شيطنة الآخر
 

عدلي عبد القوي العبسي

عدلي عبد القوي العبسي / لا ميديا -

نقصد بمفهوم "شيطنة الآخر" اتهام الآخر بالإجرام واللاأخلاقية وممارسة التآمر والشر، والنظر إليه بدونية واحتقار وازدراء واستعلاء أخلاقي وفكري وثقافي وحضاري.
والشيطنة كسلوك غير سوي لها جذر فيما يتم استبطانه في اللاوعي الجمعي، ولها ارتباط قوي بميكانيزم الإسقاط النفسي، وجانب منها مرتبط بالتعبئة والمفاهيم المسبقة والانطباعات والتصورات الخاطئة والمشوهة أو المبالغ فيها عن الآخر. والكثير من هذه التصورات والأفكار عن الآخر في الكثير من الحالات عادة ما تكون موجهة سياسيا، ويتم ترويجها وترسيخها في أذهان الجماهير بواسطة الإعلام الموجه والمراكز الثقافية والبحثية والمنتديات المسيسة، مع احترامنا واقتناعنا بوجود الكثير منها ذات حيادية علمية واستقلالية سياسية.
وشيطنة الآخر وتعبئة الجماهير ضده أحد أهم الأسلحة الدعائية النفسية التي تمارسها الاستخبارات الأجنبية والمحلية ضد الأحزاب والحركات والجماعات السياسية المناوئة على اختلاف مشاربها، وضد المثقفين الوطنيين عموما واليساريين في الغالب الأعم، لأسباب سياسية قذرة.

شيطنة الخصوم الطبقيين(شيطنة الثورات الشعبية)!
يعلمنا التاريخ كيف كان الأعداء الطبقيون للشعب الكادح، الذين يقفون ضد مطالبه المشروعة والعادلة، يلجؤون إلى أسلوب شيطنة الحراك الشعبي وتشويه واتهام مناضليه الشرفاء، وذلك عن قصد وعمد في غالبية الأحوال، خوفا على نظامهم الفاسد وحكومتهم الفاشلة من السقوط، وفي بعض الأحيان يستبد بهم مرض الإسقاط النفسي أو سيكوباتيا الشك، فيظنون في خصومهم الشرفاء أنهم مثلهم يفكرون وفق منطق المنفعة الرخيصة والجشع والتهافت على السلطة!
وكثيرا ما كانت تتم شيطنة الجماهير الثائرة كتقليد راسخ متبع في كل الثورات الشعبية على مدى قرنين من الزمن، وإن كان لها امتداد زمني يعود إلى أزمنة القرون الوسطى. وكلنا يعرف أيضاً كيف كان بعض المؤرخين الفرنسيين والسياسيين والكتاب الموالين للسلطة الملكية يشيطنون الثورات الفرنسية وينسبونها إلى فعل الغوغاء المشاغبين والفوضويين، أو يلصقونها بالمؤامرة الماسونية على الحكم والدين والعائلة والقيم المسيحية النبيلة!
وقد رأينا بوضوح بعضاً من ملامح هذه الظاهرة إبان انتفاضات الربيع العربي الشعبية، التي تعرضت لاختراق القوى المضادة والفوضى الخلاقة، ولكن تهمة التآمر الفوضوي الخلاق شملت حتى الشرفاء الأبرياء المظلومين من جموع الشعب والشباب ممن خرجوا يطالبون بحقوقهم المشروعة العادلة التي اغتصبتها منهم حكومات برجوازية ظالمة فاسدة نهبت خيرات الوطن لمصلحة القلة من الأثرياء وشلة الحكم الفاسدة العميلة.
ولسوء الحظ إبان فترة الربيع العربي كان هناك قدر ضخم من الغباء السياسي في أوساط الكثير من المتابعين والمراقبين وبعض الوطنيين من رموز الحكم والجماهير والطلائع الثائرة أيضاً، وكان كل طرف يشيطن الطرف الآخر! حتى أنه لم يكن هناك تفريق وتمييز في الحالات بين الدول التي ثارت الشعوب ضدها ما بين دول عربية تحكمها أنظمة وطنية (سوريا وليبيا) وإن كانت وقعت في أخطاء وانحرافات كثيرة في جوانب معينة - لا ينبغي إنكار ذلك، ودول عربية تحكمها أنظمة سياسية غير وطنية بالأساس (مصر واليمن وتونس).
والإسلاميون من راكبي الموجة، وهم الأكثر تنظيما وشعبية، بحكم استغلال المال والعاطفة الدينية والدعم الخارجي الغربي والرجعي اللامحدود لهم، كانوا يستغلون جهل العوام والبسطاء وجيل الشباب الجديد بالسياسة والفكر والتاريخ، وبالتالي عدم القدرة على التفريق بين نظام وطني، وإن كان قد انحرف عن أهداف ثورته، أو نظام غير وطني بالأساس، وهناك طبعا فرق واضح بين القذافي والأسد من جهة، ومبارك وصالح من جهة أخرى، ومن لا يدرك أن هناك فرقا فهو للأسف مصاب بالعمى السياسي والتبلد!
من جانب آخر لم يتم التفريق طوال مراحل الصراع بين الثوار الشرفاء، وراكبي الموجة الانتهازيين وعملاء القوى المضادة وعملاء الفوضى الخلاقة، وهؤلاء كانوا يعملون لحساب أنفسهم وكان يحدث أن تتقاطع مصالح الأشرار منهم!

