عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -

ما يدفعنا إلى التركيز على التاريخ الأمريكي واسترجاع حوادث وفترات من ذاكرة هذا التاريخ، هو ما يحدث هذه الأيام من طفح إلى الخارج أو طفو على السطح مجددا لأسوأ ما في هذا التاريخ من ظواهر اجتماعية سلبية تبرز كمقذوفات بركانية اجتماعية تصعد إلى السطح تحفزها عوامل شتى أهمها الأزمة الاقتصادية بخاصة، والأزمة الشاملة التي تعتمل في المجتمع الأمريكي اليوم.
وفي البداية لا بد أن أذكر بديهية ما لكي لا يعتبرنا البعض أننا قد وقعنا في فخ شيطنة الآخر أو التحريض على الكراهية. وإن كنا نشيطن هنا فإننا نشيطن أفعالاً جماعة متعصبة مجرمة تاريخها ملطخ بالسواد، ويؤكد ما نقول سلسلة طويلة من الجرائم الواقعية المثبتة والمؤكدة تاريخيا ولاتزال تتتالى إلى يومنا هذا.
إذن، نحن نشيطن ثقافة فرعية في إطار الثقافة الأمريكية، وليس الثقافة الأمريكية ككل، نشيطن تاريخاً فرعياً لجماعة معينة، وليس تاريخ أمريكا ككل.

تنبيه بادئ ذي بدء 
دعونا في البداية نقول إنه لا يمكننا أن ننجر إلى مواقع من يعمم في وصف التاريخ الأمريكي بأنه تاريخ أسود تتخلله صفحات بيضاء قليلة مشرقة، بل يمكننا أن نقول بشجاعة إن هذا التاريخ مثلما نجد فيه الكثير من الصفحات السوداء، نجد فيه أيضا الكثير من الصفحات البيضاء.
إذن، حديثنا هنا يسلط الضوء على تاريخ مجاميع متعصبة من الكتل المهاجرة الأولى إلى الساحل الأمريكي، وهي قليلة العدد قياسا بمجموع سكان هذه الموجة من الهجرة أو الموجات اللاحقة، وأخذا بعين الاعتبار التنويع الواقعي المحتمل الحاصل بين البشر المهاجرين الأوائل سيكون لدينا طيف من الأنماط النفسية والتنويعات الفكرية والثقافية والإنثروبولوجية والأخلاقية، وحتى أيضا وجود لتباينات سياسية نوعا ما.
يعكس ذلك التنوع الفكري والسياسي الذي كان في الغرب الأوروبي طيلة القرون الثلاثة من السادس عشر إلى الثامن عشر، فمثلما أن هناك مجاميع كانت تبحث عن ملاذات للانعزال، وهي مجاميع مهووسة وعنصرية ومدفوعة بكراهية الآخر دينيا ولديها أوهام دينية وتصورات وأفكار رجعية ساذجة عن الحياة والإنسان والتاريخ، هناك أيضا مجاميع كانت تبحث عن مدينة فاضلة نوعا ما ينعم فيها البشر بالمساواة والحرية تحت حكم ديني مثالي متصور، وهناك مجاميع أخرى أيضا كانت تبحث عن المغامرة والثروة وتتعطش للمال الوفير والذهب، لكن على ما يبدو أن هناك حوافز مشتركة كانت لدى هؤلاء جميعا أثرت على التفكير والمشاعر والسلوك عندهم، أهمها:
الهروب من الاضطهاد الديني والسياسي وجحيم الحروب الدينية السياسية (دافع الخوف والأمن والحفاظ على الدين والفكر والثقافة والهوية).
البحث عن الرخاء والعيش الآمن الرغيد في الأرض الجديدة، أرض الأحلام (الهروب من ضيق المعيشة وشبح المجاعة)، لأن أجزاء من أوروبا عانت من موجات رهيبة من الجفاف وفترات من الفقر والمجاعة أحياناً (أيرلندا وألمانيا على سبيل المثال في وقت متأخر، أي القرنين الثامن عشر والتاسع عشر).

