«داعش» وتساؤلات التسمية
 

إبراهيم الهمداني

إبراهيم محمد الهمداني / لا ميديا -

هل قام تنظيم "داعش" - بوصفه كيانا سياسيا - باختيار هذا الاسم بنفسه للدلالة عليه، باعتباره حاملا معرفيا (أبستمولوجيا) يختزل أيديولوجيته ورؤيته وموقفه بشكل عام؟ أم أنه ألقي عليه وأُلزم به دون اعتبار لموافقته أو مشورته؟!
سبق أن قدمنا الإجابة على الشق الأول من السؤال بالنفي القاطع في المقال السابق، نظرا لمخالفة ذلك لمنطق العقل ومبادئ الفطرة السوية، فحتى المجرم - وهو كذلك - يرفض أن ينادى بهذا الوصف، ناهيك عن أن يطلقه هو على نفسه، ويظل يلتمس لنفسه المبررات الشاهدة على خلو ساحته من الإجرام، رغم اعترافه الصريح بأنه ارتكب الجريمة فعلا، معللا ذلك بأن ارتكاب الجريمة لا يعني بالضرورة كونك مجرما، وإذا كان القتل جريمة في التوصيف القانوني باتفاق الجميع، فإن القيام بالفعل ذاته لا يعني أنك أصبحت مجرما، قد تكون مدانا باقتراف الفعل ذاته، لكنك لن تكون مجرما، نظرا لما تحمله من الدوافع والمبررات والملابسات والأدلة التي تثبت ذلك.
ربما كانت هذه الفلسفة صالحة لتبرير موقف هؤلاء في حال كونهم اختاروا تلك التسمية للدلالة عليهم، بمطلق رغبتهم وحريتهم ووعيهم الكامل، رغم أن تفكيرهم السطحي وعقم عقولهم المنغلقة على التقليد والتبعية المطلقة، يجعلهم أبعد ما يكونون عن المنطق الفلسفي والتفكير العميق، وفي هذه الحال يمكننا القول إن هؤلاء المتطرفين لا يمكن أن يكونوا أصحاب مشروع ذاتي ورؤية خاصة بهم، وأيديولوجيا تعبر عنهم، وإنما هي منسوبة إليهم، مملاة عليهم، وهي على ما فيها من التطرف والعداء المطلق للعربي المسلم قبل المخالف هوية وعقيدة، وما دامت هذه حالهم فهم حسب الفلسفة السابقة، مدانون وليسوا مجرمين، ما يعني أن ذلك الفكر المتطرف بحاجة إلى احتواء ومناقشة ودحض الحجة بالحجة والتنوير الفكري.
وفي حال كانت الإجابة على الشق الثاني من السؤال بالإيجاب، فهم بين أمرين أحلاهما مرٌّ.
إما أن يكونوا على جهل تام بمعنى التسمية، وإما أن يكونوا على معرفة بأبعادها ودلالاتها.

