فؤاد علي الزريقي

فؤاد علي الزريقي / لا ميديا -

لم تكن الزيدية مجرد إرهاصات فكرية أو آراء كلامية في أصول الدين فحسب، ولكنها كانت حركة ديناميكية استهدفت إلغاء الحالة التي كانت قائمة آنذاك، وهي الدولة الأموية التي كانت تمثل الأرستقراطية القرشية. ويوضح التحليل العلمي أن أية دولة في الحقيقة من حيث نشأتها هي «نتاج ومظهر استعصاء التناقضات الطبقية، فإن الدولة تنشأ بمقدار ما تكون التناقضات الطبقية موضوعياً في حال لا يمكِّن من التوفيق بينها». ومن حيث طبيعتها ليست الدولة قوة مفروضة على المجتمع من خارجه، وليست واقع الفكرة الأخلاقية، ولا كما يدعي هيجل أنها صورة واقع للعدل، ولكنها «هيئة لظلم طبقة من قبل طبقة أخرى، وهي تكوين نظام يمسح هذا النظام بمسحة القانون، ويوطده ملطفاً اصطدام الطبقات». فالدولة الأموية كانت الأداة الطبيعية والسلطة السياسية للطبقة القرشية الأرستقراطية التي تعتمد على الولاءات القبلية والتحالفات العشائرية أكثر من اعتمادها على الدين، وليس صحيحاً ما ذهب إليه ابن خلدون من أن «الدولة العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين».

وكان النظام في الدولة الأموية وراثياً بعيداً عن الشوروية؛ إذ إن مؤسس الدولة «جمع في نفسه بين التقليد البدوي الخالص بانتخاب الرئيس عن طريق زعماء القبائل، وبين الميراث البيزنطي الخاص بالنظام الوراثي».
وكان حكام هذه الدولة يعيشون حياة البذخ والترف، ويقلدون في ذلك الحكام السابقين للشام قبل الفتح الإسلامي. يقول جورجي زيدان عن معاوية إنه «اقتبس من الروم أسباب البذخ ودواعي الترف، وقلدهم في أبهة الملك».
وكان الحكم الأموي استبدادياً، ويقوم على تركيز السلطات كافة بيد الحاكم، وكان يريد إبعاد الجماهير عن المشاركة في الحياة السياسية، كغيره من الأنظمة الاستبدادية، لأن الأنظمة الاستبدادية تريد أن يعتقد الشعب أن «حقيقة السياسة يمثلها الواحد الزعيم الذي هو مصدر كل قانون وكل حق».
فالسلطة في ظل الأنظمة الاستبدادية تكون بديلاً عن العقل، ويكون الحق هو طاعة الحاكم. ولهذا كان الحكم الأموي يروج للجبرية تبريراً لخطه، ولهذا سادت في العصر الأموي الجبرية إلى حد ما. يقول م. غود فروا: «في الخلاف الذي قام حول الجبرية ساند الخلفاء الأمويون فكرة إنكار حرية الإرادة في أفعال الناس»، لأن هذه الفكرة «توحي الى الناس أن الله قد حكم أزلاً أن تصل هذه الأسرة إلى الحكم، وأن ما تعمله ليس إلا أثراً ونتيجة لقدر إلهي محتم». فهدف أي نظام استبدادي هو أن يعتقد المواطن «أنه ليس كائناً حراً بالمعنى المطلق، بل هو كائن مخلوق ومحدد، ومن هنا فهو معتمد على القوة التي أعطته الوجود، وعلى نظام الحياة القائم الذي تسمح هذه القوة بوجوده من خلاله، لذلك فإن للسلطات قدرة كاملة عليه حتى دون رغبته». 
ومن ثم فالجبرية في ظل الحكم الأموي كانت تعبر عن مصالح الطبقة السائدة. إن «أفكار الطبقة السائدة هي أيضاً الأفكار السائدة في كل عصر. إن الأفكار السائدة ليست شيئاً سوى التعبير المثالي عن العلاقات المادية السائدة مفهومة في شكل أفكار».
والخلاصة أن الحكم الأموي لم يكن «حكماً إسلامياً يساوى فيه بين الناس». 
كان حكام هذه الدولة يطبقون سياسة شوفينية على غير العرب، يقول روم لاندرو: «وضع الخلفاء الأمويون للتوكيد على القومية العربية في حياة الامبراطورية التي أسندت جميع مناصبها الرئيسة إلى العرب، وسياسة الامتياز العرقي هذه أورثت الدولة نقمة الشعوب المغلوبة».
وقامت أيام الحكم الأموي حركة شيعية ضد هذا الحكم، بقيادة الإمام زيد بن علي. وكانت هذه الحركة إحدى أكثر الحركات الشيعية فاعلية ضد الأمويين، وامتازت عن باقي الفرق الشيعية المناهضة للأمويين بأن نظريتها المثلى هي «الإمامة النشيطة العاملة، وليست الإمامة السلبية التي تنتهي بهم إلى الإمام الخفي».
إن هذا المقدمة كانت ضرورية لمعرفة المناخ السياسي والفكري الذي نشأت فيه الزيدية. وسأتكلم باختصار عن نشأة ظاهرة التشيع وتبلورها، لأنها تشكل الخلفية التاريخية والأرضية الثقافية لآراء الإمام زيد بن علي، وسأتكلم أثناءه عن الخلاف بين السنة والشيعة حول الإمامة.

