إيهاب شوقي

إيهاب شوقي / لا ميديا -
بعد عام وثلاثة أشهر من حرب الإبادة على غزة، والتي انتهكت جميع الأعراف والقوانين الدولية، لا تزال المقاومة مستمرة في غزة، بل وفي شمالها الذي يلقى نوعاً خاصاً من الاستهداف والإبادة بحكم ارتباطه بمشروع خاص، ولا تزال المقاومة صامدة على طاولة التفاوض بعد أن ظن العدو "الإسرائيلي" والأمريكي أن المفاوضات لن تشكل إلا باباً من أبواب الاستسلام وإعلان النصر الساحق للكيان.
ولا شك في أن الولايات المتحدة تحاول توظيف زخم وصول الرئيس ترامب للحكم، متوعدة المنطقة بالجحيم، لانتزاع أقصى قدر من التنازلات. ولا شك في أن العدو "الإسرائيلي" يستمر في مراوغته واستغلال المفاوضات لأهداف سياسية داخلية، بينما لا يريد إلزام نفسه بأية اتفاقيات، طمعاً في استغلال ما يراه فرصة تاريخية مناسبة لتصفية القضية بعد ضعف وهوان الأنظمة العربية الرسمية وانعدام الضغط الشعبي وخروجه من معادلة صناعة القرار الرسمي العربي.
وقد بات معلوماً أن العائق الوحيد الذي يعرقل تصفية القضية هو المقاومة ومحورها الذي دفع أثماناً كبيرة ولا يزال صامداً ومشكلاً أهم ورقة قوة في يد المفاوض الفلسطيني، وقبل ذلك يأتي صمود الشعب الفلسطيني وبيئة المقاومة على كامل جبهات المحور، والتي عوضت غياب الأغلبية الكاسحة من الشعب العربي والمسلم، بعد اصطفافها وراء المقاومة وولائها وثقتها ورضاها بجميع خيارات قادة المقاومة.
وتمر المنطقة الآن بوضع استراتيجي غاية في الدقة، حيث انتقلت الجولة الممتدة من بداية "طوفان الأقصى" إلى مرحلة جديدة حاسمة، ولم يعد الرهان بها على الاستنزاف والنقاط بقدر ما أصبح الرهان بها على الإرادة وشجاعة الخيارات، وهو ما يتطلب مناقشة وإلقاء للضوء على بعض المحاور الآتية:

 - صفرية المعركة:
لقد بدا واضحاً أن العدو "الإسرائيلي" يلعب معركة صفرية، ليس في فلسطين ومع مقاومتها فقط، بل في كامل المنطقة، وقد دفعه زخم سقوط النظام السوري للتفتيش عن المزيد من المطامع، وهو ما جعله يتجرأ على نشر خرائط لضم الضفة ونشر تقارير ومقالات تتحرش بالجيش المصري وتتحدث عن سيناء، وفوق ذلك يحاول لعب أكثر الألعاب خطورة في لبنان عندما يلوّح بالبقاء بعد انتهاء مهلة وقف إطلاق النار، ويحاول هو وأعوانه داخل وخارج لبنان زيادة الضغط على المقاومة للقبول بأوضاع تغير المعادلات التي استقرت منذ 2006، بل واتخذت مساراً تصاعدياً.

- نزول أمريكا إلى الميدان:
بعد أن كانت القيادة الأمريكية للعدوان محل التحليل والشواهد والاستنتاجات بعد الأداء المنافق لإدارة بايدن في بدايات الحرب، تحولت مع الوقت إلى تدخل صريح بعد الوصول إلى حرج بالغ للعدو، وهو ما جعل أمريكا تخلع قناعها وتحارب بيدها في اليمن لإنهاء حرب الإسناد اليمنية، وتدخل بثقلها على خط التفاوض في لبنان لحماية العدو من صواريخ ومسيّرات حزب الله، ومؤخراً دخلت مع إدارة ترامب -التي تستعد لاستلام الحكم- مرحلة التهديد الصريح بالجحيم إذا لم تفرج حماس عن الأسرى، وهو تحول جذري من المظهر المخادع لدور الوسيط إلى المظهر الحقيقي للطرف الرئيسي في الصراع.

