مثلث الخراب
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلـي عبـد القـوي العبسـي / لا ميديا -

إبان فترة الجدل والمراجعة في التسعينيات وما بعدها حرص الكثيرون من الوطنيين على توجيه سهام نقدهم للمستعمر وأدواته وصنائعه من نظم سياسية وحركات وظواهر سلبية ومخرجات فترة السبعينيات السوداء التي شهدت ميلاد الثورة المضادة، وهذا النقد والهجوم الذي قرأناه كان محمودا وقيما وفيه الشيء الكثير من الصحة والمصداقية، وهو مقبول ومبرر باعتبار أن الثورة المضادة كانت بالضد من مصالح الشعوب وتقدمها الاجتماعي، وهي تمثل عملا انقلابيا خيانيا ارتداديا ضد مشروع التحرر الوطني: مشروع الثورة التحررية في الخمسينيات والستينيات والتي تشكل المرحلة الذهبية في تاريخنا المعاصر.
وفي الوقت نفسه حرص الكثيرون من الليبراليين على مهاجمة الثورة التحررية الوطنية ذاتها ورموزها ونظمها بدعوى العمق وتتبع جذور المشكلة، وكان حرصهم المغرض هذا نابعاً في الحقيقة لكونهم يمثلون أحد أعمدة هذه الثورة المضادة ومكوناتها وظواهرها الرديئة، وثمة منهم من كان يحاول عبثا النأي بنفسه ويحاول الخداع والتضليل والمغالطة والتغطية على جريمة المشاركة في صنع ودعم البديل السيئ لا البديل الأفضل، هؤلاء الجهابذة من هذا التيار كانوا يصوبون سهامهم في الاتجاه الخطأ عن عمد وسبق إصرار، وذلك للتغطية على حقيقة كونهم ضلعاً من أضلاع مثلث الخراب في منطقتنا العربية أو مثلث الموت والدمار.
وهذا المثلث في امتياز صناعته هو غربي استعماري وله ارتباطاته بالرجعية العربية والصهيونية والماسونية.
هؤلاء الناعقون هم الليبراليون ومعهم مؤخرا بعض من ينسبون أنفسهم إلى اليسار الليبرالي، أغلبهم يدعون الليبرالية بينما الليبرالية الحقيقية عنهم بعيدة بعد الثريا عن الثرى.. هؤلاء لم يملّوا من تكرار الأسطوانة المشروخة، لم يملّوا من شن الهجوم الكاسح الموجه كله إلى ما سموه الأنظمة العربية المستبدة والجيل السابق والاستبداد والشمولية والفساد والفشل والإخفاقات والانحرافات، ولا يقصدون به قادة الموجة المضادة (السبعينيات) من عسكر أمريكا وصندوق النقد ومن أولاد الكامب (كامب ديفيد) ومن لف لفهم من المأجورين الخونة الذين أيدوهم وباركوا سياساتهم وكانوا بطانتهم المفضلة وعقلهم المفكر وحراس أيديولوجيتهم.
لا يقصدون قادة موجة الردة العميلة هذه (موجة السبعينيات)، وإنما يقصدون قادة ثورة التحرر الوطني، ثورة الخمسينيات والستينيات، هؤلاء الأبطال الذين دفعوا حياتهم ثمنا لمبادئهم الوطنية، وأغلبهم شهداء وعاشوا وماتوا فقراء.