المكارثية.. النبوغ الأمريكي في شيطنة الآخر
استخدمت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سيئة الصيت (CIA) سلاح شيطنة الآخر ببراعة احترافية وذهنية في منتهى القذارة منذ حقبة المكارثية ومكافحة الشيوعية في الخمسينيات، وصولا إلى مكافحة ما يسمى التوسع الإيراني في الوقت الراهن. ومديرو وقياديو هذه الوكالة هم أساتذة في فن شيطنة الآخر.
هل تتذكرون على سبيل المثال في الخمسينيات حكاية "عصبة مكافحة الشيوعية"؟! هل تتذكرون حكاية الطلاب اليمنيين في مصر أواخر الخمسينيات -أيام عبدالناصر- الذين نودي بأسمائهم في إذاعة "صوت العرب" -على أساس أن هذا نوع من التشهير!- كطلاب شيوعيين ينبغي معاقبتهم، وتم فعلا طردهم من مصر، وكان أبرزهم العملاقان المناضلان عمر الجاوي وأبو بكر السقاف؟! وحكاية أخرى هي اعتداء البعثيين في مصر على الطلاب الشيوعيين، وقصه اعتداء الشاب صدام حسين الذي أصبح لاحقا زعيما عربيا فذا على شاب يمني شيوعي آخر اسمه "عمر غزال"!
كان الناصريون والبعثيون والحركيون يعتبرون آنذاك أن الشيوعيين هم أعداء الأمة العربية وأنهم لا يقلون خطرا على الأمة من الصهاينة والمستعمرين والماسونيين!
وكانت المملكة السعودية واستخباراتها وشيوخها يتفنون في ابتكار وسائط وكاسيتات وكتيبات تروج لذلك، حتى عبدالناصر نفسه لم يسلم من شيطنتهم له!
وكان كل هذا بتحريض ودعاية ونشاط استخباراتي أمريكي ـ صهيوني قذر استطاع اختراق الحركة القومية العربية بتياراتها الثلاثة المختلفة، خاصة في تلك الحقبة المبكرة التي كانت فيها تلك التيارات أقرب إلى الفاشية الصريحة منها إلى الفكر القومي المتأثر بالاشتراكية!
جرى كل هذا بدهاء وتفنن عجيب، ومستوى كبير من الاختراق الاستخباراتي الأمريكي رأينا آثاره الكارثية المؤسفة لاحقا بعد عقود من الزمن.
ولو أن هناك كلية لتدريس هذا الفن السياسي الاستخباري في كل بلد لحصل هؤلاء على الدكتوراه بامتياز مع مرتبة (اللا) شرف وفي غضون أسابيع قليلة!
ملخص لما سبق:
استخـدمـت وكالة المخــابــرات المركزية الأمريكية سلاح شيطنة الآخر ببراعة احترافية وذهنية في منتهى القذارة منذ حقبة المكارثية ومكافحة الشيوعية في الخمسينيات وصولا إلى مكافحة ما يسمى التوسع الإيراني في الوقت الراهن.
والأمــريــكــي الــرجـعـــي عـمــومــا، والمحافظ اليميني المتطرف على وجه الخصوص، لديه أشياء قليلة في الحياة يبرع فيها ويتفنن ويتفوق فيها على أقرانه، مثل ممارسة الكراهية والتنمر وإظهار مشاعر الغرور، بالإضافة إلى التفنن في الاحتيال والبراعة في صناعة الكذب، والأهم من كل ذلك هو شيطنة الآخر.
يكفي أن تقرأ ما فعلته المكارثية بـ"ألبرت آينشتاين" العالم العبقري ومهاجمتها له، لأنه ألف مقالة شهيرة بعنوان: "لماذا الاشتراكية؟"، امتدح فيها نبوغ وفطنة وإنسانية كارل ماركس، لتضعه بعد ذلك السلطة الأمريكية البليدة تحت دائرة المراقبة والشيطنة ومعه العشرات من النوابغ في الفيزياء والفن والفكر.