قشرة بيضاء جوهر أسود (الجماعات الأصولية في أمريكا)
نحن كيساريين لم نكن بعيدين عن الإنصاف عندما كنا نصب جام غضبنا على جزء من هذا التاريخ وجد استمراريته وحاضنته لدى كتلة سكانية ليست بالقليلة في أمريكا.
كان اليساريون في أمريكا على مختلف تنويعاتهم من يسار ليبرالي ويسار ثوري، يهاجمون ويخجلون من تلك الفترات المظلمة في التاريخ الأمريكي أو التي ألقت بظلالها السوداء على هذا التاريخ، حتى بدا كأنه بالفعل تاريخ أسود برمته منذ البداية وحتى اليوم! وما "الترامبية" إلا هذه الاستمرارية التاريخية التي كانت مكبوتة أو ضعيفة النشاط حتى حفزتها عوامل الأزمة الاقتصادية الأمريكية؛ والأزمة الأمريكية الشاملة باعتبارها أزمة إمبريالية محتضرة.
والذي كان محط الهجوم في أدبيات اليساريين هو تاريخ تلك التجمعات العنصرية المتعصبة الأصولية التي تركز استيطانها في أجزاء من الشرق والشمال الشرقي ثم بشكل أكبر في ولايات الجنوب الأمريكي، حيث الظروف البيئية الجغراطبيعية والاقتصادية هيأت لقيام زراعة مزدهرة تحت نظام إقطاعي بالغ في العفونة يقوم على استغلال بشع (استعباد) قوته المنتجة البشرية الأساس، وهم عمال الزراعة الأفارقة السود الذين تم استخدامهم بعد استرقاقهم وتحويلهم إلى عبيد محرومين من كل الحقوق الإنسانية، وبلغ عددهم تقريبا ما يقارب الـ15 مليوناً على مدى أكثر من ثلاثة قرون.
أكرر أننا يجب هنا أن نركز على العامل الاقتصادي الحاسم قبل حديثنا عن العوامل الثقافية، وأقصد هنا طبيعة وخصائص أسلوب الإنتاج الإقطاعي في الجنوب الأمريكي حيث الاستغلال البشع للمزارعين واستخدامهم في ظل أسوأ الظروف البشرية مدفوعا بجنون الربح والثروة.
ولكم أن تتخيلوا حجم المهانة والظلم الاجتماعي الطبقي الذي وقع على هؤلاء المنتجين، بخاصة في ظل استرقاق واستعباد الكثير منهم وحرمانهم من أبسط الحقوق الآدمية وجعلهم يرزحون في ظروف البؤس والفاقة، في الوقت الذي تعاظمت فيه لدى الطرف الآخر المتحكم بالأرض: الثروة والحياة الرغيدة.
كانت هذه واحدة من أكثر الصفحات السوداء بشاعة في تاريخ أمريكا، بل في التاريخ الإنساني ككل.
إذن، لو أردنا تلخيص تاريخ هذه الكتلة السكانية التي تشكل الحاضن الاجتماعي للثقافة الأصولية المحافظة بنزعاتها العنصرية الفاشية في كلمات قليلة، لقلنا إنه تاريخ أسود في أغلبه، تاريخ من التعصب والعنصرية والقتل، كان في حقيقته الواضحة وبدون أي تجميل أو خداع أو أغلفة براقة، تاريخا أسود يمكن وصفه بتاريخ "البربرية البيضاء".
فالأمة الأمريكية (البيضاء) وثمة من المحافظين من يحب أن يقصر كلمة (أمة) أو يختزلها على هذه الإثنية فقط التي بدأت تستوطن في الشمال الشرقي، ثم تمددت جنوبا، وفضل الكثير من سكانها الاستقرار في الجنوب ذي الخصائص الجغرافية الطبيعية، ثم الثقافية الاجتماعية، والتي شجعت وأرضت اتجاهات وميول هؤلاء.
برز الجنوب كإقليم للمحافظة والانعزال، ومدينة وريف كرست للرب، يتفانى أهلها في بناء أورشليم الانتقالية المتخيلة على طريق أحلام العودة إلى أورشليم الأصلية واللقاء بالقدوم الثاني للمسيح المخلص.
إذن، نحن هنا بصدد جماعة من المهاجرين غريبي الأطوار، شذاذ الآفاق، المتعصبين، المهووسين، المجرمين أو الذين لديهم استعداد نفسي سيكوباتي أو فكري منحرف أو تربوي أخلاقي للإجرام والتنمر والحياة المختلة بدون ضمير، تتحكم فيهم نفسية الطمع والكبر والتنمر والميل إلى العنف.
إذن، هنا وهنا فقط في هذا الجزء من التاريخ، تاريخ الجماعات الأصولية في أمريكا في هذا الجزء من الشعب حيث الحاضنة الاجتماعية لها، يمكننا أن نطلق التعميم الذي نوهت إليه في بداية هذه المقالة، حيث يقول الكثيرون إنه تاريخ أسود تتخلله صفحات بيضاء قليلة.