تعريف الشيعة
يعرف ابن خلدون الشيعة بما يلي: «ويطلق في عرف الفقهاء والمتكلمين من الخلف والسلف على أتباع علي وبنيه رضي الله عنهم». ويعرفهم ابن حزم الأندلسي: «ومن وافق الشيعة في أن علياً رضي الله عنه أفضل الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأحقهم بالإمامة، وولده من بعده، فهو شيعي، وإن خالفهم في ما عدا ذلك مما اختلف عليه المسلمون، فإن خالفهم في ما ذكرنا فليس شيعياً». ويعرفهم الأشعري: «وإنما قيل لهم الشيعة لأنهم شايعوا علياً رضوان الله عليه، ويقدمونه على سائر أصحاب رسول الله».
التشيع اصطلاحاً يطلق على أتباع علي وبنيه، الذين يعتقدون بأن علياً وذريته أفضل الناس وأحقهم بالخلافة. ولكن أهل السنة يرون الشيعة في أن علياً هو أفضل الصحابة، مع تبجيلهم له، إذ يرى أهل السنة أن الصّدّيق وابن الخطَّاب كذلك أفضل الصحابة. يقول الهيثمي: «اعلم أن الذي أطبق عليه عظماء الملة وعظماء الأمة أن أفضل هذه الأمة أبو بكر الصديق ثم عمر». ويقول البغدادي: «قالوا بتفضيل أبي بكر وعمر وعلي من بعدهما، وإنما اختلفوا في التفاضل بين علي وعثمان رضي الله عنهما».
وعندما أتكلم عن الشيعة فأعني أنصار آل البيت الموالين والمفضلين لهم، لأني أرى ما يذهب إليه غود فروا. والشيعة كانوا في أول ظهورهم أقرب إلى الحزب السياسي منهم إلى فرقة كلامية، ثم بدؤوا في صياغة أفكارهم على نسق فلسفي تبريراً لولائهم السياسي لآل البيت، وهذه الأفكار حددت هويتهم، وميزتهم عن سائر الفرق الإسلامية. «إن التشيع كمذهب فكري وسياسي لم يتكامل بنيانه إلا مع ظهور القول بنظرية النص والتعيين التي أعطت له من المميزات والملامح ما جعله يتخصص ويتميز عن غيره من الاتجاهات والمذاهب».
بدأت بذور التشيع عند وفاة الرسول؛ إذ إنه بعد انتصار المهاجرين على الأنصار، ونجاح مرشحهم «الصدّيق» في تبوُّؤ مركز الخليفة، أظهر الهاشميون استياءهم مما آلت إليه الأمور، إذ كانوا يعتقدون أن علياً هو الأحق بهذا المنصب، لقرابته من الرسول، وسايرهم في ذلك بعض الصحابة، كسلمان الفارسي وأبي ذر الغفاري، لاعتقادهم أن علياً هو الأحق لأنه الأفضل، ليس لقرابته فحسب، ولكن لدوره التاريخي في توطيد أركان الإسلام، «وهو لا يعدهم من جمهور الشيعة وروادهم الأوائل».
 ظهر التشيع خلال الفترة الأخيرة من خلافة عثمان، وبرز في نهاية عهده الذي انتهى بمقتله، وقام قتلته وبايعوا علياً بن أبي طالب الذي أطلق لفظ «شيعي» في موقعة الجمل. ثم تبلور التشيع بعد موقعة صفين. وهناك من يقول إن أفكار الشيعة التي تميزهم لم تصغ إلا رداً على الخوارج الذين يذهبون إلى القول بأن «إقامة إمام ليس واجباً دينياً، بل هي واجبة وجوباً مصلحياً». وقول الشيعة بالعصمة كان رداً على الخوارج في تخطئتهم للقبول بالعهد والتحكيم. ولكن التشيع لم يتحول إلا بعد واقعة كربلاء ومقتل الحسين. «كان التشيع قبل مقتله رأياً سياسياً نظرياً لم يصل إلى قلوب الشيعة إلا في ما بعد قتل الحسين، امتزج التشيع بدمائهم وتغلغل في أعماق قلوبهم، وأصبح عقيدة راسخة في أنفسهم». وكان مقتل الحسين هو الإسفين الذي شق الوحدة الإسلامية، إذ إن «السيف الذي جزر به ابن علي- سبط النبي- قد شق معه وحدة المسلمين إلى اليوم»، وجعل من التشيع عقيدة حية في قلوب بعضهم. 