ينسى هؤلاء أو يتناسون عمدا أن 90٪ من هذه البلاوي محل الهجوم والانتقاد هي نتاج الإمبريالية التي أعاقت عملية التقدم في طريق التخلص من هذه المظاهر، وأعادت عبر ثورتها المضادة المشؤومة إنتاج هذه البلاوي من جديد عبر طراز جديد من حكام جدد فاشيين براغماتيين شعبويين، وعملاء أفاقين كانوا يرفعون شعارات براقة للخداع والتضليل، ويفعلون في الواقع عكس ذلك، حكاما سفلة مدججين بترسانة للهيمنة ابتداء من أدوات القمع الأمني العسكري مرورا بصناعة شبكة إعلام وأموال وإرهاب، وانتهاء بمنابر ثقافية هيمن عليها هؤلاء المطبلون الليبراليون المتأمركون الموالون للغرب الاستعماري وأدواتهم، بينما في المقابل نجد أن الشيوعيين، وهم من يمثل المعارضة الوطنية الشريفة ذات المبادئ الإنسانية، تميزوا بقدر عال من الإنصاف والموضوعية والدقة في التحليل، وكانوا على صواب في نقد الأخطاء منذ الوهلة الأولى، منذ بدايات التجارب الوطنية، وكانوا على صواب في عدم السكوت على الجرائم المرتكبة، وكثيرا ما اكتووا بنار القمع والإقصاء أثناء ممارستهم النقد ومحاولاتهم التصحيح وتفادي الكوارث، وقدموا قوافل من الشهداء أثناء ذلك، وكانوا مثالا للتضحية والإخلاص والشجاعة ونكران الذات في كلا المرحلتين الذهبية والسوداء، وقد عذبوا وشردوا في وطنهم ولوحقوا حتى في المنافي ولم يسقط منهم إلا القليل، وقد علموا ويعلمون أن المسؤولية الأكبر لا يتحملها حكام المرحلة الأولى الذهبية قادة التحرر الوطني مثل قاسم وعارف والأسد وناصر وجديد وفتاح وبومدين والقذافي، بالرغم مما ارتكبوه من أخطاء كثيرة وجرائم قليلة، وبالرغم من تورط بعضهم في قمع الشيوعيين، وإنما في حكام المرحلة الثانية، مرحلة السبعينيات السوداء من الفاشيست الأوغاد رموز الخيانة والانحراف والجواسيس والمندسين والكذابين، راكبي الموجة، صنائع المخابرات الأمريكية والبريطانية.
المسؤولية الأكبر للخراب تقع على عاتق هؤلاء أعوان الاستعمار من نخب ومتنفذي ثالوث الثورة المضادة التي انطلقت في السبعينيات أي: (الإسلاميين والفاشيين والليبراليين).
لست في موضع المدافع وإنما الإنصاف، وموقفي هذا عن قناعة وتصديق لما قاله باحثون وكتاب ومجايلون لتلك الفترة المجيدة والعظيمة التي كنا نحلم نحن أبناء الجيل اللاحق ولو بمثلها ونحسد كثيرا من عاش فيها، وهنا أقول إن من يضع رموز وقادة التحرر الوطني أو بعضهم الذين ذكرتهم أعلاه في خانة الفاشيست والخونة فقد تجنى كثيرا وتحامل ووقع في الخلط وعدم التمييز.
إذ لا يمكن أبدا وضع هؤلاء الثوار الديكتاتوريين الشعبيين الشموليين في خانة الفاشيست الخونة الذين أطاحت بهم انتفاضات شعبية عربية مجيدة كمبارك وبن علي والنميري والبشير و.. و… وغيرهم من الآخرين الذين يشبهونهم من صنائع ثورة السبعينيات المضادة وانتهوا إلى مصير أسود بهذه الطريقة المشابهة أو تلك.
نعم هناك أخطاء وجرائم تم انتقادها وفضحها لكن من منطلق البناء والتصويب والإصلاح لا الهدم والارتداد.
لا وجه للمقارنة على الإطلاق، وشتان ما بين الثورة والثورة المضادة، ومن يخلط أو يستسلم لعواطفه وتحيزاته المبنية على التعصب والكراهية والجهل ولا يفهم ظروف تلك المرحلة التاريخية الذهبية ويقدرها حق قدرها، فهو لا يصلح أبدا أن يكون سياسيا أو يحسب من زمرة السياسيين، وإنما مكانه المثاليات واليوتوبيا وليس الواقع الاجتماعي العربي بعيانيته وتجسده واشتراطاته وديناميكيته التاريخية.
كذلك انظروا في ما فعله ومازال يفعله في تاريخنا وواقعنا جيش عرمرم من هذا الطراز من المثقفين المتأمركين الانتهازيين الخونة الذين لا يتورعون خجلا عن تمجيد المستعمر والتغني به بل الحنين لعهوده السابقة ومغازلة أدواته الصهيونية والماسونية والرجعية العربية طمعا في الارتزاق في معظم الأحيان وخوفا في بعضها. هؤلاء هم أيضاً لا يقلون سفالة وتفاهة عن الفاشيست أدعياء القومية والظلاميين الإسلاميين بل أكثر فظاعة.
