‏الطلقة الأخيرة
 

إيهاب زكي

إيهاب زكي / لا ميديا -
قد يكون الأمر في معترك الأحداث مُرّاً، وثقيل الوقع على النفس، أنّك كمناصرِ لمحور المقاومة، لم تجد في ردّ حزب الله المنتظر، إحراقاً لـ"تل أبيب"، أو أشلاءً تتطاير وأبراجاً تنهار وتحترق، خصوصاً أنّك على يقينٍ بامتلاك القدرة على فعل ذلك، ولكن يبدو أنّ الوقت لم يحن بعد.
على مدى أربعة عقود راكمت أطرافٌ معينة في هذا الإقليم بعض المنجزات، رغم الاستهداف المباشر وغير المباشر، ورغم الحصار والتضييق والشيطنة، حيث كان مجرد التفكير بمواجهة القوة النارية للكيان، والأساطيل الأمريكية من خلفها ضرباً من الجنون، وعملاً من أعمال المغامرين الذين لا ينفكون عن معاندة الحقائق والوقائع.
فإيران مثلاً التي خرجت للتوّ من ثورةٍ مبهرة النتائج، فُرضت عليها حرب تدميرية على مدى ثماني سنوات، لكنها لم تحِد عن أهدافها المعلنة بالعداء للكيان ومناصرة فلسطين، بل كل شعوب المنطقة التي تقاوم للانعتاق من نير الاحتلال، فكانت داعماً رئيسياً لكل من حمل السلاح في وجه المحتل وقاوم، ودفعت في سبيل ذلك كل ما تطلبه ذلك من ثمن.
كما استثمرت كل إمكانياتها البشرية والمالية في سبيل إنتاج سلاحها، لأنّ تجربة الحرب المفروضة، والحصار وشُح السلاح، كانت تجربة قاسية ومريرة، فتعلمت ألّا تترك نفسها دون سلاحٍ يُنتج محلياً، لتستطيع حماية نفسها أولاً، وتستطيع خدمة برنامجها لمواجهة الكيان ومجابهة التواجد الأمريكي، حتى أصبحت اليوم قوة إقليمية عظمى، بل ولها باعٌ طويل في رسم المشهد على الساحة الدولية، ويُحسب لموقفها واصطفافاتها كل حساب.
كذلك نجد حزب الله في لبنان، الذي راكم القوة والقدرة والتجربة، على مدى أربعين عاماً، استطاع خلالها أن يحرر أرض لبنان، وأن يفرض على العدو الذي كان يهدد لبنان باحتلاله بفرقةٍ موسيقية، يفرض عليه معادلات الردع وكفّ اليد، العدو الذي اجتاح لبنان واحتل بيروت، بحجة محاولة اغتيال فاشلة لسفيره في لندن، لا يستطيع أحد جنوده وضع قدمٍ واحدة بعد الخط الأزرق ولو سهواً، رغم آلاف الصواريخ والمسيّرات، التي تتساقط فوق مستوطناته، وتهجير عشرات آلاف بل مئات آلاف مستوطنيه، وقتل جنوده وضباطه والإثخان بهم يومياً.
ناهيك عن تعطيل الحياة في شمال فلسطين المحتلة بشكلٍ شبه تام، حيث لا مصانع ولا مزارع ولا شركاتٍ تعمل، بل الخراب والوحشة، وجنود وضباط خائفون يتوسلون الأماكن المحصنة، ويتسولون المناطق المفتوحة وظلال الأشجار، للهروب من أعين مقاتلي حزب الله ورمياتهم الماهرة المتقنة.
وليس بعيداً عن ذلك سوريا الدولة، التي أصرّت على بقاء جذوة الصراع مشتعلة، من خلال استراتيجيةٍ عبقرية، حيث أدركت مبكراً، وبعد خروج مصر من الصراع، أنّ ميزان القوة اختل لصالح العدو، ولكن أدركت أيضاً أنّ الاستسلام لهذا الواقع، يعني ضياع المنطقة وتسليمها للحركة الصهيونية للأبد، لذلك اعتمدت مبدأ دعم كل من يقاتل "إسرائيل" دون الانزلاق لحربٍ مباشرة وكلاسيكية مع الكيان، لأنها محسومة النتائج سلفاً.
ظلت سوريا تمارس هذا الدور الذي كان له شديد الأثر على مصير الصراع، لكن بعيداً عن هضبة الجولان، وهذا أحد أوجه العبقرية في الاستراتيجية السورية، حيث إنّ سوريا باعتبارها دولة مركزية، لا يمكنها أن تدّعي في حال انطلاق مقاومة مسلحة من جبهة الجولان، أن لا علاقة لها بذلك، وبالتالي ستكون الذريعة متوفرة للكيان، لشنّ عدوانٍ مدمرٍ وناجح، يُخرج سوريا من الصراع عنوةً، بما لذلك من أثرٍ تدميريٍ على مستقبل الصراع ومستقبل الأمة وشعوب المنطقة.
