روبير بشعلاني

روبير بشعلاني -

في حزيران 1967، سادت في الشارع العربي حالة من الضياع والغموض والصدمة، تشبه -إلى حد ما- ما يعيشه الشارع اليوم بعد ترهل الربيع العربي وانكشافه. لحظتان تاريخيتان لا يجمعهما بالحقيقة إلا النتيجة وعمق الصدمة.
ففي 1967، جاءت الصدمة من هزيمة مشروع ينجدل حول مشروع واقعي يقوم على فكرة إعادة تجميع عوامل العملية الإنتاجية الموحدة للدولة، وعلى التحكم بمفاصل السيادة، وبناء حياة داخلية متمحورة حول الذات. الصدمة كانت نتيجة هزيمة مشروع معروف ومحدد تعرفت الناس عليه وتعرفت به. كانت اللحظة لحظة خسارة كبيرة أطلقت العنان لتفكير عميق، انتهى أغلبه بعملية جلدٍ للذات والتفتيش عن أسبابٍ للهزيمة داخلية وبنيوية. ولم يتوقف الناس عند موازين القوى ومواقف القوى الدولية، التي كانت بمجملها، عدوة وحليفة، غير مرحبة بالمشروع الناصري بمعناه التوحيدي.
في 1967، كانت الهزيمة إيذاناً بتوقّف دينامية التوحيد ودينامية بناء الدولة العصرية الحديثة المستقلة وغير التابعة، ونقطة تحوّل نحو دينامية التفتت والعودة باتجاه الانكفاء نحو العناصر الطبيعية الأولى للمجتمع، أي نحو القُطر والقرابة الطبيعية، الرحمية منها أو الدينية. وفي رحم هذه الدينامية، ولدت حركة التحرر الوطني الفلسطينية كردة فعل تنسجم مع دينامية التفتت، بالرغم من المظاهر الخادعة والأوهام التي رُكبت على هذه الحركة الانعزالية والانفصالية العربية. لقد كانت النخب بحاجة إلى موضوع تُعلّق عليه أحلامها المكسورة، فلم تجد أفضل من الركوب في مركب الهزيمة والتذرع بذريعة قيام حركة الشعب المسلح بديلا للأنظمة الفاشلة.
اُكل الثور الأبيض يوم طلع القرار الوطني الفلسطيني "المستقل"، البوصلة. يوم بدأ كلٌ منا يفكر ببناء دولته السايكس- بيكوية كيفما كان، ولو على "ظهر حمار".
المشروع الناصري كان بتطوره المتدرج يستوعب عمق المشكلة وتعقدها، ويحاول أن يُجيب عليها بالتدريج، حتى توصّل إلى جواب مركّب. لقد أدرك هذا المشروع دور التجزئة في منظومة النهب الخارجي. كما أدرك دورها في تعميق التخلف الاقتصادي ثم الاجتماعي في بلادنا، من خلال خلق الشروط المؤبدة له كل يوم. ولقد أدرك أن نهب الأرض الفلسطينية لم يكن إلا ”أثراً من آثار الاستعمار“، لا تكفي محاربته وحده لتتحرر، بل كان يركّز في وعيه على شمولية المعركة للمنظومة ككل. فلا نصر ممكن بالنسبة له بدون التحرير وبدون التوحيد وبدون التنمية الاقتصادية وخلق مؤسسات الدولة الحديثة. لم يعمل ناصر على تحرير فلسطين كما لو كانت البوصلة. بل كان يعرف أن مشكلتنا العربية في ظل احتلال سايكس-بيكو، الذي رعاه الاستعماران الفرنسي والانكليزي، وتسلمه وواصله الناهب الأميركي من بعدهما. هي مشكلة بعدّة ركائز، قام الاستعمار ببلورتها لكي يسيطر أطول فترة ممكنة على هذه المنطقة المهمة.
كان المشروع الناصري يعي أن الناهب الخارجي يُعقّد المشكلة عبر منظومة مركبة من التجزئة، تشتمل على احتلال أرض فلسطين من خلال طائفة ضائعة في التاريخ، أي اليهود، تبحث عن ملجأ لها في الأرجنتين، أو أفريقيا؛ فخلق الاستعمار لها دولة هنا لكي يتم استعمالهم كوقود لمدافع الغرب الغازي. كان يعي إذن أن الناهب خلق التجزئة وعززها بـ”دولة“ أجنبية في قلبها، تجعل من إعادة اللحمة أمراً شبه مستحيل من الناحية العملية. وكل ذلك ليس من أجل احتلال الأرض، بل من أجل إخضاع شعوب المنطقة لمنطق نهب الثروات والموارد المحلية، وتجويف الإنتاج وتعطيش السوق إلى الحاجات والبضائع الأجنبية.
