عدلي عبد القوي العبسي

عدلي العبسي / لا ميديا -
رحل عن دنيانا، قبل أيام، المناضل والمثقف الوطني الديمقراطي، الموسوعي الثقافة، الأستاذ المناضل عبدالقوي عبدالله أحمد غالب الفقيه، المعروف بعبدالقوي العبسي، عن عمر ناهز التسعين عاماً.
وهو من جيل الرواد الأوائل في اليمن، الذين التحقوا بركب الحركة الوطنية الثورية الديمقراطية، والتزموا النهج العلمي التقدمي، في بدايات حياتهم الطلابية في مصر منتصف الخمسينيات.
كان ضمن الصحبة الرفاقية لكل من أبو بكر السقاف وعمر الجاوي وعيدروس وزين واسكندر السقاف وخالد فضل، وكان مع إبراهيم صادق يمثلان أول المنتمين للنهج العلمي الثوري في شمال البلاد.
الأستاذ عبد القوي كان رجلاً فاضلاً ومواطناً نزيهاً متواضعاً، ميالاً إلى التسامح والزهد والإخلاص والانضباط في العمل والالتزام الوطني الثوري والأخلاقي والإنساني، مناضلاً وطنياً ديمقراطياً ومثقفاً موسوعياً، التزم نهج الدفاع عن التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي، ولعب دوراً تنويرياً تثقيفياً، وسط جمهور العمل الثقافي والسياسي طيلة عقود الزمن الجميل، تاركاً بصمات واضحة في نفوس أصدقائه ورفاقه وزملائه وكان قدوة حسنة للكثير منهم في الالتزام والوعي وحب الوطن والإنسانية، مثلما أيضاً تأثر بهم واستفاد منهم في المعارف العلمية والنصح والتوجيه وكان كل واحد منهم يعد له نعم الصاحب والرفيق والسند في الحياة.
كان ملتزماً بحب الوطن وقضايا وطنه وعروبته وثقافة شعبه الوطنية العربية والإسلامية، سبتمبرياً أكتوبرياً أصيلاً وناضجاً، ويختلف ويتميز بشكل يثير الحيرة والدهشة عن الكثير من مجايليه المثقفين، في أنه لم يكن من مثقفي الكراهية، ولم يتمترس عصبوياً في خنادق الحزبية والأيديولوجية والمذهبية والطائفية والقومية والمناطقية والجهوية، وغيرها من الفخاخ والشراك التي وقع بهاً الكثيرون منهم.
وهو، مثل كل مثقف وطني ديمقراطي عربي بالمعنى العلمي التقدمي الثوري للمصطلح، كان يميل دوماً إلى الاعتقاد بأهمية ومكانة العلم والعقل والتجربة المعملية الطبيعية والاجتماعية والثورية النضالية، ودورها الفعال في تقرير ما هو صحيح وإنساني ونافع وحضاري من الأفكار والقيم والمبادئ والنظم والممارسات والمواقف في حياتنا الاجتماعية، والتي تصب في النهاية في صالح حفظ آدمية وكرامة الإنسان ونيل حقوقه وحريته وتحقيق سعادته، وفي صالح تحرر الأوطان ورفعتها وتقدم الشعوب ونهضتها.
تجده مرناً متسامحاً منفتحاً فكرياً وثقافياً أثناء تعاطيه في محاوراته مع الرأي الآخر، يتجادل مع الفكرة وضدها النظرية والنظرية المعاكسة والمخاصمة لها، وفي حواراته ونقاشاته مع الآخرين كان يلتزم الجدلية في الحوار والديمقراطية والتسامح والمصلحة الوطنية والإنسانية العليا أساساً يبني عليه هذا الموقف الإنساني الحضاري المتقدم منه.
وهو بسبب طبيعته الذهنية الشكية النقدية، تجده يميل دوماً إلى التفكر والنظر والمراجعة المستمرة لكل ما ترسخ لديه من قناعات وتصورات ومعتقدات وما تراكم في ذهنه من علوم ومعارف شتى.
كان متقد الذهن، ومتفتح الفكر، عاشقاً للإبحار في فضاءات المعرفة المختلفة والواسعة، يعتبر نفسه باحثاً عن الحقيقة، وكنا نرى فيه، نحن أقاربه ومحبيه وأصدقاءه، عالماً جليلاً ومثقفاً موسوعياً من طراز نادر، تميز بشغفه ونهمه الكبير للمعرفة وسعيه للتعرف على كل تجارب التراث الإنساني وجواهره وكنوزه المعرفية في الدين الإسلامي وعلومه واللغة العربية وعلومها وفي الفلسفة والأديان والتصوف والفكر والقانون والآثار والفنون والآداب واللغات والتاريخ والجغرافيا والاجتماع والاقتصاد والسياسة والإدارة وعلوم النفس وأساسيات علوم الطبيعة والإحصاء والبيئة والمعلوماتية وغيرها من مجالات المعرفة الواسعة.