فدعمت كل حركات المقاومة في لبنان وفلسطين والعراق لاحقاً، وتحملت في سبيل ذلك الحصار والاستهداف والشيطنة. وكان آخرها ثورة الرعاع "الإسرائيلية"، وقد كانت تهدف لكسر سوريا الموقف والموقع، والتي لو نجحت لما رأينا محوراً متكاملاً يجابه أمريكا ويهددها بالخروج، ويهدد ربيبتها بالفناء.
وكذلك كانت حركات المقاومة في فلسطين، التي دأبت على التعلم ومراكمة الخبرة منذ الانتفاضة الأولى، فأصبحت اليوم قادرة على مقارعة الجيش الذي هزم أقوى ثلاثة جيوشٍ عربية في ستة أيام للشهر الحادي عشر على التوالي.
‏وأنصار الله في اليمن وكذلك الحشد الشعبي في العراق، رغم ظروف النشأة المختلفة، إلّا أنّها أصبحت تُشكّل جزءاً رئيسياً من محور المقاومة.
كذلك فإنّ هذه القوى شيئاً فشيئاً أصبحت محوراً متحداً تحت عنوان محور المقاومة، في معاهدةٍ كأنّها اتفاقية دفاعٍ مشترك، وهذا بحدّ ذاته أحد منجزات هذه القوى.
اليوم وصلنا للنقطة الحرجة، التي راكم فيها المحور المنجزات والقدرات على مدى عقود، وأصبحت هذه المنجزات هي ذخيرته، وبالتالي لا يمكن المجازفة بها قبل اللحظة الحاسمة، التي يكون فيها يقيناً أنّها ستصيب رأس الكيان ورأس الوجود الأمريكي في المنطقة.
وكثيراً ما تعرضت نظرية الصبر الاستراتيجي للنقد والعجلة من الأصدقاء وللتهكم والسخرية من الأعداء، والأعداء هنا ليسوا الصهاينة اليهود، بل صهاينة العرب الأشد تصهيناً، الذين لو شاكت "إسرائيلي" شوكة في مجاهل غابات الأمازون، لسمع صراخه في عمان والرياض وأبوظبي والقاهرة، وهؤلاء أدوات الوحدة 8200، التي استهدفها حزب الله في إطار رده على اغتيال القيادي فؤاد شكر.
والقدرة الفائقة على استهداف قاعدة هذه الوحدة، ما كانت لتحدث لولا اعتماد الصبر الاستراتيجي، لا العنتريات والانفعالات سريعة الاشتعال سريعة الانطفاء، فإن تراكم الكم والنوع في قدرات المقاومة، هو نتاج الصبر الاستراتيجي الذي ستظل آثاره إحدى المفاجآت الدائمة والمتجددة لسلوك المقاومة وقدراتها.
إن المجازفة بكل هذه المنجزات تحت وطأة الانفعال، هي أحد مظاهر العبثية التي لا يعرفها عقل المحور، وإن الذهاب إلى حرب المليون قتيل، في ظل إصرار الولايات المتحدة على حماية "إسرائيل" حتى لو باستخدام تكتيكي للسلاح النووي هو مجازفة بطلقتك الأخيرة، التي ستأتي لحظة فارقة قطعاً تأتي برأس عدوك إلى فوهة مسدسك طائعة أو مرغمة، لأنه في ظل محاولاته الدؤوبة للهروب من حصارك لن يجد سوى المربع الأخير للهروب، والذي لن يكون سوى مرمى رصاصتك المحكم.
‏وكما قال السيد نصر الله: "إننا نقاتل بغضب وشجاعة وحكمة"، وبالمناسبة فإنّ الردّ الأولي على اغتيال الحاج محسن، ينبئ بالغضب والشجاعة والحكمة، وحتى هذه اللحظة لازال المحور يقاتل بهدف وقف العدوان على غزة، وليس بهدف إطلاق الطلقة الأخيرة وإزالة الكيان، وهذا ما أدركه العدو الأمريكي والصهيوني بعد ردّ حزب الله، فمن لديه هذه القدرات التقنية والعسكرية، والأهم شجاعة القرار وحكمته، ليس من الآمن استدعاؤه للمنازلة الأخيرة، والدليل أنّ الكيان الذي ما انفكّ يهدد لبنان ابتلع لسانه، وقال إن اكتفى حزب الله فقد اكتفينا.
وكخلاصةٍ، فإنّ المحور يحتفظ بطلقته الأخيرة للحظة الحاسمة، وهي آتيةٌ لا ريب فيها، خصوصاً أنّ العدو الذي انكفأ عن تهديداته بسحق لبنان، لم يعد يستعجلها، لكنه ينتظر ردودا من اليمن وإيران، وهذا كله بدوره سينعكس على الجهد التفاوضي، وسيؤدي منطقياً إلى وقفٍ للنار بشروط حماس، لأنّ البديل هو حربٌ إقليمية، ثبت بعد ردّ الحزب أنّ الكيان وأمريكا هربتا منها.

أترك تعليقاً

التعليقات