فهم ناصر أن التخلف الاقتصادي المقصود هو توأم احتلال فلسطين وتجزئة السوق العربية الموحدة. وأدرك ناصر أهمية تسليم ”كل بئر لأمير قرابي محلي“، أو لناطور حراسة، كما جاء على لسان تشرشل في يوم من أيام التقسيم. هذا الإدراك جعل ناصر يعمل بمنهجية ودراسة للأولويات. فقرر البدء ببناء مركز للدولة الموحدة، مركزاً قطباً، يعمل من خلاله على البدء بكسر أوليات التبعية وبناء الاقتصاد الوطني، في الوقت ذاته الذي عمل فيه على بناء قوة عسكرية لتحرير فلسطين باعتبارها جزءا لا يتجزأ من الأمة الواحدة، من الدولة والسوق الموحّدين. كما عمل على جبهة النواطير القرابية وحاول إسقاطها بالقوة.
إذن، كان المشروع الناصري شاملا لكل مرتكزات منظومة سايكس-بيكو، أو لنقُل شاملا لبنية التشكيلة الاجتماعية التي بناها الاستعماران الانكليزي والفرنسي بروية ودقة على شكل دول ”مستقلة“ بحدود ”نهائية“. أدرك المشروع التوحيدي حدود ومضمون المنظومة الاستعمارية، وعمل على تهديمها قطعة قطعة، عبر أولوية بناء المركز والاقتصاد المستقل.
أطلق المشروع الناصري أيضاً ما عرف فيما بعد بمشاريع الدول الصاعدة، ودفع ناصر ثمن ريادته في هذا المضمار. لقد جاء قبل زمانه وأوانه ربما؛ فجاء في زمن كانت الامبريالية فيه ما تزال متماسكة وقوية، وكان بوجهها قوة صاعدة تعاني كثيراً من صعوبات الصراع. فكانت تقدِّم التنازلات أحياناً هنا وهناك من أجل حماية الأساس. وكان المشروع الناصري أحد هذه الأثمان ربما، كلياً أو جزئياً. على أي حال، شكّل المشروع الناصري أول دينامية تاريخية صاعدة يومها، وفرصة ودرساً لشعوبنا الممزقة، دولا وقبائل وطوائف، في كيف يمكن الخروج من المستنقع.
وكما شكلت هزيمة 67 نقطة تحوّل من الدينامية الصاعدة والموحدة إلى دينامية التفتت والتراجع والتبعية، أي من دينامية الدولة إلى دينامية الدويلات الطائفية والقبلية المعلنة أو شبه المعلنة؛ وكما كانت الهزيمة يومها نقطة تحوّل تاريخية؛ فإن هزيمة الربيع العربي اليوم هي على الأغلب نهاية الدينامية التفتيتية التي بدأت انطلاقتها يوم هزيمة 67.
الربيع العربي كمشروع دواخلي لتفتيت المفتت وخلق نزاعات على السلطة بين الجميع والجميع، انتهى اليوم في سوريا، وهو في تراجع سريع في الكثير من الدول الأخرى. الدينامية التفتيتية هي في نزعها الأخير بالمنطقة. مشروع تعزيز المفتت ببنى قرابية طائفية جديدة لم ينجح. مشروع خلق شروط نزاع طويلة بين الطوائف، ولاسيما الشيعية والسنية منها، فشل اليوم، وهذا هو سبب الضياع الحالي. ضياع اليوم صحي، أما ضياع ما بعد الهزيمة فكان مَرَضياً.
ضياع اليوم ناتج عن وهم الظن بأن المشروع الديمقراطي قد فشل، بينما الحقيقة أن الظروف لم تكن مهيأة لهذه المرحلة، وما فشل ليس إلا دينامية التفتيت التي وصلت إلى نهايتها، إلى سقف احتمالاتها التاريخية. وكما حصل في الفترة التي تلت هزيمة 67 من انقسامات ونشوء قوى سياسية جديدة وانحلال أخرى، وكما جرى في حينها على الصعيد الفكري والبرنامجي والرؤيوي من تغيرات جذرية، يُتوقع اليوم أن تبدأ التغييرات كرجع صدى لنهاية مرحلة تاريخية كبيرة، بدأت في 1967 وانتهت بالعام 2014. يُنتظر أن يعود الفكر الرؤيوي إلى العمل، لإنتاج ما تحتاجه الشعوب من أجوبة تتصدى لتحديات اليوم.
