إبراهيم الهمداني

إبراهيم الهمداني / لا ميديا -
كان توقيت عملية "طوفان الأقصى" ذا أهمية بالغة وحساسية كبيرة جدا؛ لأنها عكست حالة متقدمة جدا من التفوق الاستراتيجي والاستخباري والعسكري، وأرست معادلة جديدة غير مسبوقة في الصراع ومواجهة العدو الصهيوني الغاصب، وعلاوة على ذلك، فقد كان عامل السبق الزمني -واستراتيجية المبادرة والمباغتة- من أهم أسباب نجاحها وانتصارها وبقائها واستمرارها بهذا العنفوان والقوة والقدرة والمرونة، حتى أصبحت عصية على الاجتثاث والمحو، وقد اجتمعت عليها أعتى القوى الإمبريالية العالمية بكل إمكاناتها الوحشية والتدميرية والإجرامية على مدى عام كامل، لتغرق ومعها ربيبتها "إسرائيل" في رمال غزة تطوقها أغلال هزيمتها الأبدية.
قبل عملية "طوفان الأقصى" كانت القوى الإمبريالية العالمية قد منحت الكيان الصهيوني الغاصب دور البطولة في مسرحية صناعة "الشرق الأوسط الجديد"، وكان المخرج الأمريكي يلقن "البطل اليهودي" الكلمات الأخيرة في خطاب النصر، ويضع اللمسات الفنية الأخيرة على إطلالة نتنياهو "شمشون العصر" الذي فضَّلَ ممارسة الانتقام والتدمير والقتل والإبادة الجماعية على طريقة البطل "شمشون" اليهودي الأسطوري الذي احتفت أسفار التوراة بتخليد أسطورته بوصفه بطلا من أبطال الخلاص اليهودي.
إن أهمية وخطورة مشروع إبادة ومحو المقاومة، في أبعادها الثلاثة (الزمان والمكان والإنسان)، تحتم على القوى الاستعمارية الكبرى، اختيار بطلها "الإسرائيلي/ اليهودي الصهيوني" حامل المشروع، بعناية فائقة، وفق أعلى المواصفات والمعايير، لتصبح شخصية رئيس وزراء الكيان الصهيوني، نتنياهو، المرشح الأول لتنفيذ هذا المشروع الإمبريالي التسلطي الإحلالي الغاصب، فعلاوة على ما تمتلكه هذه الشخصية من رصيد إجرامي توحشي وتدميري إمبريالي سابق، فإن نزعته العنصرية العدائية وتوقه لممارسة العنف والتوحش على طريقة المخلص المتعالي، أوضح وأكبر من أن تستر قبحها شعارات إنسانية مزعومة أو تفوق حضاري زائف.
ولأن الموهبة وحدها لا تكفي، فقد رأت القوى الإمبريالية أن تلك المؤهلات والخبرات الإجرامية لم تكن مقنعة لتحقيق التفرد، ولا كافية للقيام بالدور المستقبلي الذي يتطلب شخصية يهودية فارقة، هي شخصية "اليهودي الجريء" الذي يمتلك الجرأة للتنكيل بأعدائه دون أن يرف له جفن، والقدرة على قتل عشرات الآلاف منهم بضربة واحدة، والشجاعة على مواجهتهم وحيدا أعزلا دون أدنى تهيب أو خوف. غير أن "اليهودي الجريء" المتباهي بقوته الإلهية سقط في عقوبة التيه ولعنة الخذلان والضلال وأغلال الذلة والمسكنة والغضب، والاحتقار والمسخ إلى قردة وخنازير، ولذلك كانت محاولات استعادة اليهودي الجريء من أعماق هذا الكم الهائل من مستنقعات الانحطاط والعار والذل والقبح والجبن ومساوئ الأخلاق بمثابة الإنجاز الخارق للعادة، لأن الوضعية العامة لليهود كانت هي الضعة والذل والاحتقار دائما. ولإخراجها من تلك الوضعية المنحطة يجب مراعاة أمرين: الأول: تحفيز خبث وعنصرية وعدوانية وإجرام النفس اليهودية/ الصهيونية وشحنها إلى أقصى درجات الغيظ والحقد، والثاني: تمكين تلك النفس سلطويا ودعمها وإسنادها بالقوة العسكرية اللازمة.