هذه الحصيلة المعرفية الكبيرة لديه، والكم والنوع الذي تراكم لديه عبر السنين، أكسبته حصانة عقلية وعلمية متينة مكنته من الفهم الصحيح للظواهر والأحداث، والتزام جانب الصواب في الكثير من المواقف والاختيارات الحياتية، والبحث عن الأصح والأفضل من الأفكار والمواقف والنظم والممارسات في العلم، ومما بينته لنا الحياة وتجاربها والبراكسيس وتفاصيله وصعوباته ومفاجآته والخبرات المتأتية عنه.
وحفزته أيضا على اتخاذ قرار انتهاج طريق المراجعة الفكرية، والبحث العميق عن الجذور التاريخية لنشأة الظواهر الاجتماعية التاريخية والأيديولوجيات والتيــــارات السياسية والمذاهب الدينية والفلسفية، وهو ما قاده في نهاية المطاف إلى تبني موقف ثقافي فكري إنساني متقدم ومتسامح، يستوعب الأفضل مما جاء في كل التجارب والتنويعات الثقافية والفكرية التاريخية من أفكار ومبادئ وقيم وتصورات وأساليب نافعة وصحيحة وصالحة.
يبقى أن نشير إلى أنه، ومثل كثير من رفاقه ممن ساروا على الدرب نفسه، كان عليه أن يدفع ثمن هذا الالتزام وهذه المواقف المبدئية الثابتة، وأن يعاني بسبب اختياراته ونشاطه ومواقفه الصادقة النبيلة الصريحة، حيث ناله من القمع المكارثي الذي انتهجته الأنظمة السياسية الرجعية المتعاقبة في بلدنا، عبر أذنابها من مليشيات الإرهاب الديني وأجهزتها الأمنية الفاشية، لما يزيد عن نصف قرن من التهميش والملاحقة والقمع والظلم والتشويه والتنكيل المعنوي النفسي والتضييق المادي!

أهم المحطات والمساهمات في حياة الفقيد الراحل عبدالقوي العبسي:
- درس العلوم الدينية أولا في كتاتيب القرية وحفظ القرآن الكريم في سن الحادية عشرة، ثم سافر للدراسة في زبيد وعدن، وبعد ذلك تم ابتعاثه للدراسة في الأزهر في مصر العام 1953 هو والدكتور أحمد راشد، حيث حصلا على منحة من الشيخ سالم البيحاني؛ لكن تغيير المناهج بعد الثورة المصرية وأسباباً أخرى دفعته للتحول إلى التعليم المدني، وحصل على منحة من الاتحاد اليمني بمساعدة من الزبيري والنعمان وكذلك مساعدة مالية من نادي الاتحاد العبسي في عدن.
- حصل على الثانوية العامة من إحدى مدارس طنطا.
- انضم في فترة الثانوية العامة إلى حزب مصري وطني يساري هو حزب حدتو أو الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، وكان المسؤول الطلابي للحزب في مدينة طنطا.
- شارك في الجهود التحضيرية التأسيسية لمؤتمر رابطة طلاب اليمن في مصر 1956 ضمن مجموعة صغيرة من الطلاب البارزين المستنيرين، الذين أصبحوا لاحقا أبرز الوجوه الثقافية في الحركة الوطنية اليمنية، وهو المؤتمر الذي أقيم في قاعة فلسطين، مقر الرابطة الفلسطينية، بحضور ياسر عرفات، سجل الطلاب في هذا المؤتمر بصمات رائعة في الدعوة إلى تحقيق الوحدة اليمنية وفي نصرة القضية الفلسطينية.
- كان ضمن المجموعة الطلابية التي ساهمت بفاعلية في تأسيس الحزب الاشتراكي اليمني القديم برئاسة المناضل أحمد الشجني المتأثر بتجربة المناضل العربي السوري أكرم الحوراني.
- كان ضمن الطلاب البارزين الذين قادوا الاحتجاج الطلابي اليمني في القاهرة ضد انسحاب اليمن من الاتحاد الثلاثي مع مصر وسورية، وقد عرضه هذا الموقف لوضع اسمه ضمن القائمة السوداء آنذاك.
- ابتعث لدراسة الطب في ألمانيا 1958 في مدينة ليبزيج؛ لكنه لم يكمل تعليمه، بسبب إصابته بمرض البلهارسيا، وعاد إلى القاهرة في العام 1960.
