وداعا أيها البطل!
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / #لا_ميديا -

من ضفة نهر الفرات الشرقية وحتى الحدود الغربية للصين، بدأت كبرى حضارات المشرق العظيمة في بلاد فارس، وهي حضارة ورثت تراث بابل وسومر وآشور، ونقلت عن الهند والصين، وهضمت واستوعبت، وأبدعت بعد ذلك حضارة هي الأروع في التاريخ، لأنها ملتقى الحضارات الأقدم، والحضارة التي توسطت جغرافيا الحضارات العظيمة الثلاث: الصينية والهندية والبابلية، وحيث انصهرت الخلاصات في بوتقة واحدة. ولسبب آخر أيضا في اعتقادي، ربما لأن شعوب هذه الحضارة تميزت بخصائص نفسية متميزة، حيث امتزج العقل بالعاطفة بالحواس والحدس في تركيب فريد لإنسان هذا المكان يندر أن تجد مثله لدى بقية الشعوب وربما كان هذا أحد العوامل في تميز أحفاد الآريين الذين هاجروا إلى شمال غرب أوروبا.
نقول هذا كاقتناع بحقيقة اجتماعية إنسانية تاريخية، وليس من منطلق عنصري أو تكراراً لثرثرة النازيين.
هنا عرف الإنسان الكثير من الحكمة وحقائق الحياة، وهنا البدايات العفوية للديالكتيك كفلسفة. وهذا منعطف هام في التفكير البشري، فبدأ الحديث عن جدل الصراع بين الخير والشر، النور والظلمة، وإدراك قدر الإنسان ومصيره وكينونته في المواجهة والتحدي، فكان التحدي الذي خاضه ابن هذه الأرض مرارا مع وحوش الطبيعة ووحوش المجتمع أيضا، تحدي الخوف وتحدي الظلم ومواجهه الشر.
لكل عصر برابرته، وبرابرة هذا العصر هم ساسة وجنود وعسكر وتجار وجواسيس أمريكا وموظفو دولتها الإمبريالية الذين ارتكبوا أفظع وأبشع الممارسات في حق شعوب الأرض المستضعفة كافة، ولم يستثنوا أحدا، وهاهم يعتقدون واهمين أن بإمكانهم تدمير وتركيع وإذلال الشعب الإيراني الفارسي العظيم، وتدمير الوطن المقاوم، مثلما حاولوا أن يفعلوا في العراق وسوريا وليبيا واليمن وفلسطين ولبنان وغيرها، لكن الوطن والأرض الكريمة حبلى دائما بالأبطال الذين جبلوا على الوقوف في وجه الطغيان الامبريالي الأميركي والتصدي لكل أحابيله الشيطانية وامتداداته داخل الأسوار وخارجها.
هنا تجد أشخاصاً بنفسيات عظيمة وذهنيات سلوكية استثنائية، حيث تشكل قيمة الواجب والفداء وجودا محوريا في حياتهم، والوطن وكرامة أهلة عندهم فوق كل شيء. وقد عبر الأدب عن كل هذا في سردياته الملحمية، والأدب انعكاس للحياة، والشخصيات الأسطورية لها جذر في الواقع وفي التاريخ، ولا غرابة أن رأينا تجسيدا مدهشا في مرات كثيرة.
يخرج رستم من بين صفحات الشاهنامة ويهبط من سماء الأسطورة إلى واقع الحياة. رستم البطل المغوار أكمل سيرته كشخص حقيقي متجسد في هذا الزمان. الأعداء البرابرة ما زالوا هنا، ورستم كان حاضرا يرسم المشهد الأخير لهزيمة الوحش العملاق، يصارعه في البرية وفي البحر والجو غير آبه للعواقب، نازلة في معارك كثيرة، ومستعد للمزيد. لا تنتهي فصول الشجاعة في تلك الأرض الأبية.
هنا تعلم الإنسان معنى القوة والشجاعة والكفاح والمقاومة والكرامة، ومعنى حب الوطن ومنازلة الأعداء وفكرة السلام. وهنا أبدع الإنسان في ترويض الطبيعة وفنون الري والإدارة وفنون الحرب وأسس للعلوم العسكرية. وهنا أطلق الإنسان الحكيم المحارب العنان لأجنحة الخيال، وبزغ نور الحكمة مشرقا من بين صفحات روائع الأدب والفن، كما برعوا في تطوير لعبة الشطرنج. وهنا ظهرت واضحة جلية فكرة ديالكتيك الصراع بين الخير والشر، والنور والظلام، وصولا إلى تجسيد الخير ومعاني الحق والعدالة والمساواة.
