هزيمة نكراء!
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبدالقوي العبسي / لا ميديا -
قبل عشرين عاما، غامر الإمبرياليون الأمريكان وأقدموا على ارتكاب حماقة الغزو والاحتلال العسكري لبلد آسيوي صغير يقطنه شعب مسلم فقير ينتمي إلى ثقافة وفكر وقيم وحضارة مغايرة، يناصب أبناؤه المظلومون العداء للغرب الاستعماري الشرير المختلف عنهم كلية، ثقافة وفكرا وقيما... بلد يبعد جغرافياً عنهم آلاف الأميال كغيره من البلدان التي لم يسعفها البعد الجغرافي ولا وعورة التضاريس ولا تاريخها الشهير، بكونها مقابر الغزاة، عن البقاء بمأمن من آلة الغزو الرأسمالية الإمبريالية الأمريكية الطامعة بخيراته وثرواته ومزاياه.
استغل الأمريكيون الجبناء حادثة الـ11 من سبتمبر 2001، كذريعة للغزو الإمبريالي، والتي كانت ربما من تدبير أو تسهيل استخباراتهم الشيطانية، وراحوا يطلقون على حربهم الرومانية المقدسة الجديدة اسم «الحرب العالمية ضد الإرهاب»، وأعلنوا أن أفغانستان هي أولى المعارك ولن تكون الأخيرة، وبدؤوا يستفيدون أيديولوجياً وإعلامياً من مضمون كتاب حقير كان قد ظهر قبل ذلك بسنوات عنوانه «صراع الحضارات»، ألفه سياسي مخبول حاقد اسمه «صمويل هنتنجتون» لا يفقه شيئا من علم التاريخ وقوانينه الموضوعية المحركة له، فذهب يفسر أحداث وظواهر التاريخ تفسيراً رجعياً ساذجاً طافحاً بالعنصرية والجهل والنزعة الاستعمارية.
قرر الإمبرياليون -إذن- أن يخوضوا في هذا البلد معركة من أجل فرض النفوذ والهيمنة العسكرية والسياسية، بعد تحطيم نظامين سياسيين أولهما كان تقدميا وطنيا، والثاني فاشيا إسلاميا مغرقا في الرجعية يسيطر عليه عصابات إرهابية كانوا هم داعميها منذ البداية.
الدافع الأبرز لغزو هذا البلد هو السيطرة على المعادن الثمينة كاليورانيوم والليثيوم والذهب، ومنع المنافسين من الوصول والاستثمار والاستفادة من هذه الثروة الهائلة والتي تقدر بتريليون دولار.
أما الدافع الثاني الأهم فهو لعبة «الجوكوندا» الأفعى الإمبريالية الأمريكية التي تسعى إلى تطويق روسيا من جهة الجنوب، والصين من جهة الغرب.
الرد التاريخي المدهش هو أن هذين البلدين العملاقين تحالفا عسكريا وسياسيا واقتصاديا بعد ذلك بسنوات قليلة، وأعلنا رغبتهما في إنشاء عالم متعدد الأقطاب، وهي كانت رسالة تحدٍّ لأمريكا المتغطرسة مفادها أنه حان الوقت للهجوم المضاد ووضع حد للغطرسة الإمبريالية، فصعدت الصين ومعها روسيا تنمويا بشكل مذهل في كافة المجالات، واستطاعتا أن تحققا قدم السبق الحضاري على أمريكا في مجالات تكنولوجية وعسكرية عديدة، وتحضران حاليا للإطاحة بالدولار وإنزاله من عرشه العالمي في غضون 15 عاما، وهو ما يراه أغلب العلماء والاقتصاديين بأنه أمر حتمي ومسألة وقت!
وهو ما شكل بعد ذلك صدمة لدى حلف الأطلسي، ففي الوقت الذي يذهب فيه الإمبرياليون الأطلسيون لغزو الدول ونشر الأساطيل والسيطرة على المواقع الاستراتيجية وفتح الأسواق بالقوة، في الوقت الذي ينهض فيه الخصوم الكبار والصغار من جميع القارات ويقضمون كثيرا من مساحة النفوذ الأمريكي الإمبراطوري، ليس عسكريا وسياسيا، وإنما تكنولوجيا واقتصاديا وثقافيا أيضاً!!