- ساهم في تأسيس اتحاد القوى الشعبية اليمنية مطلع الستينيات، مع المؤسس الأستاذ المناضل إبراهيم الوزير وكوكبة من الأحرار والمناضلين في عدن والقاهرة، أهمهم: أحمد المطري وأحمد الشجني وعبده عثمان وطه مصطفى وعبدالله الوصابي وأحمد دهمش وحسن بلكم وأمين هاشم، وشغل موقعا قياديا رفيعا فيه وهو المسؤول المالي للحزب وساهم في صياغة أدبياته، ومنها الإعلان الجمهوري قبيل قيام ثورة سبتمبر.
- درس في المعهد العالي للدراسات العربية التابع لجامعة الدول العربية في القاهرة في الستينيات، وهو معهد تم تأسيسه في الأصل لتكوين دعاة للقومية العربية ويمنح شهادات جامعية عليا للطلاب العرب في تخصصات متنوعة من العلوم الإنسانية (اللغات والإدارة والاقتصاد والأدب)، والتحق بدراسة الماجستير واختار موضوع البحث عن القضية الفلسطينية في الأدب اليمني، ولم يتمكن من إكمال البحث لأسباب عدة، أهمها عدم وجود المحتوى المعرفي الموضوعي للبحث في اليمن.
- بعد قيام ثورة أكتوبر 1963 انضم إلى الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل، وانخرط في النشاط السياسي ضد الاستعمار البريطاني البغيض، وكان ناشطا طلابيا فيها في فرع مصر، وكان المكلف بالدور التنسيقي بينها وبين فروع الفصائل اليمنية الأخرى على الساحة المصرية. كما ساهم في صياغة أحد أهم أدبياتها في أحد مؤتمراتها الهامة، وعارض التحرك الانقلابي ضد الأستاذ المناضل قحطان الشعبي وانسحب من الاجتماع التاريخي في تعز 1969 الذي قرر التحرك صوب إسقاط القائد قحطان الشعبي.
- أتقن خمس لغات، ثلاث منها إتقانا كاملا هي العربية والإنجليزية والألمانية، مع شيء من الفرنسية والعبرية.
- عمل خبيرا مصرفيا لدى البنك المركزي اليمني، وبدأ العمل في لجنة النقد في تعز في العام 1968 وشغل موقع نائب مدير الفرع، وكان مدير الفرع آنذاك رفيقه الأستاذ المناضل الكبير عبدالقادر سعيد، ثم حاز شرف كونه أحد مؤسسي البنك المركزي اليمني في مطلع السبعينيات.
- طرح اسمه ضمن الترشيحات لمنصب حكومي رفيع أثناء فترة الرئيس الشهيد الراحل المقدم إبراهيم الحمدي، إلا أنه رحمه الله رفض العرض مخافة تحمل أوزار هذه المسؤولية، ولكي يبقى بعيدا عن أي شبهة فساد.
- كانت له مواقف انتقادية لبعض السياسات والتوجهات الخاطئة في عهد النظامين الشطريين في الشمال والجنوب.
- انتقل في منتصف الثمانينيات إلى صنعاء للعمل في المركز الرئيس للبنك، وكان آخر موقع شغله هو مدير إدارة البحوث والدراسات النقدية في البنك مطلع التسعينيات، ومن خلال موقعه الوظيفي الهام والحساس هذا وبناء على رأيه الفني كان له دور مهم في تثبيت اختيار الريال اليمني كعملة للدولة الجديدة دولة الوحدة، بدلا من الدينار، وهو الموقف الذي أثار استغراب بعض رفاقه الكبار في الحكومة آنذاك، ثم في العام 1992 حاز على ترقية مدير عام بقرار من دولة رئيس الوزراء حيدر العطاس آنذاك.
- مثقف موسوعي، تحوي مكتبته المنزلية الخاصة ما يقارب أربعة آلاف كتاب في مختلف صنوف المعرفة الإنسانية، واحتوت على مراجع علمية هامة.
- من مواليد قرية الغليبة - عزلة الأعبوس - حيفان - محافظة تعز في العام 1934 لأسرة متدينة فقيرة تمتهن الفلاحة، كما مارس بعض أبنائها، وهم أبو الفقيد وبعض أجداده، التعليم الديني والقضاء في المنطقة، وترجع في نسبها وأصولها إلى إحدى العائلات الصوفية في حضرموت.
- في مساء الأربعاء، الثالث من نيسان/ أبريل 2024، الموافق 23 رمضان 1445 هـ، وعن عمر ناهز التسعين عاما، توقف قلب الإنسان الطيب عن الخفقان بعد رحلة معاناة شديدة، حيث أصيب في سنواته الأخيرة بمرض القلب، واشتد به المرض في الأشهر الأخيرة، حيث كان فيها طريح الفراش ولا يقوى على الحركة.
رحم الله الأستاذ عبدالقوي وغفر له، وجعله قدوة في نفوس الأبناء والأحفاد والمحبين بالذات في أهم الخصال الإنسانية التي تميز بها.

أترك تعليقاً

التعليقات