إيهاب شوقي

إيهاب شوقي / لا ميديا -
لم يكن مشهد اقتحام أهالي جنوب لبنان لقراهم بصدورهم العارية أمام دبابات العدو «الإسرائيلي» الرافض للانسحاب مجرد مشهد ميداني مشرف لأحرار رافضين للذلة والاحتلال، بل كان مشهداً استراتيجياً رافضاً لعودة الزمن إلى الوراء ولتغيير المعادلات التي رسختها المقاومة عبر التضحيات الكبرى، وهو مشهد يؤسس لما هو قادم ويهدم كل ما حاول العدو تكريسه عبر إرهابه لبيئة المقاومة وتيئيسه لها، لفصلها عن حركات المقاومة وعزلها.
ولا شك أن تكامل المشهد في الجنوب وفي غزة من طوفان بشري عائد إلى أرضه، هو استعادة للدور الشعبي الذي ظن العدو ورعاته أنه أصبح رقماً هامشياً، بل استبدت به الأوهام ليتصور أنه يمكن أن يكون ورقة ضغط على المقاومة لانتزاع التنازلات، ليثبت هذا المدد الشعبي أنه صاحب المبادرة وأنه والمقاومة كيان واحد لا يمكن لأحد مهما تمادى في إجرامه أو ألاعيبه أن يوقع بينهما.
ولبيان أهمية ما حدث في الجنوب الصامد وفي غزة ينبغي رصد وقراءة المشهد العام وما وصلت إليه الأمور وما يحاول العدو تكريسه، وبالتالي كيف أهدر هذا الحراك الشعبي أهداف العدو، وكيف أثبت أن ما تحقق هو نصر استراتيجي طالبت قيادة حزب الله، ممثلة في الأمين العام الشيخ نعيم قاسم، في خطابه الأخير، العالم بتسجيله أكثر من مرة:
1 - أتى هذا الحراك الشعبي تزامناً مع تلاعب صهيوني للتشويش على هزيمته الاستراتيجية ورضوخه لوقف إطلاق النار بعد الفشل المستمر في تحقيق «النصر المطلق» الذي وعد به نتنياهو، حيث حاول الكيان عبر التلاعب بالتفاهمات إيصال رسالة إلى الداخل الصهيوني وإلى الخارج أيضاً بأن له اليد العليا وأنه يستحوذ على المقود ويمتلك خيارات الالتزام بالاتفاقيات أو خرقها، وبالتالي أفسد المشهد الجماهيري هذه الصورة ليحبط هذا الهدف الصهيوني الخبيث ويعمق صورة الهزيمة للعدو، والذي رضخ للإرادة الشعبية غير المسلحة، فما بالنا لو عاودت المقاومة المسلحة عملها واتخذت قرار عودة القتال، وفي أي وضع سيصبح العدو وجيشه المنهك اليائس؟!
2 - أمريكا التي تقود العدو والتي رضخت في النهاية لوقف إطلاق النيران بعد نذر تورطها المباشر، وعبر قراءتها باقتراب انهيار جبهة العدو الداخلية، حاولت خلق أوضاع فتنوية بدل المواجهات المباشرة، وحاولت استغلال وقف إطلاق النار في لبنان للوقيعة بين مكونات الثلاثية المقدسة (جيش وشعب ومقاومة)، ويحاول العدو عبر الخروقات وعبر التلكؤ في الانسحاب والالتزام باتفاق وقف إطلاق النار ومهلة الستين يوماً أن يوقع بين الجيش والمقاومة بتحميل حزب الله المسؤولية وإحياء فتنة نزع السلاح، وكذلك الوقيعة بين أهل الجنوب والمقاومة بتحميل الحزب مسؤولية تهجير أهل الجنوب بعيداً عن أرضهم وأرزاقهم.