أرقام صادمة
ولن نبالغ إذا قلنا إنه في الجزء الأول من هذا التاريخ، والذي دام لما يقارب الثلاثة قرون، كان عبارة عن فصل طويل من الدناءة والانحطاط الأخلاقي البشري، تاريخ من الإجرام المتواصل لم تعشه حتى القبائل القديمة في الألف العاشر قبل الميلاد، بسبب الوحشية البدائية للجرائم التي ارتكبت على مدى زمن طويل، وهي الجرائم التي يخجل حتى الشيطان من الانتساب إليها!
حيث تعاقبت أجيال الحقد والعنصرية والهوس الديني وأوهام التطهرية الكاذبة على ممارسة القتل الجماعي والإبادة الجماعية من جهة، للسكان الأصليين (الهنود الحُمر)، وبلغ الضحايا عشرات الملايين، واستعباد المواطنين الأفارقة السود بعد اختطافهم وإذلالهم من جهة أخرى، وهنا بلغ الضحايا أيضاً عشرات الملايين!
والأرقام هنا صادمة ومرعبة ومقززة تصل إلى عشرات الملايين من الضحايا، ولو شاهدت فيلما دراميا أو وثائقيا عن حكاية من تلك الحكايات المروعة لذهبت فورا بعد نهاية المشاهدة إلى الحمام وتقيأت من شدة التقزز والخوف والألم! تماما كما نراه في أفلام الرعب الأمريكية التي يتفنن في إنتاجها المخرجون الماسونيون والنازيون!
إذن، كان لدينا منذ البداية جماعات من المجرمين فروا إلى تلك الأرض الجديدة وتناسلوا وورثوا لأبنائهم وأحفادهم الكثير من الأحقاد والسلوكيات والأفكار الإجرامية غير الأخلاقية، كانوا يقتلون ويستعبدون الأبرياء بدم بارد دون أن يرف لهم جفن ولدوافع حقيرة من أفكار مسمومة تارة، وجشع المال والذهب وهوس الثروة تارة أخرى.
والمؤكد أن هؤلاء السيكوباتيين قد رَحَّلوا ما نالهم من اضطهاد ديني أو قومي في القارة العجوز إلى عالمهم الجديد، ومارسوا مع ضحاياهم ما يسمى في علم النفس سلوك التماهي بالمعتدي!
نعم، ثمة نفسية اجتماعية مريضة سائدة متوارثة في أمريكا لدى هذه القطاعات من الشعب الأمريكي تجدها في القلب والجوهر خلف ذلك الغلاف الخارجي البراق المخادع عن الحرية والديمقراطية وانطلاق الفرد والإنسانية والإيمان والحلم والأمل إلى آخر ما هنالك من مفردات سائدة وشعارات زائفة تستخدم أثناء تعاطي وهم الذات المتفوقة المتطهرة ولممارسة خداع النفس وللتواري خلف هذه الشبكة الكثيفة من المفردات والمقولات والنصوص والأدبيات التي شكلت مع مرور الزمن سورا سميكا يحيط ويغطي على التاريخ الفعلي الواقعي الأسود!

