فلسطين عربية
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -
فلسطين هي قلب العالم العربي والإسلامي، وهي كانت القلب في النضال التاريخي، ليس فقط للشعوب العربية والإسلامية، وإنما لسائر شعوب الجنوب ضد الاستعمار الغربي، بكل موجاته التاريخية المتلاحقة، ابتداء من الغزو الروماني القديم مرورا بالبيزنطي ثم الصليبي الأوروبي القروسطي، وصولاً إلى الاستعمار الكولونيالي والإمبريالي الحديث.
وهذه مكانتها في تاريخ الشعوب الباحثة عن الحرية والكرامة. واستمدت لها مكانة عظيمة إضافية من كونها الموقع الجيوسياسي الأهم في العالم، وملتقى القارات وبوابتها ونقطة التقاء الممرات التجارية، وكونها الأرض الفريدة في كنوزها ومناخها ومناظرها الطبيعية الخلابة، والمستقر الأول للحضارة الزراعية النيوليتية.
ثم أضيفت لها مكانة أكبر بكونها أصبحت الأرض المقدسة، ومهبط الديانات وموطن الأنبياء، ومنها وفيها ولدت الديانة المسيحية، التي انتشرت بعد ذلك في أجزاء كثيرة من دول العالم.
وتعززت مكانتها أكثر مع مجيء الإسلام كدين عالمي متمم احتوى على المبادئ والمنظورات والتصورات المصححة والمطورة لما جاءت به الديانات الإبراهيمية السماوية التي سبقته.
جاء الإسلام ليؤكد مركزية القدس، ومحورية فلسطين كساحة صراع ضد الطغيان الإمبراطوري والإفساد اليهودي العالمي عبر التاريخ، وحتى زوال الطغيان!!
والقدس أخذت مكانتها العظيمة مما حوته من مقدسات دينية كالمسجد الأقصى وكنيسة القيامة، وبكونها أرض الأنبياء، وأرض الإسراء، وموطن أولى القبلتين، وأصبحت في قلب إمبراطورياته المترامية الأطراف، ومحط أطماع الغزاة المستعمرين الحاقدين.
ومن المعروف تاريخيا أن من حرر أرض فلسطين -بوصفها أرض عربية لآلاف السنين وخضعت طوال معظم تاريخها لفترات احتلال أجنبي متعاقبة- هو الجيش الإسلامي الذي انطلق من جزيرة العرب إلى بلاد الشام، وحرر فلسطين والقدس من الاستعمار البيزنطي (الروم)، وأعادها إلى الحضيرة العربية، بعد أن تعاقبت عليها جيوش الغزاة الأجانب لمئات وآلاف السنين.
حيث كانت فلسطين تاريخيا عربية كنعانية، ثم سكنتها قبائل عربية أخرى منذ آلاف السنين قبل ميلاد المسيح. وكانت هي الجزء الجنوبي من الأرض السورية العربية الكنعانية التاريخية.
إذن، الحقيقة التاريخية تقول إن فلسطين عاش فيها العرب الكنعانيون لآلاف السنين، وأقاموا عليها حضارتهم الزراعية، بالتجاور مع أقوام عربية وفدت من وسط الجزيرة العربية وجنوبها منذ الألف الأول قبل الميلاد.
وقد شهدت أجزاء من فلسطين حكماً استيطانياً بدوياً بربرياً لقبائل عبرانية يهودية، أنشأت فيها لفترات زمنية قصيرة ممالك صغيرة متناحرة!!
وكل الممالك المستحدثة الطارئة، وأبرزها مملكة «إسرائيل» الموحدة ثم المملكتان اليهوديتان في فترة الانقسام، ثم بعد ذلك في فترة هيرودوتس التابع للحكم الروماني، كلها غير شرعية وأقيمت بالقوة على أرض كنعان، ومعظمها لم تدم أكثر من ثمانين عاماً!!
وهو ما يسميه قادة الكيان الصهيوني ومؤرخوه بـ«لعنة الثمانين»، وهو ما عاد وأثار قلقهم في الوقت الراهن بعد معركة «طوفان الأقصى»، ومع اقتراب بلوغ الكيان الصهيوني المحتل والدخيل والطارئ المستحدث عامه الثمانين، ولا مناص (في نظرهم) من حلول «لعنة الثمانين» واقتراب عصر النهاية لهذا الكيان!!