الصدمة، أي صدمة الربيع العربي، ومهما كان نوعها وأسبابها، سوف تترك آثاراً عميقة وتصدعات فكرية وسياسية من دون شك. فما حصل ليس ثانوياً في تاريخ شعبنا. ولم يكن حدثاً طارئاً، بل لحظة في صيرورة التحول التاريخي لهذه المنطقة.
المشاريع الفكرية والسياسية التي قامت على قاعدة دينامية التراجع والتفتيت وصلت إلى منتهى الطريق. المشاريع التي لا تحمل أجوبة على المشكلة المتمحورة حول الدولة المنهارة بسبب هيمنة منظومة النهب القائمة على التجزئة كأولوية رئيسة، وصلت إلى طريق مسدود بعد أن اصطدمت بالبنى المحلية المتناقضة. المشاريع السياسية القائمة على مشاريع جزئية وقطرية قرابية وصلت إلى مداها التاريخي. فهي لم تستطع أن تنتصر، كما لم تستطع أن تقدم نموذجا للدولة العصرية. صلاحية مثل هذه القوى قد انتهت، وانفتح عصر الدولة ومشاريعها. المشاريع الناطورية، أي القُطرية، التي تقوم على قاعدة هيمنة إحدى القرابات الرحمية أو الدينية بدعم خارجي قد انتهت إلى غير رجعة. فالراعي الدولي، الناهب، يهتز هو نفسه تحت ضربات الدول الصاعدة، وهو لم يعد قادرا على حماية مثل هذه الكيانات الاصطناعية، ولا هو بقادر على المساعدة في خلق كيانات منها جديدة؛ وسوريا هي البرهان الأخير.
التشكيلة الاجتماعية التابعة التي خلقها استعمار سايكس- بيكو، وواصلها الأميركي الناهب من بعده، وصلت إلى مأزقها التاريخي بسبب التغيّرات الديمغرافية الهائلة وما فرضته طفرتها مؤخراً من حاجات جديدة وتحديات كبرى لا تستطيع منظومة الناهب والهيمنة أن تجيب عليها على نحو عقلاني. كما أنها صارت تشكيلة مهتزة لاهتزار عمادها، فهي تعتمد بالأصل على حامٍ وراعٍ أجنبي، بدأ اليوم يعاني من منافسة قوية جعلته في وضع غير مريح إطلاقاً.
العرب لم يعودوا موضوعيا قادرين على السماح لقوة عالمية بمتابعة عملية النهب التي بدأت رسميا في نهايات القرن التاسع عشر، وتواصلت خلال القرن الماضي وحتى اليوم. فالطفرة السكانية تحتاج إلى هذه الثروات. والتجزئة لم تعد قادرة على العيش، بسبب اهتزاز حاميها الدولي من جهة، وبسبب ضغط الحاجة إلى التوحد لأسباب اقتصادية وحياتية ودفاعية وأمنية ووجودية.
النموذج القُطري يترنح في أغلبية الدويلات السايكس- بيكوية، ولم يعد يستطيع إنتاج تسويات مؤقتة بغياب المعلم الكبير. المخفر "الإسرائيلي" تلقّى في العقود الأخيرة ضربات موجعة أودت بدوره الوظيفي الردعي، فانقلب من رادع إلى مردوع يبحث هو أيضا عن حامٍ خارجي. والسوق بدورها تتعرض إلى اختلالات جذرية بسبب دخول منافسين جدد وتغير قواعد اللعبة الاقتصادية الدولية.
إذن، وبالمختصر، وصلت منظومة هيمنة النهب أو تشكيلة سايكس-بيكو الاجتماعية إلى حدها الأقصى.
ومع فشل المحاولة التفتيتية الأخيرة، أي الربيع العربي، انفتحت أمام شعوبنا آفاق جديدة لن يطول الزمن قبل أن نشهد إرهاصاتها الأولى.

أترك تعليقاً

التعليقات