انتصار يمني تاريخي
 

توفيق هزمل

توفيق هزمل / لا ميديا -
أوجد العدو غطاء واسعاً للعدوان على غزة، من خلال اتهام المقاومة ‏بارتكاب جرائم حرب، كذبح وإحراق الأطفال واغتصاب النساء... إلخ.
ووجد في عملية أكتوبر فرصة تاريخية لتصفية القضية الفلسطينية، عبر ‏تدمير قطاع غزة وتهجير سكانها ليصار بعد ذلك إلى تهجير الضفة ‏الغربية، وبالتالي لن تبقى هناك قضية احتلال أو مقاومة، بل ستصبح ‏القضية مجرد حدث تاريخي يشابه ما حدث للهنود الحمر في أمريكا.‎
وكان العدو يحسب حساب تدخُّل المقاومة اللبنانية لنصرة غزة، لذا جرى ‏الإعداد مبكراً لتوجيه ضربات قاتلة للمقاومة، على المستوى ‏الاستخباراتي والعسكري والاستراتيجي. ‏ولكن كانت المفاجأة الاستراتيجية التي تمثلت في الدخول اليمني المباشر ‏على مسار الأحداث وبصورة غير مسبوقة تاريخياً. هذا الدخول خلط أوراق المخطط الصهيوني.
فمن ناحية أدى الدخول اليمني، خصوصاً في ملف الملاحة، إلى كسر حالة ‏التعتيم على الجرائم الصهيونية في غزة‎.‎
فتضرر حركة الملاحة الدولية جعل الحرب على غزة حدثاً عالمياً لفت ‏انتباه كل سكان المعمورة إلى ما يحدث بالمنطقة‎، وبالتالي تم كسر الغطاء الصهيوني، الإعلامي والسياسي، على ‏أحداث غزة، والذي هدف لجعل الأحداث محصورة جغرافياً لا تمس بمصالح أي طرف، ‏ومبررة أخلاقياً باعتبارها فقط عملية مواجهة لمجموعات "إرهابية" كمثيلاتها في ‏أفغانستان والعراق وغيرهما‎.‎
ولكن الدخول اليمني لفت أنظار العالم إلى ما يحدث، وأثار إعجاب أغلب ‏الشعوب التي ترى شعباً محاصراً ودولة مدمرة اشتهرت بأنها موطن أكبر ‏مجاعة في التاريخ الحديث، تواجه أقوى وأغنى قوى الأرض‎.‎
هنا تجسد مشهد أسطوري موجود في ثقافة مختلف الشعوب‎، وهو مشهد تصدي الضعيف الفقير للقوي الثريّ المتغطرس. هذا الأمر ألهب مخلية الشعوب، حتى الشعوب الغربية، وخلق حالة تعاطف ‏مع أهل غزة، فخرجت المظاهرات في الكثير من البلدان، خصوصاً في ‏الدول الغربية وعلى رأسها أمريكا.‎
من ناحية أخرى، شكّل النجاح المدهش لليمنيين في ‏الإيقاف التام لحركة الملاحة الصهيونية بالبحر الأحمر وخليج عدن، ‏إحراجاً استراتيجياً للإمبراطورية الأنجلوسكسونية، وعلى رأسها أمريكا، ‏والتي تهيمن منذ الحرب العالمية على مختلف الممرات البحرية حول ‏العالم، وأظهر حالة عجز استراتيجي خطير في فرض الإرادة الأمريكية ‎على بلد ضعيف وممزق وفقير، وهو الأمر الذي يهدد بكسر الهيبة التي صنعتها أمريكا وبريطانيا إبان ‏الحرب العالمية الثانية، ما سيشجع الكثير من البلدان والشعوب على كسر ‏حاجز الخوف والرهبة؛ فإن استطاع الضعيف الفقير أن يتمرد ويتحدى ‏فيستطيع الآخرون الوقوف في وجه الطغيان الأمريكي.
ورغم تمكن الصهاينة من توجيه ضربات موجعة لمحور المقاومة، ‏كما في لبنان، استخباراتياً وسياسياً، عبر توظيف التناقضات الطائفية اللبنانية ‏لتشكيل حالة ضغط هائلة لوقف عملية إسناد غزة، أو عبر إعادة أحياء ‏التحالف الصهيوني الخونجي، والذي تأسس إبان ما سمي "الربيع العربي"، وتوظيف ‏حادثة اغتيال شهيد الإنسانية والإسلام لخلق حالة رعب لدى بشار الأسد ‏على سلامته الشخصية ودفعه للفرار من سورية ليتسلمها إخوان اليهود ‏ خلال أيام معدودة ويقطعوا بذلك الجسر البري الذي يربط لبنان ‏بالعراق وإيران، وهو الأمر الذي خلق حالة صدمة وانكفاء لإيران ‏والمقاومة في العراق ولبنان وخروجها من مسرح الأحداث‎.‎
إلا أن اليمن بقي يشكل حالة ضغط عسكري وإعلامي هائل ومحرج لمكانة ‏الولايات المتحدة في العالم، خصوصاً مع فوز ترامب الذي تعهد بإعادة ‏مجد أمريكا، وهو الشعار الذي سيسقط خلال أول امتحان، وهو امتحان إعادة تأمين ‏حركة الملاحة في أهم شريان عالمي، وكذا وقف استهداف حاملات ‏الطائرات والقطع البحرية للأساطيل الأمريكية.
وبما أن الدولة العميقة في الولايات المتحدة قد وصلت لنتيجة استحالة قمع ‏الحالة اليمنية خلال مدى زمني قصير، قرر ترامب ممارسة الضغوط القصوى على الكيان المؤقت لوقف إطلاق النار في غزة، وبالتالي إيقاف العمليات العسكرية اليمنية ‏وعودة حرية حركة الملاحة، وقد ساعده في ذلك حالة الإرهاق المعنوي التي وصل إليها المستوطنون ‏الصهاينة نتيجة ضربات اليمن في قلب الكيان وهروعهم بشكل شبه ‏يومي من غرف نومهم إلى الملاجئ‎.
إنه انتصار يماني تاريخي، ونقطة تحول في التاريخ العالمي، وهو الأمر الذي سيضع اليمن تحت مجهر كل أجهزة الاستخبارات العالمية، ‏وعلى رأسها الأمريكية و"الإسرائيلية"، لإعداد الخطط متوسطة وطويلة ‏المدى للقضاء على الحالة اليمنية الفريدة في التاريخ‎.
لذا، فبقدر المجد الذي حققه اليمنيون هناك تحدٍّ ومسؤوليات جسيمة ترافق ‏هذا المجد تقع على عاتق كل اليمنيين، وإن استطاعوا الصمود أمام طوفان المؤامرات القادمة‎ ‎فسيسجل التاريخ عودة الحضارة اليمنية التي كانت تهيمن على وسط العالم ‏وطرق تجارته، ‏ليبدأ العصر اليماني، ويتراجع بل ويتلاشى العصر الصهيوني في ‏المنطقة العربية.

أترك تعليقاً

التعليقات