لكن ما هو موضوع الخلاف الأساسي بين الشيعة والسنة؟ الخلاف هو: هل الدولة واجبة وجوباً دينياً أو مصلحياً؟ يرى أهل السنة أنها «وجبت بالعقل، لما في طباع العقلاء من التسليم بزعيم يمنعهم من التظالم، ويفصل بينهم في التنازع والتخاصم»، بينما يرى الشيعة أن «الإمام يقوم بأمور شرعية كان جائزاً في العقل ألا يراد التعبد بها فلم يكن العقل موجباً لها».
وترجع خلفية الخلاف إلى أن الإسلام اكتفى بتحديد الوظيفة الاجتماعية للدولة، ولم يحدد شكلها. كما أن طريقة انتخاب الخلفاء الأربعة كانت اجتهادية، ولم تخضع لنص ديني. كما أن النبي محمد صلى الله عليه وسلم كان يمارس السلطة الروحية والزمنية، وبعد موته صلى الله عليه وسلم اختلف المسلمون حول خليفته، هل يخلفه في سلطته الزمنية والروحية، أم الزمنية فقط؟ هل أحكام النبي السياسية كانت اجتهادية أو صادرة عن وحي؟ وسألخص رأي السنة ورأي الشيعة باختصار حول هذا الموضوع، لأن الإمامة والسياسة هي سبب الخلاف، وهي حجر الزاوية، في نشأة التشيع. أما من الناحية الفكرية فلا تعدو أن تكون تبريراً أيديولوجياً للمواقف السياسية.
رأي السنة: إن الخليفة يخلف الرسول في السلطة الزمنية فقط. وأحكام الرسول السياسية كانت اجتهادية، والإمامة ليست أصلاً من أصول الدين، لأن الرسول لم يذكرها.
فالإمامة قضية مصلحية وشورى، وهي فرض واجب على الأمة لأجل إقامة الإمام، ينصب لهم القضاة والأمناء، ويضبط ثغورهم، ويغزو بجيوشهم، ويقسم الفيء بينهم، وينتصف لمظلومهم من ظالمهم.
والخليفة عند السنة تتركز في شخصه واجبات الجماعة الإسلامية، فهو يجمع السلطة القضائية والإدارية، ويتقلد منصبه بواسطة انتخاب. «إن طريقة اختيار عقد الإمامة للإمام في هذه الأمة، الاختيار بالاجتهاد». وتنعقد الإمامة «بمن يعقدها لمن يصلح للإمامة إذا كان العاقد من أهل الاجتهاد والعدالة».
وشروط الإمامة عند السنة: (أ) النسب من قريش، (ب) العلم على مستوى المجتهدين في الأحكام الشرعية، (ج) العدل، (د) أن يكون مصلحاً لماله وحاله، (هـ) غير مرتكب كبيرة ولا مصر على صغيرة. ويرى أهل السنة أن الخليفة يجتهد، وليس معصوماً.
 رأي الشيعة ومذهبهم جميعاً متفقون عليه: أن «الإمامة ليست من المصالح العامة التي تفوض في نظر الأمة، ويعين القائم بها بتعيينهم، بل هي ركن الدين وقاعدة الإسلام». يرى الشيعة أن الإمام يجمع بين السلطة الزمنية والروحية.
الخلاصة: يرى أهل السنة أن الإمامة ليست أصلاً من أصول الدين، وأحكام الرسول السياسية اجتهادية، والخليفة يخلف الرسول في السلطة السياسية فقط، وهو مجتهد وغير معصوم، ويكون انتخابه بإجماع الأمة وأصحاب الحل والعقد، ولكن الشيعة يرون أن الإمامة أصل الدين. أدى هذا الاختلاف في الإمامة والسياسة بين السنة والشيعة، إلى تفريق وحدة كلمة المسلمين إلى يومنا هذا. يقول الشهرستاني: «وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة، إذ ما سل سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سل على الإمامة».
