محمد محمد السادة

السفير محمد السادة / لا ميديا -

تستمر الجهود الحثيثة التي تقودها الولايات المتحدة لتشويه صورة إيران ومنع أي تقارب «عربي- إيراني»، بل وتحويل بوصلة العداء العربي من كيان العدو «الإسرائيلي» نحو إيران ومحور المقاومة، وإيكال هذه المهمة العدائية لمحور التطبيع الذي لن تشفع له الوصاية والارتهان لضمان الحماية الأمريكية لأنظمته، فالعدوان على اليمن وتطورات المنطقة تؤكد أن الولايات المتحدة حليف لا يُعتمد عليه لضمان أمن الأنظمة الخليجية، 
فرغم ما تملكهُ من تكنولوجيا عسكرية متقدمة لم تستطع الولايات المتحدة منع الضربات اليمنية العسكرية الموجعة في العمق السعودي، كضربة «أرامكو» عصب الاقتصاد السعودي، التي أوقفت أكثر من نصف الإنتاج السعودي من النفط، ولم تحرك الولايات المتحدة ساكنا حيال الهجوم الذي استهدف أربع ناقلات نفط قبالة سواحل الإمارات، بل إن الهيبة الأمريكية تلقت صفعة إيرانية بالستية باستهداف قاعدة عين الأسد الأمريكية في العراق، وهي أول ضربة عسكرية تتلقاها الولايات المتحدة منذ الحرب العالمية الثانية، وجاءت رداً على اغتيال الشهيدين قاسم سليماني وأبو مهدي المهندس.
هذه الشواهد كافية لكي يعيد النظامان السعودي والإماراتي النظر في سياساتهما التدخلية في شؤون دول المنطقة، وعلاقتهما بإيران التي تُبادر لمد يد السلام، حيث قامت فور رفع العقوبات الدولية المفروضة علي تسليحها بإعلان استعدادها لتوقيع معاهدات عسكرية وأمنية مع دول الخليج، إدراكاً منها أن أمن المنطقة مسؤولية جماعية تتحملها دولها، كما سبق أن اقترحت توقيع اتفاقية عدم اعتداء مع دول الخليج، ولكن الأعراب لا يُجيدون التقاط فرص السلام، بل وينظرون لإيران بعيون ترامب الذي يجعل من إيران دولة مارقة تُهدد أمن واستقرار المنطقة، لا لشيء إلا لأنها دولة تملك قرارها، ولديها طموحات سياسية واقتصادية وعسكرية، وهذا حق لكل دولة في إطار الوسائل المشروعة.
في اليمن، وجدت الولايات المتحدة ووكلاؤها في المنطقة فرصة لتبرير عدوانها العسكري واستهداف إيران، من خلال تُهم وادعاءات بالتدخل الإيراني في اليمن وتبعية صنعاء، لذا فما تشُنه من حرب شاملة، لاسيما إعلامياً وسياسياً واقتصادياً، لا يعدو كونه يعكس مخاوف أمريكية ويغذي مخاوف سعودية بأن استقلال صنعاء وتحررها من الوصاية يُهدد مصالحها، فالتدخل الحقيقي في شؤون اليمن والمنطقة يُجسدهُ الغرب والولايات المتحدة عبر تواجد أساطيلهم وقواتهم على المياه الإقليمية وأراضي بعض الدول كالسعودية والإمارات والبحرين. وبدورها تُجسد هذه الدول كل معاني التبعية، على خلاف ما تقوم به إيران تجاه اليمن من مساندة ومواقف مشرفة لخصها وزير الدفاع الإيراني أمير حاتمي بقوله: «إن دعم إيران لليمن يرتكز على البعد المعنوي أولاً، وهو بُعد يُثبت معادلة أن في المنطقة دولاً وشعوباً تعارض الظلم والعدوان»، لذا فالمواقف الإيرانية تُعد انتصاراً لمظلومية الشعب اليمني الذي تُرتكب بحقه أبشع الجرائم المخالفة للشرائع والقوانين والأعراف الدولية.
وفي حين تخلى المجتمع الدولي عن مسؤولياته تجاه اليمن، وتركه يواجه عدوان تحالف دولي، كانت إيران حاضرة بمواقف علنية داعمة لليمن ومظلوميته، وتُدين العدوان والحصار، وتدعو إلى السلام العادل. ولأن إيران تملك تجربة كبيرة في التعامل مع العداء والحصار الأمريكي والغربي، فهي أكثر فهماً لواقع المؤامرة والعدوان الذي يتعرض له اليمن. كما أن مواقفها تستند إلى مبادئ الثورة الإيرانية التي تدعم الشعوب المستضعفة والمظلومة، لاسيما وأن القيادة الإيرانية تُدرك مدى بشاعة الظلم الذي يتعرض له بلد وشعب له مكانتُه التاريخية والحضارية العريقة، ولا تنطلي عليها ممارسات دول العدوان والمأجورين ممن يصطادون في الماء العكر ويحاولون التقليل من الصمود الأسطوري للشعب اليمني العزيز، وكل انتصارات صنعاء التي يعمدون لإلصاقها بإيران، لتستمر تبريراتهم وادعاءاتهم بالنفوذ الإيراني وتبعية صنعاء كمبرر لاستمرار العدوان. ومع ذلك فكل انتصار لصنعاء هو انتصار لطهران ومحور المقاومة، فالخندق واحد، ولا ضَيرَ أن تستثمر وتوظف دول وأطراف المحور تلك الانتصارات لتحقيق مزيد من الأهداف والمصالح المشروعة، كما أن ما ينطبق على صنعاء ينطبق على طهران.

