محمد محمد السادة

السفير محمد محمد السادة / لا ميديا -

سوريا شمس العُروبة، كانت ومازالت أكثر فهماً للواقع العربي ولحقيقة الأعراب، فكانت مُحقة بامتناعها عن حضور أقوى القمم العربية، وهي قمة الخرطوم عام 1967 المعروفة بقمة اللاءات الثلاث (لا صلح، لا تفاوض، ولا اعتراف بالعدو «الإسرائيلي»)، بل ودعت سوريا الدول العربية للحضور بجيوشها إلى حرب تحرير شعبية ضد العدو «الإسرائيلي»، ولكن لا حياة لمن تُنادي. 
اليوم وبعد 53 عاماً من قمة اللاءات الثلاث استطاع العدو «الإسرائيلي» تحويل كل لا إلى نعم، بل وتوج كل مخرجات القمم العربية بحفلة القرن للتطبيع المجاني، التي يستحق فيها وبجدارة النظامان السعودي والإماراتي، اللذان يقودان صفقة القرن وبيع القضية الفلسطينية، وسام عار التطبيع الذي ستكون مآلاته حتمية السقوط لأنظمة التطبيع، فمن لم يُسقطه ما يُسمى «الربيع العربي»، سيُسقطه التطبيع مع العدو «الإسرائيلي»، وعلى من يستعد من المهرولين للانضمام لنادي التطبيع أن يتساءل أولاً عما جنته دول المواجهة كمصر والأردن من تطبيعها مع «إسرائيل»!
بات تطبيع النظام السعودي مع العدو «الإسرائيلي» تحصيل حاصل، وفق ما كشفهُ وزير الاستخبارات «الإسرائيلي» إيلي كوهين في لقاء مع قناة (بي بي سي)، حين أكد أن السعودية وعدداً من الدول العربية كالسودان وعُمان والكويت في طريقها للتطبيع. وينظُر النظام السعودي إلى الوضع العربي والإسلامي المتردي بأنه مُشجع ويُمثل فرصة سانحة للتطبيع. وما تصدر النظامان الإماراتي والبحريني للتطبيع إلا لقياس ردود الفعل الرسمية والشعبية التي تبدو مُطمئنة من وجهة نظر النظام السعودي، حيث لم تتخذ الجامعة العربية أو منظمة المؤتمر الإسلامي أي موقف، ولم تصدر إدانات ورفض رسمية إلا عن بعض العواصم الحرة، كصنعاء ودمشق وطهران وتونس والجزائر.
الكارثة ليست في أن يُطبع النظام السعودي فحسب، بل في أن هذا التطبيع السعودي سيجُر العديد من الدول العربية والإسلامية للتطبيع، لاسيما تلك الدول التي تنظر للسعودية من خلال الاعتبارات الدينية كواجهة إسلامية تضم أماكن مقدسة كبيت الله الحرام الذي يقصده ملايين المسلمين سنوياً لأداء الحج أو العُمرة. والأَدْهى والأَمرُّ من ذلك أن النظامين السعودي والإماراتي لن يكتفيا بالتطبيع وحسب، بل وسيقودان حملة التطبيع والإغراء بالأموال لكل من ينضم لنادي التطبيع.
اليوم التاريخ يُعيد نفسه، لذا ليس من المُستغرب أن يُطبع النظام السعودي مع «إسرائيل»، فهذا التطبيع ما هو إلا امتداد لتطبيع بني أمية مع اليهود. وليس من المستغرب أيضاً أن يكون ولي العهد السعودي محمد بن سلمان مايسترو التطبيع، فهو امتداد لطاغية عصره هشام بن عبدالملك بن مروان الذي طبع مع اليهود، ووصل به الاستعلاء والغرور أن يقول للناس: «والله لا يأمرني أحد بتقوى الله إلا ضربت عنقه»، وسمح في مجلسه ليهودي بسب النبي الأعظم محمد عليه وآله الصلاة والسلام، بل وَغَضِبَ وامتعض من موقف الإمام زيد عليه السلام الذي لم يسكت وانتهر ذلك اليهودي، وما هذه الحادثة إلا نموذج مصغر يختزل التطبيع مع من يُعادون الله ويتحدّون إرادة الأمة.
ينظر الأمير الصغير محمد بن سلمان لكرسي الملك من خُرم إبرة، معتقداً بأن رؤية المملكة 2030 التي لاتزال حبراً على ورق، أو سياسة الانفتاح والترفيه للتطبيع مع الشعب السعودي، ستكون مقدمة تؤهله للتطبيع مع «إسرائيل» التي طُبعت صورتها كعدو أزلي في أذهان أجيال نشأت على المذهب الوهابي المتطرف الذي يرفض الآخر. ويظُن بن سلمان أن من السهل استبدال العدو الحقيقي للأمة بعدو وهمي هو إيران، غير مدرك للعواقب والأخطاء الكارثية نتيجة سياساته التدخّلية في شؤون دول المنطقة، والعدوان الغاشم على اليمن الذي تتوالى فيه هزائمه العسكرية، بالإضافة لما يُعانيه الداخل السعودي من خلافات حادة داخل العائلة الحاكمة وتزايد المعارضة العلنية لتوليه مقاليد الحكم. كما أن الظلم والاستبداد المُمارس ضد أَبْنَاء جِلْدَتِهِ وصل إلى حد ملاحقة وقتل المعارضين أينما كانوا، وما جريمة قتل الصحفي خاشقجي إلا مثال. وعلى الصعيد الاقتصادي فهناك تدهور وعجز مالي لم يسبق أن واجهته مملكة النفط من قبل. ورغم كل ذلك يسعى لتتويج فشله السياسي والاقتصادي والعسكري بكأس التطبيع مع عدو الأمة، الأمر الذي يؤكد السقوط، وقرب انتهاء دورة الحياة للدولة السعودية التي أصبحت في طور الهرم والفناء وفق نظرية الدولة لابن خلدون، وهذه سنة الله في الظالمين قبل أن تكون نظرية.