بجَّل الشيعة علي بن أبي طالب لعدة عوامل، منها أنه ابن عم الرسول وزوج ابنته فاطمة، ولدوره التاريخي في نشر الإسلام، إذ اشترك في كل الغزوات باستثناء غزوة تبوك بأمر الرسول، إضافة إلى كونه أعلى الصحابة علماً ومعرفة. قال الرسول: «أنا مدينة علم وعلي بابها». وكان في خلافته نموذجاً للحاكم العادل الذي لم يستغل منصبه لتحقيق منافع مادية له ولأسرته، حتى إنه باع مرة سيفه، ولما سئل أجاب: «لو كان عندي أربعة دراهم ثمن إزار لم أبعه».
وكان يعيش حياة الزهد والتقشف، وصحح الأحوال الاجتماعية والسياسية التي سادها البعد عن المثل العليا الإسلامية في أواخر خلافة عثمان، إذ أعاد إلى بيت المال ما نهبه الولاة الأمويون، وعزل كثيراً منهم، وكان يحاسب ولاته حساباً دقيقاً، وساوى في العطاء بين المسلمين جميعاً، وأعاد الاعتبار للأنصار الذين ظلموا أيام عثمان بن عفان، وحَدَّ من تعاظم نفوذ الأرستقراطية القرشية التي أثرت في ذلك على سبقها في الإسلام وصحبة الرسول. وزاد من تبجيل أتباعه له اعتقادهم أنه ظلم في عدم تولي الخلافة بعد الرسول مباشرة، وكونه على حق في جميع حروبه (الجمل، صفين، الحروب ضد الخوارج). وازداد التبجيل له لهزيمته في معاركه المشروعة ضد الأمويين، بسبب تخاذل أنصاره، واستشهاده غدراً بيد أحد أتباعه السابقين، علاوة على صدق نبوءته بأن انتصار الأمويين يؤدي إلى سيادة الظلم. إن علياً كان في الحقيقة كما وصفه ابنه الحسن يوم استشهاده: «ألا إنه قد مضى في هذه الليلة رجل لم يدركه الأولون، ولن يرى مثله الآخرون». ولكن أهم سبب للتبجيل والغلو في ذلك عائد إلى أن الناس يبجلون المثل العليا مجسدة في شخص، وبعد موته ينسون المثل العليا ويبجلون الشخص.
بعد استشهاد علي تحولت الإمامة والزعامة الروحية إلى الحسن الذي تنازل عن حق الإمامة لمعاوية في عام الجماعة، ومات في خلال حكم معاوية، وجاء يزيد بن معاوية كخليفة للمسلمين بديلاً عن أبيه، وصدم المسلمون بتوريث معاوية الخلافة لابنه، متجاوزاً في ذلك مبدأ الشورى. وزاد من صدمتهم أن يزيداً كان فاسقاً وماجناً، ولكنه أخضع المتذمرين والساخطين بالعنف. وقد رفض الخضوع الحسين بن علي الذي نظر إليه الشيعة كإمام لهم بعد وفاة الحسن. رفض الحسين مبايعة يزيد، وأراد السفر إلى الكوفة، وكان شيعتها يطلبون مجيئه لمبايعته إماماً، ولكن انتهت آماله في القضاء على الحكام الأمويين الذين يصفهم بأنهم «أظهروا الفساد، وعطلوا الحدود، واستأثروا بالفيء»، إلى سراب في كربلاء التي قتل فيها مع أنصاره الأوفياء. وكان سبب كارثة كربلاء يعود إلى تخاذل وتذبذب أنصاره الكوفيين، وحزم الوالي الأموي عبدالله بن زياد.

... يتبع

أترك تعليقاً

التعليقات