علي كوثراني

علي كـوثراني- كاتب يساري لبناني -

عمليّة تدوير الثروة المنهوبة بالقوّة، وإعادة التعريف بحسب الموقع في هرم النهب في العالم.
بناءً على ما تقدّم، فإن الحديث عن المراكمة الأوروبّيّة الأوّليّة لرأس المال لا يصح في غير إطار ترتيبٍ وتقسيمٍ زمنيٍّ لعمليّة النهب، فعمليّة النهب لم تتوقّف قط، ولم تزل النشاط الاقتصادي الأول في العالم، بل ازدادت فاعليّتها عبر اعتماد استراتيجية الهيمنة؛ وبالتالي، ومن باب التصويب، فإن المراكمة الأولى قد تبعتها مراكمة ثانية وثالثة ورابعة... والعمليّات مستمرّة إلى يومنا هذا؛ لذا فإن أي مقاربةٍ لمسألة المراكمة الأوّليّة في إطار حيازة الأوروبّي لرأسمالٍ ما، وإن بطريقةٍ غير مشروعة، ثم توظيفه إيّاه في بناء اقتصاد أوروبّيٍّ صرفٍ قائمٍ بذاته وتطويره، إنّما هي مقاربةٌ لا تستقيم مع استمرار تدفّق الرساميل المتأتّية من النهب إلى داخل الاقتصاد الأوروبّي؛ وهذا ما يصح اليوم في الاقتصاد الأميركي وتوابعه أيضاً.
كما أن أي مقاربةٍ موضوعيّةٍ ومادّيةٍ للاقتصاد الأميركي والاقتصادات الغربيّة الدائرة في فلك النهب، لا يمكن بأي حالٍ من الأحوال أن تُدرس كموضوعاتٍ مستقلّةٍ كما تفرض المنهجيّة السائدة، التي تتغاضى عن النهب، وتتغاضى كذلك عن الهيمنة التي هي في الأساس الاستراتيجية الحديثة المتّبعة للنهب، إنّما أصبحت تنتج أوجهاً وآثاراً عديدةً تضاف إلى عمليّة النهب الأصليّة، وهو الركن الصلب الذي تقوم عليه هذه الاقتصادات، وتتعطّل بدونه عجلة إنتاج الثروة فيها، وبالتالي عجلة توزيعها. 
وبما أن عمليّة الإنتاج المزعومة للثروة تقوم اليوم على قدرة الناهب على الهيمنة سياسيّاً وثقافيّاً، كما قامت سابقاً على الاحتلال المباشر، وهي قائمة في الحالتين على موازين القوى والغلبة العسكريّة؛ فإن الأصح هو استبدال مصطلح إنتاج الثروة في تلك الاقتصادات بمصطلح تدوير الثروة المنهوبة بالقوّة، والثروة المنهوبة هنا هي التي تُدوّر بالقوّة، إذ لا يقتصر استعمال القوّة على عمليّة النهب نفسها، كما تكون القوّة هنا ناعمةً أو بحسب المعنى التقليدي. 
أمّا المراحل الأساسيّة التي تمر بها عمليّة تدوير الثروة المنهوبة بالقوّة، فهي خمس: 
1 - تأمين الناهب الخامات بكلفةٍ زهيدةٍ مقارنةً بقيمتها الحقيقيّة، مما يقلّل كلفة سلعه ويزيد فائض القيمة. 
2 - تصنيع المركز لحسابه في دول الأطراف للاستفادة من رخص اليد العاملة فيها، حيث إن سبب هذا الرخص هو في نهبه وحروبه التي أدّت إلى فقر وتخلّف تلك البلاد. 
3 - فرض سلعه كضروراتٍ حضاريّةٍ لا يمكن الاستغناء عنها. 
4 - قدرته على فتح وتطويع الأسواق لسلعه بصرف النظر عن تنافسيّتها، إن لجهة قيمتها أو لجودتا.
5 - احتكار المركز للمعرفة والتكنولوجيا المهمّة، إن لجهة منع تسرّبها إلى الأطراف، أو لجهة إجهاض محاولات إنتاجها هناك، فيترتّب على ذلك احتكاره لمجالاتٍ بكاملها. 
وبالتالي، وبعد استعراض مراحل هذه العمليّة، يمكننا أن نخلص إلى تعريفٍ أوسعٍ للنهب، بحيث لا يقتصر على نهب المركز للثروات المادّيّة في الأطراف، وإنّما يتّسع ليشمل -بالترتيب- نهب ثرواتها الماديّة، وطاقاتها البشريّة العاملة، ومذاقها العام، وفرصها في الوصول إلى الأسواق المحلّية والعالميّة، وقدراتها العلميّة... إلخ. 
إذن، فإن تعريف فائض القيمة المبسّط على أنّه الفرق بين قيمة السلعة وكلفة إنتاجها، وأنّه ناتجٌ بالضرورة عن احتكار الطبقة البرجوازيّة لوسائل الإنتاج، هو تعريفٌ يُغفل عدم تكافؤ الفرص بين عمليّة الإنتاج الكسيحة في الأطراف، وبين عمليّة تدوير الثروات المنهوبة بقوّة المركز الذي حجز لنفسه الأفضليّة في كافّة المراحل الخمس المذكورة عبر النهب والهيمنة؛ وذلك لأن المركز هو المتحكّم الفعلي والوحيد بكلفة الإنتاج نفسها إثر تحكّمه بالأسواق العالميّة، لجهة الخامات ووسائل الإنتاج والإنتاج والتصريف، فيسمح لمن يشاء ويمنع عمّن يشاء؛ ممّا أتاح للمركز، بالإضافة إلى هيمنته الثقافيّة، قدرة تحديد القيمة، إمّا مباشرةً وإما عبر اتخاذ سلعه كمقياسٍ لتحديدها. 