هولوكوست التطبيع
العدو «الإسرائيلي» يعرف جيداً أنه الرابح الوحيد من التطبيع المجاني، بل وجاهز لحصد ثمار حماقات أنظمة التطبيع التي تسعى لفتح الأبواب أمام انتصار المشروع الصهيوني التوسّعي على حساب كل دول الأمة وشعوبها ومصالحها ومستقبلها، وفي مقدمتها فلسطين.
مثلما نجحت «إسرائيل» في إجبار ألمانيا على الاعتذار ودفع الأوروبيين للتعويضات عما يُسمى «الهولوكوست»، سيكون هناك «هولوكوست» جديدة جاهزة لتحصيل تعويضاتها، حيث ستكون أولى قطوف التطبيع مطالبة «إسرائيل» العرب بالاعتذار عما تسميه تعرض اليهود العرب لمجازر واضطهاد، وستسعى لتطبيق قانون الكنيست «الإسرائيلي» الصادر عام 2010 الذي ربط السلام مع الدول العربية بدفعهم للتعويضات عما سماه نهب ممتلكات اليهود العرب الذين غادروا دولهم إلى «إسرائيل». وتُقدر هذه التعويضات وفق تصريحات الوزيرة جيلا غامليل، وزير ما يُسمى المساواة الاجتماعية «الإسرائيلية»، بأكثر من 250 مليار دولار.
بالإضافة للمكاسب المالية والسياسية هناك مكاسب اقتصادية هائلة، حيث ستُفتح الأسواق أمام الصناعات والاستثمارات «الإسرائيلية». كما سيُعزز التطبيع من التفوق العسكري والتكنولوجي لـ»إسرائيل» لتعمل كشرطي للمنطقة بدعم أمني وعسكري من قبل أنظمة التطبيع، مع توجيه بوصلة الصراع مع العدو الصهيوني إلى النزاعات الطائفية والعرقية، ورفع وتيرة السياسات العدائية تجاه دول محور المقاومة. كما سينتقل مصدر القرار لتلك الأنظمة من واشنطن إلى «تل أبيب». أما عراب التطبيع السهل، الرئيس الأمريكي ترامب، فسيوظف ويَسُوقُ هذا الإنجاز الذي عجز عنه سلفه من الرؤساء لدعم حملته الانتخابية التي تواجه صعوبات حقيقية.

صنعاء تكسر طوق التطبيع
التطبيع في أبسط معانيه يعني التخلّي عن فلسطين وقضيتها العادلة، فمن يُطبع مع العدو «الإسرائيلي» لا يمكن أن يكون مع الحق الفلسطيني، ولكن هذا التطبيع في جوهره لا يُعبر عن إرادة الشعوب العربية والإسلامية الرافضة للتطبيع، لذا فهو تطبيع بين أنظمة عائلية ومستبدة وكيان العدو «الإسرائيلي»، لذا مخطئ من يظن أن الصراع العربي ـ «الإسرائيلي» قد انتهى، فمثلما يوجد محور التطبيع، هناك محور المقاومة، الذي يُدرك أن المستهدف من التطبيع ليس فلسطين وإيران فحسب، بل كل دول محور المقاومة، التي لن تسمح بسيادة العدو «الإسرائيلي» على المنطقة.
صنعاء الطرف الأكثر تعرضاً للعدوان والحصار الشامل، تعيش منذ أكثر من خمس سنوات ما يُراد فرضه على دول محور المقاومة من طوق عُزلة سياسية ودبلوماسية، وحصار اقتصادي وعسكري شامل. ورغم ذلك قدمت صنعاء نموذجاً فريداً من الصمود في مواجهة تحالف العدوان، وأثبتت أنها رهان رابح في إطار محور المقاومة. كما أن الأهمية الاستراتيجية لليمن وما يُشكله مضيق باب المندب من عامل ردع قوي يُعزز حضور محور المقاومة ويكسر طوق العُزلة الذي يُراد فرضه على دوله، ولذا فهناك حاجة مُلحة لا تقبل التأجيل والتسويف لرفع وتيرة التعاون والتنسيق بكافة أشكاله بين دول محور المقاومة. ويقتضي ذلك تحركاً فاعلاً لدول محور المقاومة، للمساهمة في كسر ما تُعانيه صنعاء من عزلة سياسية ودبلوماسية ومُعاناة إنسانية مفروضة، وتبني ذلك في المحافل الدولية ومن خلال علاقاتها الدبلوماسية، لاسيما بعد اتضاح أهداف دول العدوان على اليمن التي تقود قطار التطبيع مع العدو «الإسرائيلي» وتهدف إلى السيطرة على سواحل وجزر اليمن المشرفة على حركة الملاحة الدولية. ولكن إذا ما استمر ترك صنعاء وحيدة في مواجهة عدوان محور التطبيع ومخططاته، سيكون لذلك انعكاسات سلبية على محور المقاومة ككل.
ختاماً، من حق الشعب الفلسطيني العيش على أرضه بحرية واستقلال وكرامة، أسوة ببقية شعوب الأرض. ولن تنعم المنطقة بالسلام والاستقرار والتعايش مادام الاحتلال «الإسرائيلي»، وما دامت القضية الفلسطينية دون حل عادل وشامل. ومن يظُن أن التطبيع مع العدو «الإسرائيلي» سينتصر على الحق الفلسطيني فقد أساء الظن بالله.

أترك تعليقاً

التعليقات