الشيطنة في السينما
والشيطنة ضد الروس كانت مادة دسمة وموضوعا مثيرا يلهب خيال كتاب الأفلام السينمائية الرخيصة على مر عشرات السنين.
السوفييت شياطين وملاعين!! ولا بد أنهم سيهاجمون المدن الأمريكية بالصواريخ النووية يوما ما، وهذا ما دفع أحد العلماء الأمريكان إلى بناء ملجأ له تحت الأرض يحتمي فيه هو وزوجته وابنه تحسبا لليوم الحاسم في المؤامرة الشيوعية على أمريكا يوم الشتاء النووي!!
وعندما سقطت طائرة بالصدفة جوار حديقة منزله ظن العالم المسكين أن الهجوم النووي السوفييتي قد بدأ فقرر النزول مسرعا إلى الملجأ الذي كان مجهزا بكل مستلزمات المعيشة لما يكفيه وعائلته عشرات السنين، ومكث هناك هو وعائلته قرابة 30 عاما، ثم تمر الأحداث ويكبر ابنه الذي علمه كل شيء عن الحضارة الحديثة، وفي يوم من الأيام يصعد ابنه إلى السطح ليجد أن الأوضاع قد تغيرت بالكامل ولم يحدث هناك هجوم، وأن العلاقات تحسنت وجاءت سنوات التعايش السلمي بين القطبين اللدودين ثم جاءت البروسترويكا وعرف كيف أن الروس كانوا سلميين وحضاريين وأكثر تعقلا وإنسانية من الأمريكان، لكن هذا العالم الأمريكي المسكون بفكرة أن الروس شياطين ظهر مؤخرا في نهاية الفيلم وهو يقيس أرض الحديقة في منزله الجديد استعدادا منه لتصميم ملجأ جديد للعائلة، غير مصدق أن الحرب الباردة قد انتهت، وأخذ يصر على أن الروس (الكومس- اختصار للكوميونيستس، أي الشيوعيين) مخادعون وشياطين سيسعون حتما لمهاجمة أمريكا قريبا، وأن البروسترويكا ليست سوى لعبة شيطانية ذكية لخداع الأمريكان وكسب الوقت ليس إلا!
من الواضح تماما أن مؤلف ومخرج هذا الفيلم، فيلم (blast in the past)، كان يسخر من فكرة الشيطنة التي كان يمارسها بعض الأمريكيين المجانين ضد الروس.
الشيطنة كظاهرة اجتماعية فكرية ثقافية أيضاً في جوانب معينة لها علاقة ارتباط بقواعد سلوكية اجتماعية معينة ومعروفة، على سبيل المثال. "الناس أعداء ما يجهلون"، و"حب الشبيه"، و"كراهية غير المألوف"، و"كراهية الغريب"، و"النظرة العنصرية تجاه الآخر".
والقوميون واليمينيون المحافظون والعصبويون بشتى أنواعهم والفاشيست يميلون دائما أكثر من غيرهم إلى ممارسة الشيطنة بحق الآخر المختلف عنهم ثقافة وفكراً وعقيدة وقيماً وقومية وحضارة وسياسة وأسلوب حياة.
وأكثر الجماعات في العالم تفننا في الشيطنة هم المحافظون الجدد في أمريكا وعربان الخليج والصهاينة والنازيون في أوروبا والـ"دواعش" والإخوان، ثم يأتي بعدهم الجماعات الدينية والعصبوية الأخرى.

