علي كوثراني

علي كوثراني- كاتب يساري لبناني-

الإطار التاريخي، وتفكيك المقاربة الأورومركزيّة، حيث إن الكوكب بأسره قد أضحى رقعةً سياسيّةً واحدةً في القرون الخمسة الأخيرة، لاسيّما بعد أن امتدّت أيدي النهب الأوروبّيّة لتطال كل أصقاعه البعيدة، فتنافست فيما بينها على أكبر فريسةٍ في التاريخ، محتكرةً إيّاها بعيداً عن أعين الإمبراطوريّات غير الأوروبّيّة؛ فكان ذلك ما سمته أوروبّا عصر الاكتشافات.
وحيث إن أوروبّا قد تحوّلت إثر ذلك من قارّةٍ متصارعةٍ فيما بينها، ومُهيمنٍ على أطرافها، إلى مركز الثروة في العالم، فصبّت فيها أغلب خطوط النهب الممتدّة من وراء المحيطات، وأثرت ثراءً فاحشاً من خارج اللعبة التقليديّة؛ فموّلت وكثّفت صناعاتها الحربيّة وطوّرتها لتتسيّد على نفسها وتقبض بأساطيلها وجيوشها على المحيطات والقارّات؛ كما موّلت صناعات النقل البرّي والبحري التي شكّلت البنية التحتيّة الفعّالة للنهب، وطوّرتها لنقل الثروات (من معادنٍ وأحجارٍ وأخشابٍ وعبيد...) من عمق المستعمرات، حيث مدّت سكك القطارات وجهّزت الأنهار الصالحة للملاحة وبنت الموانئ، فوصلتها بموانئ المدن القديمة والمستحدثة في أوروبّا لرفد خزائن الممالك ومصانعها؛ فكان ذلك نواة ما سمته أوروبّا الثورة الصناعيّة.
وإذا سلّمنا بأن طبيعة المعاش، بحسب تعبير ابن خلدون، هي المُشكّل الرئيسي للاجتماع البشري، فإن عمليّة النهب، التي أصبحت أكثر جدوى اقتصادياً بما لا يُقاس بالمقارنة مع نظام القنانة الذي كان سائداً إبّانها، قد أدّت إلى تركّز الثروة في يد من شارك في استئصال الثروات من مصادرها وشحنها، والتصنيع المكثّف المُموّل والمُزوّد منها في أوروبّا، والزراعة المكثّفة القائمة على العبوديّة في المستعمرات والمُكمّلة لاقتصاد المركز الأوروبّي؛ وبالتالي فإن تحوّل النهب إلى النشاط الاقتصادي الرئيسي في أوروبّا، قد أدّى إلى إعادة تشكيل المجتمع الأوروبّي ليلائم عمليّة النهب على كل الصعد.
لذا فإن زلزال تركّز الثروة في يد طبقات النهب العليا المُتشكّلة حديثاً حينها على حساب الأرستقراطيّة القديمة، لم يطل طبقات المجتمع العليا فقط، بل أدّى إلى نزوحٍ تدريجيٍ للطبقات الاجتماعية الدنيا من النظام القديم الريفي المُغلق طبقيّاً، حيث كان العمل محصوراً بالزراعة ومكمّلاتها لصالح النبلاء مقابل الحماية والتقديمات الموسميّة الزهيدة، نحو العمل في النظام الجديد المديني الذي بدا أوسع أفقاً؛ إن لجهة الصفوف الخلفيّة للنهب، أي المصانع، حيث إمكانيّة الترقّي ودفع الأجور باليوميّة، أو لجهة الانخراط المباشر في عمليّة النهب عبر التطوّع في الأجهزة الحكوميّة الإداريّة والعسكريّة المتنامية والأكثر مكافأةً في حينها، أو لجهة تَقدّم صفوف النهب عبر الهجرة إلى المستعمرات حيث المغامرة والطموح الأكبر؛ فتبدّل المجتمع تدريجيّاً في أوروبّا من زراعيٍّ ريفي، محوره الجماعة المنتجة، إلى صناعي مديني، محوره الفرد المستهلك، ليلائم النظام الجديد؛ وكان ذلك نواة ما سمته أوروبّا الحداثة.
واستطرداً، فإن المؤسّسة الدينيّة التي واكبت الرعيّة إلى حياتهم الجديدة، فأفلت بعضها -كما الرعيّة- من هيمنة النبلاء، وتماهى مع توجّهات أرباب عمل الرعيّة الجدد في المدن؛ إن لجهة التحرّر من نير الجبريّة التي برّرت الرضى بالقنانة، أو لجهة استحسان ومباركة الثروة والساعين وراءها خلف الأسياد الجدد؛ فكان تشظّي الكنيسة الكاثوليكيّة، أو ما سمته أوروبّا الثورة الدينيّة. 
وبالنسبة للجيش، الذي كان يُسمّى جيش الملك، حين كان محدوداً ومتشكّلاً من بعض المجموعات الخاصة به، بالإضافة إلى ما يوفّره النبلاء من فرسانٍ ومشاة مع أسلحتهم، فقد بات مع تغيّر المجتمع قائماً على التطويع مباشرةً من العامّة الذين خرج معظمهم عن طوع النبلاء؛ فتمّت مأسسته عبر ضبط وتوحيد معايير تدريبه وتنظيمه وتسليحه، وتزامن ذلك مع التطوّر المطرد في نوعيّة وفعاليّة الأسلحة؛ فتحوّل إلى ما سمته أوروبّا الجيش الحديث، وأصبح آلةً حربيّةً مطواعةً وفعّالةً في خدمة مشروع النهب. 
وأمّا شرعيّة الملك نفسه، والتي كانت مُستمدّةً من ولاء النبلاء وشرعيّة المؤسّسة الدينيّة، فتآكلت مع تراجع نفوذ الجهتين الأخيرتين لصالح طبقة كبار الناهبين الجديدة (من صناعيّين وتجّار وملاك المزارع وأصحاب شركات النقل البحري وغيرهم)، والتي ضغطت لفرض مصالحها واقتسام السلطة؛ فظهرت الملكيّات الدستوريّة وتلتها الجمهوريّات وكانت الانتخابات، أو ما سمته أوروبّا الديموقراطيّة. 
استناداً إلى كل ما تقدّم، نخلص إلى أن ميزان القوى في العالم حينها قد اختل لصالح أوروبّا الجديدة القويّة، وأن ذلك قد أتى كنتيجةٍ مباشرةٍ لفائض الثروة المُتأتّي من نهب ما سمّته أوروبّا العالم الجديد، الذي محقت دُوله وبناه القائمة نهائيّاً؛ فأمست باقي كيانات العالم القديم السياسيّة في تراجعٍ مطردٍ عسكريّاً واقتصاديّاً أمام الإمبراطوريّات الأوروبيّة، إلى أن سيطرت أوروبّا عليها تدريجيّاً، فنهبت العالمين معاً، حتّى أصبح معظم الكوكب "مستعمراً" من أوروبا قبيل الحرب العالميّة الأولى؛ وبالتالي فإن العالم بأسره قد أصبح متشكّلاً من مركزٍ أوروبّيٍّ ناهبٍ، وأطرافٍ غير أوروبّيّةٍ منهوبة.

* من صفحة مجموعة العمل الوطني العربي «"فيسبوك".

أترك تعليقاً

التعليقات