قواسم مشتركة وتطلعات مشرفة
إن ما يجمع صنعاء وطهران من قواسم مشتركة لا يعني بالضرورة التطابق في التوجه والرؤى، خصوصاً في ظل وجود المشاريع الذاتية المرتبطة بالخصوصية النابعة من عوامل تاريخية وثقافية واجتماعية وبيئية... وغيرها، ومع ذلك فأصحاب المصالح والسذج يختزلون علاقات صنعاء وطهران في البُعد المذهبي، متجاهلين عوامل حيوية أخرى كسبب للتقارب، مثل العدو «الإسرائيلي» ومركزية القضية الفلسطينية، والتهديدات الخارجية، بالإضافة للمصالح والتطلعات المشتركة. كما أن من الطبيعي أن تتقارب وتتعاون الشعوب والدول الحرة.
ولعل أهم القواسم المشتركة بين ثورة 21 أيلول/ سبتمبر 2014 والثورة الإسلامية الإيرانية 1979، هو الثورة ضد الظلم والوصاية الخارجية، فقد كان نظام «صالح» تحت الوصاية الأمريكية ـ السعودية، فيما كان نظام الشاه تحت الوصاية الأمريكية. كما يوجد توافق في العديد من الرؤى والأهداف لكلتا الثورتين، فقد استلهمت ثورة 21 أيلول من الثورة الإسلامية الإيرانية فكرها الثوري ضد الظلم والوصاية كنموذج يُحتذى به، فيما مثل الصمود الأسطوري الذي يُسطره اليمنيون في وجه تحالف العدوان منذ أكثر من خمس سنوات ثقافة حية تختزل في طياتها موروثاً تاريخياً وحضارياً عريقاً لايزال حاضراً لديهم في الوعي واللاوعي، بل وفي جيناتهم، مما جعلهم محط إعجاب وتقدير إيران ومحور المقاومة، بل وكل الأحرار في العالم. وقد لخص سيد المقاومة حسن نصر الله ذلك الإعجاب مخاطباً اليمنيين قائلاً: «يا ليتني أستطيع أن أكون معكم تحت راية قائدكم العزيز والشجاع».
إن من يمتلك مشروعه الذاتي لا يقبل أن يكون مشروعاً لغيره. وهذا حال صنعاء، وثورة 21 أيلول، التي قامت رفضاً للهيمنة والوصاية، ومن أجل استعادة الهوية من خلال استنهاض المبادئ والقيم والتاريخ المشرف. وما يُثبت مصداقية هذا التوجه الثوري واستقلاليته هو تنامي الالتفاف الشعبي حول أهداف هذه الثورة التي شُن عليها عدوان دولي تحالفت فيه أكثر من 15 دولة، فكانت التضحيات الجليلة، ودماء الشهداء الزكية، تحصيناً للثورة ومشروعها، ومنعاً للاستحواذ، ورفضاً مطلقاً أن يكون اليمن مشروعاً لدولة أخرى.