وتستمر حكاية كل الدهور ومقاومة كل الامبراطوريات الشريرة في العصور الوسطى. أبدع الفرس وكانوا روادا للحضارة الإسلامية، وبرز منهم الكثير من العلماء والفلاسفة والفنانين والأدباء الذين كانوا نجوم ورموز الحضارة الذهبية الإسلامية. نذكر منهم ابن سيناء والطوسي وسيبويه وابن المقفع والفردوسي...
للإمبراطوريات الشريرة القادمة من محيط الحضارة من الجهات الأربع تاريخ طويل من الهجوم على المراكز الحضارية الكبرى والأقدم. كان الاغريق تلاميذ قساة كاذبين واهمين، أساؤوا فهم عظمة حضارات المشرق، ورأوا في أنفسهم أو زعموا أنهم أساس العقل والحكمة وموطن العلم والإنسانية والأخلاق، وفي هذا افتراء كبير ومغالطة تاريخية وتضليل عظيم وقع فيه أكثر الناس من محبي التاريخ والفكر والسياسة. وجاء بعدهم الرومان والأحفاد مرارا وتكرارا بشعارات وعناوين مختلفة تحركهم بواعث الطمع ونوازع الغرور والحقد، وكانوا قناعاً خارجياً وقشرة زائفة للإنسانية والتمدن، والجوهر في حضارتهم هو الشر الذي لا مثيل له، وبرعوا هم أيضا في الكذب والخداع واختلاق المزاعم عن حضارتهم التافهة!
وهم أكثر شعوب التاريخ بربرية وهمجية، والسبب يعود لتآكل القيم الروحية وضعف حضورها، وسيكولوجية الشعب المادية أولا ولجشع المال ولتربية وتجمع قطعان المجرمين وعشاق المغامرة وقراصنة البحر والإقطاعيين الناهبين للأرض البكر.
حتى قساة ومستبدو بلاد فارس من أباطرة وملوك كانوا ملائكة قياسا ببربرية حكام الرومان والاسبارطيين والأتراك والمغول وغيرهم من الشعوب التي سكنت في محيط وأطراف حضارات المشرق العظيمة وأبرزها الحضارة الفارسية. ثمة أكاذيب وأفعال تشويه تقال في حق الفرس وتاريخهم مصدرها المستشرقون الأوغاد ومثقفو الإمبريالية في العصر الراهن وكتاب وأدباء ومؤرخو العصر الوسيط المدفوعون بشتى أنواع العصبيات المؤججة للكراهية، وكذلك المأجورون من الحكام.
وكما هو الحال في صفحات ماضية الذهبية المشرقة ها هو شعب الحضارة العريقة يتحدى طغيان إمبراطورية الظلام ومملكة الشيطان الأكبر أو روما الجديدة، رسولة الخراب والدمار في العالم. في هذا الزمن المظلم ثمة بقعة ضوء اسمها محور المقاومة، وإيران أعظم أجزائه وعمقه الاستراتيجي.
هنا قوة الحق لدى الشعب الحر الكريم تتصدى لحق القوة لدى أباطرة الرأسمال العالمي وجيوشهم المستخدمة كآلات للسلب والنهب والبطش وتدمير مقدرات الشعوب. والثورة الشعبية الإيرانية رفعت لواء مواجهة الإمبريالية والصهيونية، ودعمت المقاومة العربية والإسلامية، وكانت هي أيضا إحدى مفاخر التاريخ الإيراني، والبطل قاسم سليماني هو أحد أبناء هذه الثورة العظيمة وتلميذ عظيم في مدرستها النضالية.
نقول: نعم، نضال الشعب الإيراني مستمر، ومعركة رستم مستمرة حتى إسقاط إمبراطورية الفساد والطغيان الكوني. تتناسل أمة الوحوش البربرية وتملأ الصحارى وتمخر عباب البحار وتسبح في الجو بحثا عن طرائد وفرائس. وفي المقابل يخرج من صلب رستم آلاف الأبطال يتصدون لكائنات الشر أبناء الظلام. وتبقى الحقيقة الراسخة أن الخير والحق ينتصر في نهاية كل معركة، والوحوش الشريرة تولي الأدبار، الوحش يقتل ثائرا والأرض تنبت ألف ثائر.

«الحوار المتمدن»-
العدد: (6458) - 2020/1/7 

أترك تعليقاً

التعليقات