أهم جذور الفاشية الأمريكية
هي ستارة تعمية تخفي خلفها كماً هائلاً من الحوادث والوقائع والتفاصيل في حياة العائلات البيضاء على امتداد القرى والبلدات والمدن المتناثرة في الساحل والأراضي الشرقية، قبل أن يمد الشيطان أحابيل الجشع ومخالب البطش نحو براري الغرب.
والحياة كانت حياة رتيبة مملة خاملة لمواطن أبيض مهووس بليد الفكر ضحل الثقافة، قاسي القلب، متنمر، ظالم، عنيف وبخيل بنفسية يهودية حقيرة كل همه هو جمع المال والتمتع بالملذات مع قشرة مظهرية خارجية كاذبة عن التدين والتطهر والحشمة!
هذا هو التاريخ البدائي يكرر نفسه في الأرض الجديدة المباركة التي نظروا إليها بوصفها خطوة انتقالية أو عتبة على طريق الوصول إلى الأرض الأكثر قدسية وأكثر أهمية (أرض الميعاد)، حيث كانوا دائما يرددون أن الرب يرشدهم إلى الطريق، وقدومه الثاني بات قريبا، والويل لأبناىء الهلاك من سخطهم وسخط الرب!
وهكذا بتنا بصدد تاريخ طويل من التعمية والخداع وتضليل الرأي العام عبر عشرات الأجيال عن الأرض المباركة والآباء القديسين والأمهات الفاضلات، وعن الجهود والكفاح والشرف في تعمير الأرض وتشييد بنيان الحضارة. والغريب أن هذه الممارسات الإجرامية كان يرتكبها بشر يقدمون أنفسهم على أنهم متدينون ويحفظون تعاليم الرب ويحترمون الأنبياء، ويظنون في أنفسهم الطهرانية والرعاية من الرب باعتبارهم الأخيار الأطهار المخلَّصين (بفتح وتشديد اللام)، أما غيرهم فهم أمم أغيار ذوو أرواح نجسة وهم أبناء الهلاك ومعبودهم الشيطان!
وتأسيسا على هذه الأفكار المهووسة التكفيرية المشيطنة للآخر المليئة بالعنصرية والازدراء، فإن كل الجرائم التي ارتكبت كانت تجد مباركة من هذه الأوساط الشعبية الدينية، وهم النواة الكبيرة (الكتلة البيضاء) الكتلة الشعبية الأكبر، والحقيقة أن العائلات الأمريكية البيضاء قد عايشت بضعة ملايين من الأفراد من أرباب الأسر الكبيرة والمتوسطة والصغيرة ممن يشبهون ترامب في تفكيره وقيمه وثقافته وسلوكه الشيطاني. فترامب رغم أن جده هو مهاجر حديث من ألمانيا، إلا أنه حقيقة يمثل النموذج الأمريكي السائد للشخصية الأمريكية التقليدية (البغيضة)! المحافظة بنفسيتها اليهودية (وهو يهودي من خلال مسيحيته المتيهودة البروتستانتية) التي لا تعبد سوى الذات والمال والملذات في الوقت الذي تصدع فيه دماغك بحديثها عن الرب والإيمان والطهرانية.
وأتعجب أية طهرانية يمتلكها ذوو النفسية اليهودية الرأسمالية هؤلاء! هذا النوع من البشر هم مصدر القرف والشرور في حياتنا، وعندما يحدثونك عن الحضارة فإنهم حتما يقصدون الحقارة!
وأين هي الحضارة من هؤلاء الأوغاد! الذين تسببوا بأفعالهم وجرائمهم وتنمرهم بتحويل حياه أبناء الشعوب الفقيرة إلى جحيم من خلال هيمنتهم على مفاصل القوة في النظام الإمبراطوري العالمي الذي شيدوه على جماجم الأبرياء، ومع هذا في الأخير أعود وأنبه من يقرأ هذه المقالة أن حديثي هنا عن سلف الكتلة البيضاء، ولا أتحدث عن موجات الهجرة المتأخرة القادمة من شتى جهات المعمورة، فهذه الموجات المتأخرة القادمة من آسيا وأفريقيا والجنوب اللاتيني وأوروبا الشرقية، هي من نقل الإنسانية والضمير والتفتح والذكاء والإبداع إلى أمريكا، وهي من صاغ سلسلة من التصحيحات في أساليب الحياة الأمريكية والنظم والتشريعات. ونرى اليوم الأحفاد من أبناء هذه العائلات هم المصدر الحقيقي لفخر أمريكا، وليس أولئك الحيوانات البشرية من العنصريين البيض الذين يتحدثون عن أمريكا ويفتخرون بتاريخها الأسود حيث العنصرية والإمبريالية والفاشية الصهيونية والنفسية اليهودية وبقايا الظلامية القروسطية لأجدادهم البرابرة الجرمانيين.
إلى هنا ننهي مقالتنا، وللحديث بقية عن الثقافات الفرعية الأمريكية الأخرى والكتل الأخرى الاجتماعية والسياسية، وانخراط قطاعات من منتميها في مسلسل الإجرام ولعبها أدواراً في هذا التاريخ الأسود، خصوصا في الثلث الأخير من التاريخ الأمريكي.

أترك تعليقاً

التعليقات