وباء فكري 
هذه هي الظاهرة التي نكدت علينا حياتنا وسممت عالم الفكر والإبداع واجتاحت الفضاء الثقافي ووسائل الإعلام، وكأننا بصدد وباء فكري أو فيروس فكري ضرب عقول البشر في كل الشعوب في زمن التأزم والانحطاط الإمبريالي الرأسمالي، وهذا طبيعي إذا تساءلنا: ما الذي يمكن أن ينتج عن واقع مأزوم سوى فكر مأزوم؟!
ولكن المؤسف حقا هو أن نجد من بعض مثقفي اليسار التقدميين الانجرار كثيرا والوقوع في فخ المكايدات والضغينة والأفكار المسبقة، والمبالغة في تشويه الآخر وتقزيمه والحط من شأنه وكرامته، والوقوع في فخ الشيطنة!!

ظاهرة خطيرة
الشيطنة عزيزي القارئ طامة كبرى تلحق بمجتمعاتنا، وظاهرة ثقافية فكرية مدمرة، وعواقب السكوت عليها لا حصر لها.
لقد وصلت المسألة بشاعة بالمشيطنين العسكر في مصر إلى درجة أن قاموا بتجريد سيدة مصرية تدافع عن حقوق الإنسان من جنسيتها المصرية، واختلقوا أعذارا واهية لتبرير فعلتهم النكراء التي يندى لها جبين الإنسانية! ولا بد أنهم قد نعتوها في وسائل الإعلام بأبشع الصفات، خاصة بعد ظهورها في قناة "الجزيرة" وهي تشتكي مصابها العظيم!
مورست الشيطنة، وليس الاختلاف في وجهات النظر أو الاختلاف في الموقف السياسي، حتى في حق من يظن وفق طريقته أنه يخدم وطنه ويعتقد بحسن نية وبحسب قناعاته أنه بفعله هذا وموقفه هذا يحب وطنه. والأولى بهؤلاء الذين يزعمون ويدعون فهما وإدراكا لما هو وطني وللمقاييس الصحيحة للوطنية، أولى وأجدر بهم أن يمارسوا على الأقل أسلوب التوعية والنصح والتفهم والحوار والمفاوضات مع خصومهم بدلا من أسلوب التخوين والتجريم والعنف والعقاب الانتقامي.
أخيراً نسأل أنفسنا: هل هناك من حدود فاصلة تفصل بين الدفاع عن الوطن وأمن الوطن عن شيطنة الآخر الذي هو فعل عصبوي جاهل يقوم على المبالغة والتشويه والجهل بالآخر أو يقوم على انتقام سياسي مصلحي ضيق من حكام دولة يحكمها الجهلة والخونة والفاسدون؟!
وهل هنالك من حد فاصل وواضح بين أسطورة المؤامرة السياسية وبين التآمر الاستعماري الإرهابي الصهيوني والإجرام المافيوي، أو حد فاصل وواضح بين الإرهاب والنازية من جهة والمقاومة ضد الاحتلال والغزاة وضد نهب ثروات الشعوب وانتهاك سيادتها من جهة أخرى؟!

أترك تعليقاً

التعليقات