وللدلالة على ذلك، فإن الفارق الواضح بين قيمة سلع (Apple) وقيمة سلع (Huawei)، التي تنتمي إلى المستوى نفسه من التكنولوجيا والجودة، إذا ما أضيف إلى الحرب الإعلاميّة والاقتصادية والقضائيّة (وكان آخرها الاتهامات بالتجسس وتوقيف ابنة صاحب الشركة في كندا ثم العقوبات الأميركية على الشركة وحرمانها من بعض الأسواق) التي تشنّها أميركا على الشركة الصينيّة، يؤشّر إلى قدرة المركز بالمقارنة مع قدرة الأطراف الصاعدة في مجال التحكّم بالأسواق، وبالتالي التحكّم بفائض القيمة. كما أن الفرق الطفيف بين قيمة سلع (Apple) نفسها وقيمة سلع Samsung))، والتي تنتمي أيضا إلى المستوى نفسه من التكنولوجيا والجودة أيضاً، يؤشّر في هذه الحالة إلى ما يمكن أن تبلغه شركات الاقتصادات الدائرة في فلك المركز، مع احتفاظ المركز لنفسه بالصدارة طبعاً.
وبالتالي يكون المتحكم بكلفة الإنتاج وقيمة السلعة هو المتحكّم الفعلي بحجم فائض القيمة الناتج عن الغلبة، أي قهر المركز للأطراف المنهوبة وللأسواق العالميّة؛ وتكون عمليّة الإنتاج الفعلي للسلعة (كلفة التصنيع) في المركز أقل حلقات هذه العملية الاقتصاديّة السياسيّة أهمّيّةً، إلى درجة تكاد تكون فيها هامشيّة، وخصوصاً إذا ما نظرنا إلى دورها في السياق العام لعمليّة تدوير الثروة المنهوبة بالقوّة.
وبناء عليه، تكون طبقات المركز الاجتماعيّة في الحقيقة متشكّلةً بحسب موقعها في عمليّة النهب والهيمنة، لا بحسب دورها في عمليّة الإنتاج؛ وإن أبسط الأمثلة على ذلك هو في ارتقاء أصحاب شركات النفط في أميركا إلى رأس هرم السلطة والمال في العالم أجمع، بعد أن تصدّر النفط سُلّم أولويّات المركز الناهب.
واستطراداً، إن ما اصطلح على تسميتها طبقاتٍ عاملةٍ في المركز، إنما تتشكّل ممّن هم حقيقةً في أسفل هرم عمليّة النهب في المركز، ولا تتّصل -بأي شكلٍ من الأشكال- بالطبقة العاملة في بعض الأطراف التي ناضلت بوجه النهب والهيمنة لتحافظ على بعض من ثرواتها وإنتاجها وأسواقها؛ وإن ما اصطلح على تسميته نضالاً من أجل مكتسبات هذه الطبقة العاملة في المركز يؤدّي في أحسن الأحوال إلى ما يشبه توزيعٍ أقلّ تفاوتاً بين رئيس العصابة وأفرادها، وفي أسوأ الأحوال إلى حث من هم في رأس هرم النهب والهيمنة على زيادة نشاطهم في الأطراف.
وإن أحداث فرنسا الجارية منذ فترةٍ الآن -على سبيل المثال- لا يمكن أن تُقارب من غير خلفيّة صعود رأسماليّات قويّة في الأطراف، وبأدوارٍ ترسمها لأنفسها وفق مصالحها، ومن خارج سياق نهب وهيمنة المركز الغربي الجديد، مما أفقد الأخير توازنه في العالم؛ خصوصاً وأنّه قد أصبح قائماً بشكلٍ بنيوي، بعد انفراده بالسيطرة على العالم بأسره ابتداءً من أواخر ثمانينيات القرن العشرين، على نهب العالم كلّه لا جزءٍ منه؛ الأمر الذي يُنبئ باقتراب الانهيار الحتمي للمركز الحالي، مقابل انتقال المركز الجديد إلى أقصى الشرق (ولربّما سيعاد تعريف الشرق والغرب من جديد حينها).
وانطلاقاً من هذه الخلفيّة، فإن المركز المتهاوي قد اصطدم بتوابعه على اقتسام المنهوبات، ولم يكن ليحدث هذا الاصطدام لولا أن المنهوبات قد شحّت. ومن أبرز الأمثلة على ذلك: التضييق على الشركات الفرنسية والكورية واليابانيّة ذات الثقل في اقتصادات توابع المركز (قضيّة كارلوس غصن مثلا)، وخصوصاً بعد ظهور نزعاتٍ يابانيّةٍ وكوريّةٍ جنوبيّةٍ بالتقرّب من الصين، ونزعاتٍ فرنسيّة وألمانيّة بالاستقلال عسكريّاً عن أميركا؛ فكان أن ارتفعت صرخة من هم في أسفل هرم النهب في فرنسا. 
وفي الخلاصة، إن إعادة تعريف الطبقات الاجتماعيّة في المركز، بناءً على قربها من عمليّة النهب والهيمنة، قد أمست واجبةً وملحّةً لفهم حقيقة الصراع في العالم؛ تماماً كما أمست عمليّة إعادة قراءة مجتمعات الأطراف واجبة، وبالاستناد إلى مكوّناتها الحقيقيّة، لا استناداً إلى ما كتبته أوروبّا عن نفسها وعنّا في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر.
* من صفحة مجموعة العمل الوطني العربي «"فيسبوك".

أترك تعليقاً

التعليقات