إبراهيم الهمداني

إبراهيم الهمداني / لا ميديا -

طالما تعرضت القضية الفلسطينية -خلال تاريخها الطويل- للتمييع والتهميش، وحرفها عن مسارها الحقيقي، وتزييف توصيفها والتهاون في التعاطي مع مخاطرها وتداعياتها، على الصعيدين السياسي والثقافي، وقتلها في الوجدان الجمعي العربي تدريجياً، من خلال وسائل عدة؛ لعل أهمها:
التحريف المفاهيمي، الذي عمل على التخفيف من حقيقة الاحتلال الصهيوني، وقسوة حضوره وتواجده ككيان إجرامي غاصب، واستخدام التسميات المخففة البديلة، مثل "دولة إسرائيل"، و"الجيش الإسرائيلي"، وكذلك استبدال الأسماء العربية للأمكنة، بالأسماء العبرية الصهيونية، واستبدال المسار الجهادي التحرري، بالمسار الدبلوماسي السياسي التفاوضي، ومن ثم توصيف مفاوضات السلام ومشاورات السلام كحل وحيد مطلقاً، بين طرفين هما فلسطين و"إسرائيل"، بوصفهما طرفين متساويين في الحق الوجودي الواقعي على الأرض. وحين تحضر الرعاية الأممية (الأمم المتحدة)، أو الإقليمية (مصر أو غيرها) للدفع بمشاورات السلام، فهي في حقيقة الأمر ترعى وتتبنى وتروج لنسق مفاهيمي معين، يحمل رسالة ذات دلالات وأبعاد فكرية وثقافية ونفسية تكرس في الوجدان الجمعي العربي حالة من القبول الضمني بوجود الكيان الصهيوني كأمر واقع وضرورة حتمية، ووجود حاضر ومتحصل لا سبيل لإنكاره أو تجاهله أو التغاضي عنه أو رفضه أو نفيه، وإنما يجب التعامل معه كحقيقة واقعية ووجود ندي متحقق وقد نتج عن ذلك المسار المفاهيمي المنحرف مصطلحات ومفاهيم مغلوطة تخدم وجود الكيان الغاصب، وظهرت أيضاً مسارات سياسية وثقافية وفكرية تبنت القضية الفلسطينية، لكنها انحرفت عن المسار الحقيقي، ومضت تدافع عن فلسطين وتناهض الاحتلال برؤى ومفاهيم وتوجهات ومسارات تخدم وجود الكيان الصهيوني وتعمل على تحققه، وتعلن اعترافها به. وفي ظل هذا التعاطي السياسي والأيديولوجي، نشأت توصيفات أكثر مغالطة، ومفاهيم أكثر انحرافاً، تؤسس -بدورها- لأنساق معرفية وثقافية جديدة، مثل توصيف ما يجري في فلسطين بوصفه صراعاً عرقياً وليس صراع وجود بعد تحجيمه وحصره في "صراع فلسطيني إسرائيلي"، وهذا يلغي البُعد القومي والتحرري، وأصبح الكيان الغاصب ندَّاً وجودياً لأصحاب الأرض، وأصبح الطرفان المتصارعان متساويين في الحق الوجودي والحضور الفعلي، وانطلاقاً من تلك الندية والمساواة، يجب أن تمضي المشاورات والمفاوضات والمبادرات، ويجب أن تبنى الحلول المستقبلية. 
أصبح ذلك المسار المفاهيمي والسياسي والثقافي المنحرف المزيف هو السمة السائدة في التعاطي مع القضية الفلسطينية، سواء على المستوى الرسمي المتمثل في صيغة الخطاب الإعلامي الرسمي للأنظمة العربية، أو على مستوى فصائل المقاومة في الداخل الفلسطيني، حيث استطاعت ماكينة الإعلام الإمبريالي اغتيال الفكر العربي مفاهيمياً، وقتل الانتماء الإسلامي ثقافياً، وتقطيع أوصال القومية سياسياً، لتتحول قضية فلسطين في الوجدان العربي من قضية جمعية دينية وقومية وإنسانية، ورمز للمقاومة والنضال ضد المستعمر الغاصب، إلى أيقونة فشل وهزيمة صارخة، تؤكد دونية الذات العربية وعجزها وخيانتها لنفسها. والفلسطينيون وحدهم يتحملون عواقب تلك الهزيمة، مثلما كانوا سبباً في حدوثها. ونُظِرَ إلى رفضهم لبعض أو كل تلك الحلول المقدمة لإنهاء الصراع مجرد تعنت لا طائل تحته، وحماقة لا شفاء منها، كونهم الحلقة الأضعف في معادلة الصراع، وكل رفض يصدر منهم يفضي إلى مزيد من المكاسب للمحتل على الصعيدين العسكري والسياسي، ويفتح شهية المحتل أكثر لمزيد من التنازلات، فتنازلات الأمس غير مقبولة اليوم، وتنازلات اليوم مرفوضة قطعاً غداً، ولذلك يمكن القول بأن "صفقة القرن" ليست إلاَّ نتيجة طبيعية وحتمية للانحراف المفاهيمي والتزييف الثقافي، وتخاذل الأنظمة العربية والإسلامية الحاكمة عن تبني قضيتها المركزية في طابعها الديني أولاً، وقبل كل توصيف أو مسمى أو عنوان آخر.