مستقبل العلاقات الثنائية
تملك القيادة الإيرانية رؤية وقراءة جيدة لمستقبل المنطقة، وما سيطرأ عليها من متغيرات يكون اليمن فيها قوة إقليمية صاعدة، فما يشهدهُ من تغييرات بُنيوية تستند إلى مشروع وطني للنهوض وإعادة الاعتبار لليمن سيُحدث تحولاً كبيراً في الجغرافيا السياسية للمنطقة، وسلوك اللاعبين الإقليميين والدوليين. كما أن الأهمية الجيوسياسية لليمن وسيادته على مضيق باب المندب يجعله متحكماً بحركة الملاحة والتجارة الدولية في المضيق، بالإضافة لما يمتلكه من ثروات طبيعية هائلة، ومكانة حضارية وتاريخية تُشكل عوامل جذب تجعل اليمن محط اهتمام إقليمي ودولي. وبالمثل فإيران دولة إقليمية كُبرى لها أهمية جيوسياسية، فتحكمها بمضيق هُرمز الاستراتيجي يُشكل مع مضيق باب المندب كماشة ردع قادرة على كسر أذرع القوى المتحالفة ضد محور المقاومة.
انطلاقا من هذه المعطيات، يأتي تعامل إيران مع الدولة اليمنية وشرعيتها في صنعاء. ويُمثل إعادة تبادل التمثيل الدبلوماسي بين البلدين، وعودة سفير طهران إلى صنعاء رغم استمرار العدوان. رسالة واضحة تُترجم مواقف إيران المعلنة، وتعكس جدية التوجه نحو تطوير العلاقات. كما يُمثل ذلك انتصاراً سياسياً للطرفين، بل وسبقاً إيرانياً نحو كسر طوق العزلة السياسية والدبلوماسية المفروض على صنعاء، وبذا تكون العلاقات الثنائية التي تتخذ مساراً علنياً عبر السفارات والزيارات المتبادلة وتوقيع الاتفاقيات علاقات تتسم بالتكافؤ والندية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية وفقاً للقانون الدولي، وعلى المنوال نفسه تدعو صنعاء إلى عودة العلاقات الثنائية مع الدول الشقيقة والصديقة.
ما سبق يُفند الادعاءات بالتدخل الإيران في اليمن. ومخطئ من يظن أن التوظيف والاستثمار للعلاقات الثنائية يُعد تدخلاً، فمن منظور سياسي وفي إطار المصالح الوطنية، واستراتيجية الربح للأطراف المعنية (Win-Win Strategy) من الطبيعي أن هناك استثماراً وتوظيفاً للعلاقات بين صنعاء وطهران بما يخدم مصالح الطرفين، ومصالح محور المقاومة، وإن بدرجات متفاوتة، في إطار سقف يستحيل معه أن تتخذ العلاقات الثنائية شكل التبعية. ولا يمنع في إطار المصالح الاستراتيجية لمحور المقاومة وأمنه الجماعي تبادُل الأدوار، فطهران تُجيد لعبة الشطرنج الدبلوماسية وبناء التحالفات، وصنعاء لها من الحكمة اليمانية وسام، ومن القوةٍ والبَأْس ما يقلب المعادلات على الطغاة، وكلا الطرفين له مِراس في معركة النفس الطويل، وبذلك تتكامل الأدوار.
ختاماً، سيظل المأجورون ومن خسروا مصالحهم يصورون العلاقات بين صنعاء وطهران على أنها علاقات نفوذ وتبعية، فيما يبقى تنامي العلاقات بين البلدين مستقبلاً، ودحض تشكيك الغرب ومخاوف الأعراب، مرهوناً بتعزيز عوامل الثقة والتحالف، بالإضافة لاستمرار توافر عوامل التكافؤ لهذه العلاقات، ليبقى توصيفها الدقيق مُجسداً لواقعها بأنها علاقة «تحالف استراتيجي» ينطلق من المصالح المشتركة كمُحدد رئيسي للتحول من التقارب إلى التحالف.

أترك تعليقاً

التعليقات