وبالتالي كانت مبادرة أهل الجنوب بالدخول لقراهم تحت وابل نيران جيش الاحتلال الصهيوني رداً مباشراً بأن الأهالي هم أهل المقاومة وعمادها، وكان التحام الجيش مع الأهالي في الدخول للقرى بمنزلة تحرير من الاحتلال واصطفاف واضح رد كيد العدو الذي أصبح مكشوفاً ومفضوحاً بأنه قوة احتلال وغير ملتزم بالاتفاقيات والمواثيق، وفضح التواطؤ الأمريكي المتظاهر بالوساطة، وهي هزيمة للمشروع الأمريكي في لبنان والذي يقوم على الفتنة وعزل وحصار المقاومة.
وبلحاظ التوصيات الشيطانية من خبراء الاستراتيجية المعادين للمقاومة عبر مراكز الفكر الأمريكية، فإن معظمها تصب في الضغط على الرئيس والحكومة الجديدة في لبنان لتعيين قائد للجيش ومدير للأمن العام وحاكم لمصرف لبنان من المعادين للمقاومة والضغط لنزع سلاح المقاومة وحصارها اقتصادياً، وهذا الضغط يتمثل في بقاء العدو وتهديده لسلامة وسيادة لبنان بغرض الدفع في هذا الاتجاه الفتنوي، وهو ما يوضح أهمية ما قامت به الجماهير من حرق لهذه الورقة وتخفيف الضغط على الدولة اللبنانية وبالتالي هي حماية للبنان كله وليس للجنوب فقط.
3 - حاول العدو عرقلة عودة أهالي شمال غزة، لاحتواء الغضب الداخلي والاتهامات الموجهة للحكومة والجيش بالفشل بعد حرب إبادة لأكثر من عام وثلاثة أشهر. وكان صمود الأهالي وإصرارهم على العودة إلى ركام منازلهم أكبر تأكيد على هزيمة العدو وفشل مخطط الجنرالات، وإهدار كل ما أنفق من ذخائر وتحصينات بالمحاور التي حاول تدشينها، وإهدار خسائره من الجنود وسمعته وهيبته العسكرية، والأهم تحطيم وهم «الشرق الأوسط الجديد» وخرائطه التي حملها نتنياهو منتشياً بجرائمه ومتوهماً أن المنطقة قد دانت له.
4 - شكل النزوح إلى الجنوب في لبنان وإلى الشمال في غزة مشهداً تجريبياً لعودة اللاجئين وتحرير كامل الأراضي المغتصبة في فلسطين إذا ما التزمت الشعوب والتزم العرب بخيار المقاومة وعدم الرضوخ لفزاعات العدو الذي مارس أكبر حرب للإبادة بدعم وقيادة أكبر قوة عظمى، وعدم الانصياع لأوهام السلام الزائف. كما يثبت العدو يومياً بخروقاته عدم الالتزام ولا الاحترام للعهود والاتفاقيات.
لقد حاول ترامب استغلال الدمار للدعوة إلى التهجير، فكان الرد الشعبي بأن الشعوب وأراضيها كتلة واحدة حتى لو كانت ركاماً ورماداً. وأثبتت الشعوب الحرة، في لبنان وغزة، أنها بيئة حاضنة للمقاومة. وأثبت حزب الله بموقفه المسؤول وصبره الاستراتيجي وإعلانه أنه سيتعامل مع قوات العدو كقوة احتلال أن معادلاته ثابتة. وأثبت أهل الجنوب أن سيد المقاومة وشهيدها الأسمى لا يزال حياً بفكره وإلهامه وروحه المقاومة الأبية، بعدما قالت -عبر رفع صوره- إن وفاءها له وللمقاومة عصي على التركيع، وأن المعادلات التي كرستها المقاومة عصية على التغيير، وأن الزمن لن يعود إلى الوراء بل العدو هو الذي يعود للوراء، وأن القادم حتماً هو زمن الانتصارات.

أترك تعليقاً

التعليقات