بحيث أن المتابع كان يرى أو يستشعر بداية منحنى الهبوط في اللحظة الذروية نفسها للعتو والطغيان البربري العالمي لحظة الهجوم على أفغانستان وبعدها العراق، وراح الكتاب والمفكرون الماركسيون الأمريكيون ساعتئذ يبشرون بقرب نهاية الإمبراطورية الشريرة، واعتبروا أن غزو أفغانستان هو أكبر الحماقات القاتلة في التاريخ الأمريكي، وثبت بعد ذلك قرب تحقق وصحة رأيهم، فلحظة الهجوم على أفغانستان والعراق حقا كانت بداية نهاية المشروع الأمريكي الإمبراطوري، أو إن شئت هي الفصل الأخير من كتاب الهيمنة الأمريكية على العالم.
حاول المحتل الأمريكي طيلة عقدي الاحتلال إنجاح مشروعه البديل الموسوم بنهج الديمقراطية والحداثة الغربية لكي يخلق من خلال القوة الناعمة قبولا بالوجود الأمريكي لدى الشعوب التي تعيش في بلدان غنية بالثروات والمزايا التي يسيل لها لعاب الإمبرياليين، حاول أن يروج لنموذجه الحضاري الفريد حسب زعمه في بيئة طاردة لا تصلح أصلا لتطبيقه وتوطينه، بيئة مجتمع شرقي، محافظ، روحاني، فقير، متأخر حضاريا بمراحل كثيرة من حيث التطور الاجتماعي عن جيرانه، يعيش معظم أبناؤه في القرون الوسطى، ويرفض غالبية أبنائه المشروع الأمريكي الاستعماري البغيض والوجود الأجنبي الدخيل المغتصب، ويستنكر ويقاوم ويرد على جرائمه البشعة بالعنف المسلح المشروع. ثم فشل فشلا ذريعا في الترويج لهذا النموذج الذي يتم تقديمه كوصفة جاهزة لكل الشعوب!!
نقول هو الفشل الذريع، وهي الهزيمة النكراء، فلا هو فرض نفوذاً عسكرياً مستقراً وناجحاً، والأرض كانت تشتعل من تحت أقدامه وبؤر المقاومة موجودة في كل مكان، وهي وإن همدت لبرهة تعود ويتقد أوار جذوتها وبزخم وعنفوان أكبر من ذي قبل؛ ولا هو أوجد حكومة استطاعت أن تفرض حضورا سياسيا حقيقيا، وأن يكون لها مشروعية ومصداقية في عيون الشعب، وأنى لها ذلك وهي حكومة العملاء الخونة التي تستلقي تحت جزمة الاحتلال وتنفذ أجندته ومشاريعه في هذا البلد؟! ولا هو نجح في مساعدة البلد على النهوض تنمويا وتحسين مستوى معيشة مواطنيه، بل راح بدلا من ذلك ينهب سرا وعلانية ما تيسر له من المعادن الثمينة وثروات هذا البلد!!
دولة غنية تسرق أموال الشعب الفقير! وهل هناك خزي وعار أكبر من هذا؟! فهو لا شك حالئذ مهزوم هزيمة نكراء وفاشل بامتياز.
أجل، لم يفعل الأمريكيون شيئا سوى نثر قشور الحداثة الزائفة لدى فئات محدودة من السكان، من الليبراليين المتعلمين المتأمركين أو المحافظين الانتهازيين الإسلامويين، وجلهم من أبناء الطبقات العليا والوسطى.
