتاح» أنه رحل مبكرا قبل أن يرى ذل وانكسار المتخاذلين من قيادة وقواعد حزبية غفيرة العدد. ومن حسن حظه أنه مضى قبل فقدان الحزب للبوصلة وفقدان هويته الاجتماعية الطبقية والعلمية الفكرية والنضالية الثورية، وقبل اضمحلال الحزب ودخوله الآن غرفة الإنعاش مع تفجر الحرب العدوانية الإمبريالية الرجعية على الوطن عام 2015.
نعم، هذه هي الحقيقة المؤسفة، ضاع الحزب وضاع معه الوطن اليمني بكله، ولا رجعة لليمن إلا برجعة الحزب، وفي اليوم التالي لرحيل «فتاح» بدأ المسار الطويل البطيء لعودة بريطانيا التي طردها «فتاح» وحرر أرض اليمن من رجسها ونجاستها. الذين تآمروا وقتلوا «فتاح» في الداخل والخارج كانوا هم قناطر العودة، وعودة بريطانيا تحدث الآن بشكل تدريجي مخيف بمساعدة من بناتها (أمريكا والسعودية والإمارات وإسرائيل)، هي الخطأ الفرانكنشتايني الأكبر في التاريخ المعاصر.
ثمة وطنيون حقاً، سياسيون ومثقفون وجنود، سيجابهون هذه العودة وسيدفعون حياتهم ثمناً من أجل منع عودتها، والشعب اليمني هو المنتصر حتما في نهاية المطاف، حتى لو تحققت هذه العودة البغيضة بأشكال ناعمة خبيثة وبثوب شيطاني لعين.
كان «فتاح» كلامه أصوب بكثير من كلام بريطانيا، وكان لسان حال المبرطنين الموهومين آنذاك من عباد بريطانيا وخدمها، يتغنى في كل مناسبة أو حدث بعبارة «كلام يا بريطانيا». وبريطانيا هذه الكارثة التي جاءت إلينا مما وراء البحار في أزمنة الغفلة تحاول العودة في زمن ثورة المعرفة وزمن عودة المد الثوري وعودة نهوض الشرق.
ثمة سباق ماراثوني ضخم بين الصين وبريطانيا حول من يأتي إلينا أولاً، يأتي صديقا أممياً ثورياً مساعداً للتنمية كالصين وأوراسيا، أو يأتي غازياً نهاباً مخرباً مفرقاً مفتتاً لوحدة البلاد ونسيجها الاجتماعي كبريطانيا وبناتها.
وبريطانيا هي ابنة سفاح الرأسمال والاستعمار، وهي معقل الماسونية وحصنها الحصين، مغروسة في ثقافة العديد من الشرائح والفئات الاجتماعية على مر أجيالها المتعاقبة، وحاضرة في الأذهان بوعي أو لا وعي لديها كمثال يحتذى ونموذج تسعى إلى استعادته وتحلم به صبح مساء.
هي مسيحهم الجديد الذي يتكلم الإنكليزية (حسب مقالة الأستاذ المناضل باذيب الشهيرة التي أودت به إلى السجن)، ستعود ثانية بهم وبصنع أيديهم، وحالهم دائماً هو الركض خلف ثوبها الملكي الطويل كأطفال يتامى يتوسلون عودتها ورعايتها لهم ويحلمون برجعة ثانية لها كي تخلصهم من البرابرة «قبائل الشمال»!!
ستعود على أكتافهم هؤلاء الحمقى، أحفاد السلاطين والمشائخ والعائلات المعدنية (العدنية)، بقايا الإقطاع والبرجواز والداعمون من أرض المهجر. عندهم لا بأس من عودتها، فهذا زمن الاعتذار وزمن الخجل من أفعال الثوار القومجيين الشيوعيين الأغبياء.
بريطانيا هي الأساس، وهي بداية التحضر، وهي المدينة، فكيف نجازيها بالجحود والنكران؟! وهي الفرصة والقنطرة الوحيدة الموصلة بالعصر والحضارة، وهي النعمة العظيمة، فكيف نبطر بها؟!!

أترك تعليقاً

التعليقات