ذلك ما فعلته الماسونية العالمية عبر قوى الاستكبار العالمي في عملية إعادة بناء شخصية نتنياهو وإخراج "شمشون العصر" من داخله، وهو ما وافق هوى في أعماقه، وهو المفتون بحكايات ونبوءات الخلاص في الموروث الديني والتاريخي اليهودي، المشغوف بأسطورة المخلص شمشون والغارق في تفاصيل شخصية البطل اليهودي والمتشبع بكل كلمة في سردية الخلاص، منطلقا من محاكاة شخصية شمشون الأسطوري إلى تقليد سلوكياته وتصرفاته وحضوره وسكناته وحركاته، تقليدا حرفياً مرآوياً، حتى وصل به الأمر إلى تسمية نفسه "مخلص اليهود" و"مخلص إسرائيل" و"شمشون العصر"، معلناً خروج "اليهودي الجريء" ليلعب دور الخلاص المزعوم على طريقة سلفه القاتل المثالي (شمشون اليهودي).
وبينما كان نتنياهو يتهيأ للقيام بذلك الدور القيادي التسلطي، حيث يقضي على جميع أعدائه بعملية خاطفة قاتلة، ويضع بقية شعوب العالم بين قوسي خضوع مهين وخيار تبعية مذلة، وبينما كان يتهيأ للظهور على مسرح الأحداث السياسية الإقليمية متباهياً بقوته العسكرية والتكنولوجية، وإسناد رعاته في الغرب الاستعماري، جاءت عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023 متقدمة عليه خطوات كبيرة من الجرأة والشجاعة والتخطيط والإنجاز، وصعدت فصائل الجهاد والمقاومة الفلسطينية على مسرح الأحداث الإقليمية والعالمية، الذي كان مهيأً لـ"شمشون العصر" ليتلقى صفعات مدوية بكفي المقاومة الباسلة من خلف الستار، ويسقط مبهوتاً غير قادر على استيعاب حقيقة ما يحدث، وقد تبعثرت على لسانه بقايا حوار متهالك من مسرحية خلاص مزعوم تعفنت خلف سردها أوهام قوة بطل أسطوري عجز الخيال اليهودي عن تجميل قبح نهايته المأساوية ودوزنة ألحان قوته المتنافرة وتشذيب نشاز أغاني جرائمه التي صيغت لإشباع نزعة الحقد والعداء والانتقام اليهودي ليس إلا.
ربما استطاع "شمشون العصر" ممارسة الانتقام والتدمير والقتل والإبادة لفترة زمنية ما، خاصة في ظل الإسناد والشراكة الأمريكية الغربية؛ لكنه لن يستطيع، بعد الآن، القضاء على أعدائه بضربة واحدة، ولا وضع العالم بين قوسي خضوع قهري وخط تبعية مذلة، ولا إزاحة السابع من تشرين الأول/ أكتوبر من مسرح التاريخ الإنساني، ولا محو بطولات قادة وأبطال فصائل ومحور الجهاد والمقاومة بعمليات اغتيالات متوحشة دنيئة، ولن يجني من توسيع جغرافيا المعركة غير المزيد من الهزائم النكراء، لأن ثورة الطوفان لن تخمدها مجازر العدوان، وعلى الكيان "الصهيوني الوظيفي، ومن خلفه الغرب الاستعماري، أن يعي جيدا أن الجهاد والمقاومة عقيدة إيمانية متأصلة ومشروع نهضوي تتوارثه الأجيال، ومن المحال أن تهزمه أعتى القوى أو تجتثه أشد الصواريخ والقنابل فتكا وتدميرا، بينما وجود هذا الكيان الإجرامي وحلفائه مؤقت، وزواله أمر حتمي آتٍ لا محالة.

أترك تعليقاً

التعليقات