لم يستفد الشعب الأفغاني شيئا من الاحتلال الأمريكي، الذي تعمد تجميد الأوضاع وتجميد التنمية وبث الفرقة وتشجيع الاحتراب والتنازع واستغلال وتوظيف التناقضات سياسيا من أجل إطالة أمد البقاء، وتوظيف العناوين والشعارات البراقة عن الديمقراطية والمرأة ونبذ الإرهاب، لذر الرماد في العيون، وللتغطية على جرائمه البشعة بحق الشعب الأفغاني، ابتداء من تدخلاته السافرة في الثمانينيات ودعمه للإرهابيين وانتهاء بجريمة العدوان والاحتلال، وما صاحب ذلك من قتل وتنكيل وتشريد للمواطنين، ومن تخريب ونهب وتدمير واسع النطاق، ثم أثناء كل هذا البقاء الطويل عجز عن القضاء على التطرف والتزمت الطالباني الإسلامي القبلي المتجذر في المجتمع كثقافة وفكر وسياسة مدعومة من أجنحة استخباراتية وقوى اجتماعية وسياسية محافظة في باكستان، واكتفى فقط بالقضاء على فلول الإرهابيين الأجانب: «القاعدة» وأشباهها.
أمريكا -إذ- مهزومة، لأنها لم تستطع أن تغير شيئا في هذا البلد، وخرجت خالية الوفاض تماما مثلما دخلت، وانتهى مشروعها إلى الفشل الذريع.
وها هي تسعى للاعتماد مجددا على أدواتها السلفية، صنائع المخابرات الفاشية الباكستانية، في الحكم، المجربة قبلا والفاشلة قبلا في التسعينيات مثلما فشلت في الاعتماد على لفيف القوى الليبرالية والمحافظة الانتهازية الخائنة والمتأمركة التي حكمت طوال العشرين عاما الماضية. ولكن كيف وقد تبدل واقع الحال وأصبحت باكستان في كنف الرعاية الصينية وجزءاً حيوياً من مشروع «الحزام والطريق» الصيني الآسيوي العملاق الذي هو أكبر مشروع تنموي في التاريخ، وأفغانستان هي امتداد بالمحصلة للنفوذ الباكستاني والصيني من الأمام، ثم بعد ذلك الإيراني والروسي من الخلف؟!
لا شك، أن الصين وروسيا لديهما الخطط والاستراتيجية الفاعلة لقطع الطريق على أمريكا الفاشلة والمهزومة الجريحة، وإحباط مساعيها الجديدة الرامية للاستمرار في نفس السياسات العبثية نفسها بالاعتماد على من هم أسوأ وأكثر تخلفا وهمجية للأغراض الجيوسياسية والاقتصادية القذرة ذاتها ظناً منها أنها ستستطيع زعزعة استقرار عمالقة أوراسيا الكبار: الصين والاتحاد الأوراسي، وهي القوى التي تستعد الآن لطرد البلاطجة الأمريكيين خارج القارة، وإعادتهم إلى بقعتهم الجغرافية في شمال غرب الكوكب، والإجهاز على ما تبقى من نفوذ إمبراطوري أطلسي في العالم. والتوقعات بأن هذا الانحسار النهائي سيحدث قبل العام 2050.

أفغانستان طريق الحرير
أتفق مع الكثيرين الذين يرون أن المشروع الصيني التنموي العملاق سيحقق بعض النجاحات في أفغانستان مثلما هو ينجح الآن في باكستان ودول الجوار، فالصين هي التي بإمكانها تحقيق بعض الاستقرار وتقديم المساعدة في جلب الاستقرار السياسي والاقتصادي لهذا البلد، وهي التي ستسعى باعتقادي بمعية موسكو لجمع الأطراف المتحاربة، سواء حافظ الخصوم على الهدوء ووقف النار واقتنعوا بالتنازلات الحالية أم عادوا مجددا للنزاع ضد الفريق المنتصر.
نتوقع سيناريو عودة النزاع لفترة قصيرة بتخريب أمريكي، تعقبه فترة حوار وطني قصيرة في بكين وأستانا وموسكو، ثم حكومة شراكة وطنية تكون الأكثرية فيها لطالبان، ثم يأتي المشروع الصيني الناجح ليساهم في ترسيخ الأوضاع بالبلد.
هذه هي المشاهد الأخيرة في الفيلم الأمريكي «هزيمه نكراء». وليس في وسع الإسلاميين في أفغانستان وخصومهم (شركائهم عما قريب) سوى اللجوء إلى طلب كافة أنواع الدعم السياسي والفني والاقتصادي من الأصدقاء الحقيقيين للشعب الأفغاني، وهي دول الصين وباكستان وإيران وروسيا.

أترك تعليقاً

التعليقات