إذا كانوا على جهل تام بمعنى التسمية، وحقيقة الصفات والفعال التي تخلعها عليهم كالقتل و"الإرهاب" والتطرف، وأنهم مشروع موت ودمار شامل لا يستثني أحدا، فبهذا نعرف أنهم كفكرهم المتطرف وتسميتهم العرجاء، نبت طارئ ودخيل على البيئة العربية والفكر الإسلامي، وفي هذه الحال لا تكفي الرصاصة وحدها لمواجهة ذلك الموت القادم باسم الدين، والقتل المتوج باسم الله تعالى عن ذلك علوا كبيرا، بل يجب عمل الندوات والنقاشات والبحوث والدراسات، التي تتناول هذا الفكر المنحرف المنسوب إلى الإسلام زورا، والتحقيق من أين تم استجلاب عناصره وقياداته ومن يقف وراءهم وما هي مخططاتهم، إضافة إلى التركيز على دور أمريكا في سلبهم حقهم الوجودي وجعلهم ضحايا على مذبح مصالحها وأطماعها.
أما إذا كانوا على معرفة بأبعاد ودلالات تلك التسمية المفروضة عليهم رغما عنهم، مقابل تمكينهم - أو إيهامهم بتمكينهم - من إقامة دولة وكيان سياسي خاص بهم، وبالتالي فهم يعون حقيقة دورهم التدميري في المنطقة العربية، وأنهم ليسوا أكثر من أداة بيد أمريكا لتنفيذ مصالحها وتوسيع هيمنتها ونفوذها، ثم لا تلبث أن تستغني عنهم - كما هو حاصل الآن - وكما سعت من قبل للتخلص من أسلافهم تنظيم "القاعدة"، وها هي تعيد إنتاج ذات الفكر والتنظيم المتطرف، تحت مسمى "داعش"، جاعلة منه سرطانا متنقلا من أفغانستان إلى العراق وسوريا وصولا إلى اليمن، حيث يقوم تحالف العدوان بزعامة السعودية ورعاية ومساعدة أمريكا و"إسرائيل" بإخراج الدواعش من العراق وسوريا، وإرسالهم إلى اليمن ليقوموا بدور أكثر فاعلية، بعد أن عجز المرتزقة من أهل البلاد عن القيام بالدور المطلوب.
وهنا يجب تسليط الضوء على الدور الأمريكي في صناعة التطرف و"الإرهاب"، ومن ثمَّ اتخاذه ذريعة لتدخلاتها المباشرة وتنفيذ مشاريعها الاستعمارية، لخدمة الكيان الصهيوني الغاصب، وإشعال المنطقة بالصراعات والحروب.

في كل الأحوال لا تعدو تلك التنظيمات الدينية المتطرفة المتعاقبة، كونها أحد إفرازات مذهب الجبر اليهودي الأصل، الأموي بالتبني والنشر والرعاية، بوصفه المذهب الرسمي للدولة حينها، حيث قام فقهاء السلطان وعلماء السوء بعملية إسقاط لمبادئ هذا المذهب المنحرف ومفاهيمه وأسسه، على الواقع الإسلامي والموروث الديني كالحديث والتفسير، الذي تعرض للتحريف والوضع والتدليس والاغتيال مرارا، ثم جاء ابن تيمية ليكمل المسيرة، وأتى ابن عبدالوهاب والفكر الوهابي تتويجا لمسيرة التطرف والهدم، تحت مسمى إحياء معالم الدين، جاعلا من مقولات مذهب الجبر اليهودي أولى مدخلاته وأهم مرتكزاته وأسسه، التي بنى عليها مشروعه الهدام للإسلام والمسلمين، وقد تبنت وتولت رعاية هذا الفكر المتطرف مملكة بني سعود، مسخرة كل إمكاناتها وثرواتها لنشره وتعميمه على جميع أقطار المعمورة، ليس بوصفه المذهب الرسمي للدولة - كما فعل الأمويون من قبل - بل بوصفه الصورة الحقيقية الوحيدة للدين الإسلامي والمجتمع المسلم، وإن ما سواه من المذاهب ليس إلا خروجا عن روح الإسلام وحقيقته، رغم أن هذا المذهب الطارئ ليس من المذاهب الأربعة ولا يمثلها، وبهذا ندرك أن هذا الفكر المتطرف بجماعاته وتنظيماته، ليس إلا صورة من مخرجات الفكر الوهابي القائم على مذهب الجبر والموروث الديني اليهودي، الذي تم تضمينه في كتب الحديث والفقه والتفسير والسيرة النبوية والموروث الإسلامي عامة، وأن مواجهة ذلك الفكر المتطرف تقتضي تجفيف منابعه الفكرية والمالية، وإعادة الاعتبار للموروث الديني وتنقيحه من الشوائب الدخيلة عليه، وكشف وتعرية الفكر الوهابي المتطرف، والحد من ممارسة الاغتيال الفكري بحق الأجيال، فإذا كانت القنبلة النووية تقتل الناس والحياة لعشرات السنين، فإن الفكر الخاطئ يقتل الحياة والعقل لمئات السنين، وإذا كانت أمريكا تجيد استغلال الجماعات المتطرفة والحمقى، فعلينا أن ندرك خطورة أن تكون مرجعية ذلك التطرف منسوبة إلى الدين الإسلامي، وخطورة أن تكون السعودية - بمكانتها الدينية - الراعي الرسمي لذلك التطرف والمروجة له تحت مسمى الدين الإسلامي.

أترك تعليقاً

التعليقات