- الصمود الأسطوري للمقاومة:
بعد كل هذا الخذلان العربي والإسلامي، شعبياً ورسمياً، وبعد انكشاف عجز القانون الدولي والمنظمات الأممية عن حماية شعب غزة وعن ردع "إسرائيل" عن جرائم الحرب في غزة والضفة ولبنان واليمن، وعن انتهاك الاتفاقيات الدولية، ورغم الضربات القاسية التي تلقاها المحور المقاوم، فإنه يقف صامداً كما كان في بداية المعركة، وثابتاً على مطالبه بوقف العدوان وعدم السماح بتغيير المعادلات وتصفية القضية المركزية.
فالمقاومة في غزة تحولت إلى نمط أخطر على العدو، بشهادة خبراء العسكرية، وهو نمط حرب العصابات واستخدام تكتيكاتها التي تسقط القتلى والمصابين بشكل يومي من جيش الحرب الصهيوني، كما تنطلق الصواريخ من كامل جغرافيا القطاع، والأهم أنها تنطلق من شمال غزة، الذي تطبق به خطة الجنرالات بهدف الإخلاء والتهجير.
وبدلاً من تصفية حماس والمقاومة، بات الشباب الفلسطيني رديفاً لحركات المقاومة. وكما أعلن، في وقت سابق، المتحدث باسم "كتائب القسام"، أبو عبيدة، أن "القدرات البشرية لكتائب القسام بخير كبير"، وأعلن أنه تم تجنيد آلاف المقاتلين الجدد خلال الحرب.
وبعد ارتقاء ما يقرب من 46 ألف شهيد بنسبة 2% من عدد سكان غزة، وعدد جرحى يقترب من 110 آلاف جريح بنسبة تقارب 5% من عدد السكان البالغ نحو مليونين و300 ألف نسمة، لا يزال أهل غزة ثابتين ومتمسكين بأرضهم ولا يبالون بالموت ولا بالمجازفة بمحاولة العودة لديارهم المهدمة عند أي فرصة تلوح رغم انتشار قناصة العدو ومسيّراته التي تستهدف من يحاول العودة.
ولا تزال معارك الإسناد قائمة، وتستهدف العمق الصهيوني، فاليمن يطلق يومياً صواريخه على الكيان وقادته في أمريكا، ولبنان يده على الزناد ولن يسمح بتراجع المعادلات، وتبقى جميع الاحتمالات مفتوحة كما بينت قيادة المقاومة.
بينما العدو، الذي أعلن جيشه أنه منذ بداية الحرب وحتى نهاية العام 2024 قتل 891 من جنوده، فيما أصيب أكثر من 5500 آخرين، تعصف بجبهته الخلافات والانقسامات ولا يستطيع تحرير أقل من 100 أسير منذ عام وثلاثة شهور.

- مفاوضات بروح الإذعان:
لعل المفاوضات الجارية حالياً هي أغرب أنواع المفاوضات، فالوسطاء والعدو يشكلون ضغوطاً على المقاومة للتنازل، ولا يملكون ورقة ضغط على الكيان، كأنّ المفاوضات صورة مطلوبة لذاتها وليس للحل، وهي ورقة يستغلها العدو لتهدئة الداخل الصهيوني وتظاهرات أهالي الأسرى، وللتظاهر أمام الرأي العام الدولي بأنه منخرط في عملية سياسية تواجه مشكلات فنية أو خلافات.
بينما حقيقة الأمر أن العدو ماضٍ في مشروعه التصفوي ومعركته الصفرية، وكل ما يريده هو استسلام المقاومة، إما ميدانياً وإما على طاولة المفاوضات، وانتزاع راية بيضاء سياسية لإعلان النصر الساحق.
ربما حقيقة الوضع الميداني عبّر عنها بدقة مراسل الشؤون العسكرية في إذاعة الجيش الصهيوني، أمير بار شالوم، عندما قال نصاً: "إن الجيش لم يعد يواجه ما كان يسمى جيش حماس؛ ولكنه الآن يواجه عصابات، وقد وصل إلى وضع لا يمكنه فيه الوصول إلى آخر المخربين (المقاومين)"، وهو رأي تبناه رئيس قسم الدراسات الفلسطينية في جامعة "تل أبيب"، ميخائيل ميلشتاين، الذي قال لـ"القناة 12": "إن الجيش يواجه الآن النسخة الثانية من حماس".
وهنا تقول المقاومة للرئيس ترامب، الذي يلوّح بالجحيم، إن الصهاينة سيواجهون النسخة الجديدة من جميع حركات المقاومة إذا لم تتم تسوية الأمور ووقف إطلاق النار على قاعدة احترام وجود مقاومة وحق تاريخي ومعادلات ترسخت بدماء أعظم شهداء الأمة، ولن تسمح المقاومة بتراجعها، وهذه المفاوضات تشكل فرصة للكيان ورعاته للنزول عن الشجرة، ولا تشكل باباً من أبواب الاستسلام لمقاومة لا وجود للاستسلام في قاموسها.

أترك تعليقاً

التعليقات