زوال محتوم
في هذا الكلام شيء من المنطق، ليس كنبوءة أو خرافة، وإنما لكوننا هنا نتعاطى مع مسألة كيان احتلالي لا تتوفر له مقومات البقاء فترة طويلة، وليس بالضرورة أن تكون النهاية، نهاية هذا الكيان المحتل، في غضون سنوات، وقد تمتد إلى أكثر من عشرين عاماً، كزوال بطيء، وانهيار تدريجي لكيان محتل، وكنظام سياسي فاشي عنصري فاسد، يفتقر إلى الديمقراطية والإنسانية، وقبل ذلك إلى الشرعية التاريخية، ويقوم على أسس باطلة، منها ما يلعبه ككيان وظيفي إمبريالي، ومنها مبررات إنسانية واهية ودعاوى دينية أسطورية زائفة!!
هذا الزوال المحتوم تؤكده حقائق التغير الديموغرافي، والهجرة العكسية، وتعاظم وصعود النضال الثوري الفلسطيني واكتسابه تطوراً نوعياً ملحوظاً بشكل لافت، وهذا هو الأهم، وأيضا عامل تغير المناخ، الذي حتماً سوف يؤدي إلى تزايد هروب وهجرة الصهاينة من أرض فلسطين خلال العقدين القادمين، بالإضافة إلى الرفض الشعبي العربي الإسلامي للتطبيع، ورفض وجود وإدماج الكيان الصهيوني في المنطقة؛ لكونه كياناً لقيطاً وغير شرعي اغتصابياً استيطانياً محتلاً مزروعاً بقوة الاستعمار، وكذلك انحسار النفوذ الإمبريالي الغربي الأطلسي، وتغير موازين القوى، وبروز النظام العالمي الجديد متعدد الأقطاب، وصعود القوى الداعمة للنضال الشعبي الفلسطيني.
بالخلاصة: هو إذن حدث تاريخي في جوهره، يشكل خطأ تاريخياً جللاً، مبنياً على أسس باطلة، وعلى مفاهيم فاشية عنصرية وركائز استعمارية اغتصابية. وكان لا بد من تصحيح هذا الخطأ التاريخي الفادح، بالثورة الفلسطينية العظيمة، وتفعيل قواها التحررية النضالية وتوطيد وتعميق مكتسباتها وصولاً إلى النصر والتحرير.

الخطأ التاريخي الكارثي
في القرن العشرين، تأسس في فلسطين كيان استيطاني، لكل المستوطنين الغاصبين المهاجرين من شتى بلدان اللفيف اليهودي، من أعراق أوروبية ومعظمهم من أصول تركية خازارية من منتسبي الديانة اليهودية، أي من الأتراك النازحين من دولة خازاريا التركية اليهودية إلى شرق وجنوب وغرب أوروبا، قبل ألف عام تقريباً.
أي أن معظمهم من الذين لا ينتمون تاريخياً إلى المنطقة، ولا تربطهم بها أي صلة عرقية أو ثقافية تاريخية، وإنما وفدوا كمهاجرين ومستوطنين دخلاء، استغلالاً للوجود الاستعماري البريطاني، وعلى يد حركة سياسية يهودية قومية علمانية وعنصرية وفاشية رجعية إمبريالية تسمى «الحركة الصهيونية»، احتلت الأرض الفلسطينية العربية بالقوة الغاشمة، وهجّرت أصحاب الأرض وشرّدتهم، بعد ارتكاب عشرات المجازر ضدهم في المدن والقرى والبلدات الفلسطينية، بمباركة وصمت الغرب الإمبريالي!
وقد أخطأ قادة هذه الحركة العنصرية الاستعمارية الفاشية، بأنهم عالجوا ما يسمى «المسألة اليهودية» والمظلومية اليهودية -التي حدثت على أيدي النازيين والقياصرة الروس من قبلهم- بطريقة همجية توحشية، اغتصابية غير إنسانية وغير أخلاقية أو حضارية!!
فلم يكترثوا لأصحاب الأرض التاريخيين (العرب الفلسطينيين)، وبكل برود ووحشية وغباء وجهل مطبق بحقائق التاريخ وحقائق الدين، حتى الدين اليهودي نفسه!!
قرروا التحرك لاغتصاب فلسطين وانتزاعها لأنفسهم دون وجه حق، وصنعوا بذلك جريمة هي أبشع جرائم التاريخ المعاصر، والتي ساعد على ارتكابها الغرب الرأسمالي المتحضر وصمته على هذه الجريمة، وهو الصمت والتواطؤ المبني على حسابات حقيرة متعددة، أهمها: المصالح الاستعمارية الإمبريالية، بالإضافة إلى التخلص من العبء اليهودي والشغب الصهيوني وعقدة الذنب اليهودية!!
تحولت جريمة احتلال واغتصاب فلسطين العربية، وذبح وتشريد سكانها الأصليين، إلى وصمة عار في جبين الحضارة الغربية الرأسمالية، ومثالاً فاضحاً على الكذب والنفاق والغدر والتواطؤ والحقد البربري الاستعماري الثقافي، وأنموذجاً لاستنساخ التجربة الاحتلالية الاستيطانية العنصرية الفاشية ذاتها، التي حدثت في أمريكا وكندا وأستراليا وجنوب أفريقيا، والتي تم استنساخها وزرعها، وتطبيقها في قلب العالم العربي والإسلامي، وبما يؤكد مهزلة تكرار مآسي التاريخ!!