نقول لهم يا هؤلاء الحمقى يا مغالطين يا كذابين أنتم جزء من قوى الثورة المضادة لا تختلفون عن الفاشيين والإسلاميين العملاء في شيء، بل أنتم في مقدمة المطبلين للصهيونية والاستعمار وفي مقدمة المرتبطين المشبوهين والمتتلمذين على الماسونية، أنتم أحد أسباب الهزيمة والفشل، ولتعلموا أن حذاء أي واحد من قادة التحرر الوطني لهو أنظف من وجوهكم وأثمن من عقولكم المسمومة.
إن من لا يرى أن نسبة الـ90% من المسؤولية عما جرى في بلد كسوريا مثلا على يد الإمبريالية وأدواتها الرجعية العربية والصهيونية وجيش من أمثال هؤلاء المنبطحين، فهو متحامل وغبي وجاهل ويتكلم بلغة تافهة كأغلب الليبراليين الذين كما قلت هم أسوأ من الإسلاميين والفاشيين بسعيهم المحموم إلى تبرئة النظم الاستعمارية ومغازلة المستعمرين والصهاينة وحلفائهم الرجعيين.
يتحدثون عن الموروث الجامد وتخلف البنى الاجتماعية القبلية والعقل العربي المستلب والإسلام المختطف و… و... إلى غير هذه العناوين المكررة والمستنفدة كأسطوانة مشروخة في خطابهم اليومي الرديء وينسون ويتناسون كيف توظف القوى الاستعمارية وأدواتها هذه المشكلات وهذه الظواهر توظيفا سيئا وتوجهها في طريق يخدم مصالحها غير المشروعة إمعانا في التدمير والخراب لتحقيق السيطرة على المنطقة وثرواتها.
نقول لهؤلاء الذين يركزون في تصويب سهامهم المسمومة على المرحلة الذهبية، الذين نسوا أو تناسوا ماهية القوى التي أعادت إنتاج الطائفية والمحاصصة والإرهاب والفساد والتجهيل والتدجيل والتدجين في مطلع الألفية، نسوا أو تناسوا من الذي يفرض بالقوة سياسات الإفقار الاجتماعي والتقسيم والنهب للثروة والعسكرة ويصنع الحروب ويلوث البيئة ويستنزف الموارد ويستهدف الثقافة الوطنية والسلام الاجتماعي ويصنع الإرهاب والكراهية ويدمر الدول منذ التسعينيات ويمول الثورات المضادة من وقت أبكر، أي في مطلع السبعينيات و… و… و… الخ.
نقول لهم يا هؤلاء لماذا تتعمدون نسيان أن المنطقة ملحقة ومدمجة بالإمبريالية لما يقارب الـ140 عاما، وأن الحاكم الفعلي في أغلب هذه الفترو الطويلة المظلمة باستثناء فترة ذهبية قصيرة، هو هذا الاستعمار الذي ابتلينا به، وتزعمون إفكا وبهتانا أنه المنقذ للأمة والمخلص ورسول الحضارة.
نعم 90% مما يجري في مسرح حياتنا الاجتماعية العربية اليوم هو من إنجازات ونتاجات وصناعة نظام الإمبريالية وإفرازاته وصنائعه وأدواته، هذه الظاهرة الحديثة التي نعتبرها وصمة عار في جبين بشرية اليوم.
بدلا من تشكيل جبهة ثقافية وفكرية واسعة لفضح ومواجهة العدو والنضال ضده وتوعية الناس بضرورة طرد المستعمر وذيوله واقتلاع أدواته وثقافته أولاً، وعلى رأس هذه الأدوات قوى الثورة المضادة العميلة للغرب، نقول الغرب لا بوصفه جهة أو حضارة أو ثقافة، وإنما بوصفه تحالفاً إمبريالياً ومركز نظام إمبريالي عالمي، وعلى رأس هذه القوى المضادة ثالوث الخراب (الإسلاميون والليبراليون والفاشيون). بدلا من كل هذا نرى المثقفين الخونة يصوبون سهامهم في الاتجاه الخطأ، ليس جهلا، وإنما عن سبق إصرار وترصد وخيانة وقبض ثمن، هؤلاء يوحون للناس وللعوام البسطاء أن مشكلة العرب كلها تكمن في العرب، هكذا وبكل بساطة حذفوا النقطة لتبرئة العدو.
هؤلاء المثقفون يجب عليكم حيث تجدونهم أن تعروهم وتفضحوا مراميهم وتظهروا للناس منطقهم الهش والمتهافت والجبان وخطابهم الخائن والمدمر. قولوا لهم: اذهبوا يا جبناء إلى مزبلة التاريخ.

أترك تعليقاً

التعليقات