استطاع الشهيد القائد/ حسين بدر الدين الحوثي -رضوان الله عليه- إعادة القضية الفلسطينية إلى مسارها الصحيح، ليس فقط من خلال تبنيه دعوة ومنظور الإمام الخميني الخاص بهذه القضية، وإنما أيضاً من خلال إعادة صياغة الوعي المفاهيمي الشعبي لهذه القضية، في سياقها القرآني، ليتحول التعاطي الشعبي معها من منظور التعاطف الإنساني والرفض الوجداني، إلى منظور الالتزام الديني بصريح الأمر الإلهي في النص القرآني، المحذر من موالاة اليهود والنصارى، والموجب لعداوتهم، والكاشف لحقيقتهم وطبيعتهم الإجرامية المتعنتة الجاحدة، المفسدة في الأرض والمحاربة للحق ولله ورسله وأوليائه وعباده أجمعين.
لم تعد قضية القدس مجرد شعارات تُرفع، وخطابات إعلامية تُستهلك، وبطولات عنترية تُصطنع، ومظاهرات تفضح عقلية القطيع، أكثر مما تدل على الشعور بالمسؤولية الجمعية الحقيقية، فقد حلت مركزية القضية محل ذكرى النكبة المناسباتية، المؤسسة للخذلان المتعاقب والهزيمة الدائمة، وحلت ثقافة المقاومة والجهاد من منطلق الواجب الديني، محل ثقافة الانبطاح والمفاوضات من منطلق المسار المنحرف والوعي المزيف، وبذلك أصبحت القضية الفلسطينية قضية المسلمين جميعاً، والواجب الديني الذي يجب عليهم القيام به، والعهد الإلهي الذي يلزمهم أداؤه والوفاء به. 
يمكن القول بأن الشعار في طابعه التوعوي، ونسقه المعرفي، ومساره الثقافي والسياسي والعملي، يمثل جوهر القضية الفلسطينية، في طابعها الحياتي العام، ويمثل القدس في طابعها الديني والتاريخي والحضاري بشكل خاص، ويرسم طبيعة الوعي الجماهيري بالقضية، من منطلق الشعور بالمسؤولية أمام الله تعالى، والتعاطي معها من خلال تموضعها الديني القائم -كالشعار- على مبدأ العبودية لله وحده، ورفض كل مظاهر الهيمنة والاستعلاء والفرعنة، وعلى مبدأ الولاء والبراء، بتولي الله ورسوله والذين آمنوا، والبراءة من أعدائهم ومختلف مظاهر تجسداتهم كشخصيات أو أنظمة أو غيرها من المسميات، التي تسعى لاستعباد البشر من دون الله المعبود الحقيقي، وتأتي اللعنة على اليهود في الشعار لتبني ثقافة الفرد في تعاطيه مع قضية القدس، التي يسعى اليهود والنصارى إلى تصفيتها وتغييبها، وتمييع حقيقتها الدينية في وجدان الأجيال القادمة، كما هي عادة اليهود التزييف والتحريف وإلباس الحق بالباطل، وقتلهم الأنبياء بغير الحق، وغير ذلك مما أوجب معاداتهم ولعنهم إلى الأبد. وحين يُختم الشعار بالنصر للإسلام فهو حقيقة النصر لقضية الإسلام والمسلمين المركزية، وتحقيق صدق الوعد الإلهي (ولينصرن الله من ينصره) في معركتهم الوجودية ضد عدو الله وعدوهم.
وبهذا تبدو العلاقة التلازمية بين القدس كقضية إنسانية وجودية، والشعار كبنية معرفية ثقافية، من حيث واحدية المصدر القرآني المقدس، الذي تضمن وصف مجريات وأحداث المعركة الوجودية الواقية الفاصلة بين الحق والباطل، التي يمثل اليهود وحلفاؤهم طبيعة الشر المطلق والباطل المحض فيها، ويقف في صف الحق جنود الله وأنصاره الذين اصطفاهم لتمثيله ونصرته وإعلاء كلمته، وبمثل هذا التوصيف يرسم الشعار طبيعة المعركة الوجودية المعرفية، التي تحارب الثقافات المغلوطة، وتفضح المسارات الفكرية المنحرفة، وتعري السلوكيات الزائفة، ليصبح الشعار -بوصفه ثقافة وفكراً، في تموضعه المحلي والإقليمي والعالمي- ثيمة فارقة وحداً فاصلاً بين أنصار الحق وأتباع الباطل، وموجهاً ثقافياً وسلوكياً لمصير البشرية جمعاء، في معركة القدس المصيرية العالمية.

أترك تعليقاً

التعليقات