الثورة واستمرارها وتعميق نضالها هي الحل التاريخي
من رحم هذه المعاناة الإنسانية والكارثة الجديدة، التي صنعها الاستعمار الغربي القديم الجاثم على المنطقة العربية في خواتيم أيامه اللعينة، وُلدت حركة التحرر الوطني الفلسطيني، ووُلدت الثورة الفلسطينية والكفاح الوطني الفلسطيني، وانضم إليه أحرار كثر من سائر أرجاء الوطن العربي الكبير والعالم المقاوم أجمع.
أصبحت فلسطين، في منتصف القرن العشرين، هي الجبهة المتقدمة في هذا النضال، وهي رأس الحربة في الكفاح ضد امتداد الاستعمار البريطاني والأمريكي وذراعه الإمبريالية (الكيان الصهيوني) التي زُرعت في فلسطين ككيان احتلالي يلعب دوراً وظيفياً في المنطقة لصالح الإمبريالية، ثم ضد هذا الوجود الإمبريالي الصهيوني، وتنفذاته في سائر المنطقة العربية والإسلامية وكافة دول الجنوب.
وقد ألهمت حركة التحرر الوطني الفلسطيني سائر الحركات التحررية الوطنية في الجنوب الآسيوأفرولاتيني، حتى تلك التي بدأت مسيرتها النضالية ضد الاستعمار الحديث، ووُلدت تاريخياً قبل حركة التحرر الفلسطيني. وكان الإلهام عبر الدروس العظيمة التي قدمتها المدرسة الفلسطينية العظيمة في النضال الثوري التحرري: دروس الثورة الفلسطينية، ودروس الكفاح المسلح والانتفاضات الشعبية وصولاً إلى حرب العصابات والمقاومة الفلسطينية.
وأكثر المحطات النضالية التاريخية الفلسطينية إنجازاً وإبداعاً وقوة وزخماً هي هذه الفترة الممتدة ما بين معركتي «سيف القدس» و»طوفان الأقصى»، حيث مر عامان من الزخم والإبداع النضالي حدث فيهما من العمليات والهجمات النوعية والابتكارات والأساليب النضالية، ما أثار إعجاب المراقبين والمحللين السياسيين والعسكريين والاستراتيجيين في العالم أجمع.
معركتان عظيمتان في غزة، وما بينهما حدث تاريخي ما يشبه انتفاضة ثالثة مركزها الضفة الغربية الثائرة، تحديداً في إقليم جبل النار ومدنه وبلداته، بالإضافة إلى القدس وأحيائها العربية.
ومن المآثر البطولية العظيمة التي صنعها الشباب المقاوم في الضفة الغربية، وفي المقدمة منهم منظمة «عرين الأسود»، وصولاً إلى كبرى معارك النضال الفلسطيني، وذروة زخمه وإبداعه وأثره: معركة «طوفان الأقصى».
شهدنا ملحمة نضالية بطولية ستخلد في التاريخ البشري، قدم فيها الشعب الفلسطيني قوافل من الشهداء، وعرساً لا ينتهي في ساحة لا تنتهي... هذا هو العرس الفلسطيني!

أترك تعليقاً

التعليقات