طوفان الجوع العربي المقبل
 

موفق محادين

د. موفق محادين / لا ميديا -
كانت التقديرات الأولية تشير إلى أن طوفان الجوع العربي قاب قوسين أو أدنى  قبيل اندلاع ربيع الفوضى المعروف بـ«الربيع العربي»، والذي استبق طوفان الجوع بإزاحات  معروفة عن المعركة الحقيقية ضد التبعية وتعبيراتها الطبقية والسياسية الفاسدة. وجرى تفريغ هذه المعركة من مضمونها الاجتماعي الوطني تحت عناوين وشعارات شكلية لشرائح من البرجوازية الصغيرة، الطامحة إلى مشاركات نقابية وبرلمانية وحزبية مع الأنظمة التابعة.
لم تكن الحالة العربية المذكورة بعيدة عن الثورات الملونة وفلاسفتها اليهود (سوروس، أكرمان، ليفي، فريدمان... إلخ) وأقلام الاستخبارات الأنجلوسكسونية وظلالها العربية والعثمانية الجديدة والصهيونية وعنوانها، التجريف السياسي، من أجل الفراغ الكبير في الشرق الأوسط، وتحطيم الدول وتفكيك المجتمعات، وصولاً إلى شرق إبراهيمي يمتدّ من الخليج إلى حيفا.
اليوم، مع إفلاس المشروع المذكور، وتداعيات الصمود الأسطوري في غزة، وأزمة خطابات الغرب وسردياته، التي سادت طويلاً، فإن أهم تداعيات طوفان الأقصى المنتظرة والوشيكة، طوفان الجوع الذي يقترب رويداً رويداً، ويؤشر إلى اجتياحات شعبية جارفة، لن تنفع معها الآلاف المؤلفة من قوى القمع وزبانية الإعلام والسياسة المرتبطة بها.
فالبنية الاجتماعية الاقتصادية للمنظومات القُطرية التابعة استنفدت قدرتها على توفير الشروط الموضوعية لدولة الحق والمواطنة والعدالة، والتي تضاءلت إلى مستوى نظام أو شكل من السلطة الشرطية – الجابية، وتحولت إلى ماكينة شاملة للقمع والفساد والنهب، فضلاً عن افتقارها إلى الاقتصاد والمجتمع المنتجين في إطار سياسة اقتصادية وطنية ترسم وتضع خطوطاً حمراً لا يجوز تخطيها فيما يخص الفقراء والبطالة والحد الأدنى من الخدمات والسلع الأساسية للطبقات الشعبية.
ولعل من أهم سمات هذا الطوفان الوشيك:
• عدم اكتراث الشارع العربي لأحاديث السلطات عن تطوير الحياة، سياسياً وبرلمانياً وحزبياً. فبالإضافة إلى اكتشاف الشارع شكلية هذه الأحاديث كمتطلب من متطلبات المساعدات والقروض الخارجية، وإدراك الجهات المانحة لهذا الطابع الشكلي، فما يسيطر على الشارع العربي ويقلقه على مدار الساعة هو الوضع الطبقي، وليس الأكاذيب الديمقراطية التي تهرب إليها مجموعة من الأنظمة بديلاً وخوفاً من ملاحقة فسادها ونهبها وسياسات التجويع التي تمارسها بحق الطبقات الشعبية.
وما عاد في إمكان أي سلطة تابعة فاسدة إخفاء الحجم المروع للقهر الطبقي والبطالة والتجويع في مقابل ما ترتع فيه هذه السلطات من فساد وملذات على حساب الشعب وقوته وعمله في كل مكان. فنسبة البطالة في معظم البلدان العربية لا تقل عن نصف الشبان في سن العمل، والقيمة الشرائية والأجور المدفوعة لا تكفي الحد الأدنى من الحياة الكريمة، ناهيك بالقليل القليل من الخدمات والسلع الأساسية.
وفي مقابل اتساع التعليم المجاني، الأساسي والجامعي، في معظم بلدان العالم المستقلة، فإن أكثر من نصف دخل المواطنين في الوطن العربي بالكاد يغطي نفقات التعليم، بعد أن جرى تهميش المدارس والجامعات الحكومية لمصلحة المدارس والجامعات المرتبطة بفلسفة السوق المتوحشة.
كل ذلك غير الانتشار المروّع للمخدرات وتجارة الجنس، وما تكرسه من انحطاط للكرامة والقيم، بالتزامن مع انحطاط الكرامة السياسية أمام السفارات الأمريكية وإملاءاتها وابتزازاتها.
• اندماج طوفان الجوع العربي في معركة العالم كله ضد الرأسمالية المتوحشة وفلاسفة السوق والتخاصصية وأدواتها، مثل البنك وصندوق النقد الدوليين، كقاتل اقتصادي متوحش، على حد تعبير أحد موظفيهما الكبار السابقين، جون بيركنز.
ويمكن القول هنا إن التحولات الكبيرة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا، والسقوط المتتالي لقوى التبعية والجوع والنهب، المرتبطة بالمراكز الرأسمالية وأدواتها، باتت من سمات العصر ودليلاً على أفول السياسات الرأسمالية الاستعمارية في العالم الثالث، بل إن بعض الدراسات راح يربط بين الاحتجاجات الطلابية والعمالية في بلدان الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة على سياسات بلدانها الإجرامية الداعمة للعدوان الصهيوني على غزة، وبين الأوضاع الاجتماعية المتفاقمة حتى في المراكز الرأسمالية نفسها.
كما هو معروف أيضاً، فإن الثورات الكبرى، من الثورة الفرنسية إلى الثورتين الروسية والصينية، كانت ثورات طبقية أدّت دوراً أساسياً في تغيير العالم ونقله من حالة إلى حالة.
• إذا كانت مجموعة من القوى هربت سابقاً من مواجهة الجوع والقهر الطبقي، عبر إشباع الناس مزايدات كاذبة بشأن تطوير الحياة السياسية بأحزاب كرتونية وبرلمانات تحت السيطرة، فثمة مؤشرات إلى الهروب من سياسات النهب والتجويع والإفقار إلى افتعال احتقانات طائفية ومذهبية وجهوية لتمزيق وحدة الفقراء وشقها، والإزاحة عن الصراعات الطبقية – الوطنية نحو انقسامات مشبوهة (سنةً وشيعة، مسلمين ومسيحيين... إلخ).
• بسبب التقلص والتراجع في فسحة الأمل بشأن الإصلاح الاجتماعي والحد من تغول حيتان السوق والخصخصة وقوى التبعية، ستزداد مساحة العنف الاجتماعي، وقد تتحول إلى مناخات عارمة مع تآكل القوى السياسية وزيادة مساحات البراغماتية والنفعية لدى شرائحها المتعددة، وهو ما يعني سيطرة العفوية المفتقدة الخبرة السياسية على الشارع العربي.
• أخيراً: أياً كانت السمات العامة لطوفان الجوع العربي المقبل، فهو أولاً استحقاق تاريخي لا مناص منه، سيوجه ضربة كبيرة إلى قوى التبعية والفساد، كما وجه «طوفان الأقصى» الوطني ضربة كبيرة إلى قوى الطغيان والشر العالمية.
وهو ثانياً فرصة لقوى المعارضة الوطنية لترميم صورتها وتجديد خطابها وبنيتها، والعودة إلى صدارة الفعل والمبادرة.


كاتب ومحلل سياسي أردني

أترك تعليقاً

التعليقات