محمد ناجي أحمد

ليس صحيحاً ما يشاع جهلاً وتعصباً من أن الإمام يحيى حميد الدين كان ينظر إلى جنوب اليمن على أنها إرث له من الجدود، وإنما الصحيح أن موقف الأئمة من اليمن الطبيعية أنها وحدة متماسكة باللغة والدين والجغرافيا، وتداخل القبائل والتاريخ، والمزاج النفسي الذي لايقبل الضيم من حاكم يمني، ناهيك عن حاكم أجنبي.
في رسالة للإمام يحيى وجهها إلى السلطان العثماني في الأستانة، يوضح له ظلم ولاته وعماله والمأمورين في اليمن، موضحاً له فيها أن اليمني بطبعه يرفض الظلم والضيم من حاكم يمني، فكيف سيقبل ذلك من حاكم أجنبي، ويبين للسلطان العثماني عدم أهمية وفائدة احتلالهم لليمن، فاليمن فقير، وما تخسره الدولة العثمانية أكثر مما تجبيه منه. وأنه لا مستفيد من احتلالهم لليمن إلاّ القادة والولاة والعمال الذين ترسلهم الأستانة، فهم يكسبون من الرشوات والجبايات ونهب الناس، ويكسبون من الأموال والأرزاق التي ترسلها الأستانة كرواتب لجنودها في اليمن.
في كتاب (تاريخ اليمن) لـ(عبد الواسع يحيى الواسعي اليماني) نقرأ منشوراً للإمام يحيى حميد الدين نشرته وقتها الجرائد في مصر وسوريا والعراق وبعض جرائد الإفرنج، مترجماً إلى لغاتها الأوروبية، وذلك في سنة 1341 هجرية، الموافق 1923م، وفيه يدعو المسلمين -والمقصود بالمسلمين الدول العربية - إلى (جمع الكلمة والاعتصام بالكتاب والسنة.. وترك الاختلاف والتفرق)، متقدماً لجمع الأمة الإسلامية ووحدتها. وفي ذلك الوقت كان كل من الخديوي في مصر والشريف حسين في الحجاز، والملك عبد العزيز بن سعود في نجد كل منهم يرنو لكي يكون وريثاً للخلافة الإسلامية، وفي تلك المرحلة كان تأليف كتاب (أصول الحكم -1924م) لعلي عبد الرازق الذي تصادم مع طموح الخديوي في إسقاط فكرة الخلافة، مما أدى إلى فصله من الأزهر ومن المحكمة الشرعية كقاضٍ في المنصورة، وفي تلك الفترة الزمنية كانت رحلة أمين الريحاني إلى ملوك العرب في اليمن ونجد والحجاز ومصر، وقد ذكر تفاصيل مشروعه ورحلته في كتابه (ملوك العرب)، وهو اللبناني الأصل، الأمريكي الجنسية، مما يعكس اهتمام الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة.
لقد وضح الإمام يحيى في منشوره هذا أن دافعه إلى ذلك هو (طلباً لخدمة الله بإصلاح ما نقدر عليه من أحوال المسلمين، والدعاء إلى الله وطاعته، بامتثال أوامره، ونواهيه، والانقياد لشريعته. وقد حصل لنا في أكثر هذه البلاد المرام، راجين الله تعالى أن يجمع كلمة المسلمين لما به حفظ دينهم وبلادهم، وحوزتهم وعزهم وكيانهم)، موضحاً في منشوره هذا أن اليمن واحد في جغرافيته وعنصره وديانته ولغته (ولما كانت بلاد اليمن قطعة واحدة، وأهلها متحدي العنصر والديانة متفقي اللغة متقاربي الأنساب من الأشراف والقبائل لا اختلاف بينهم في شيء، فربهم واحد ونبيهم واحد وكتابهم واحد ودينهم واحد بلا اختلاف يعول عليه إلاّ من لا معرفة له بالشريعة ولا بواضع مناهجها الوسيعة، وأما أهل الديانة والعرفان وأولو العقول التي بها تعرف طرائق الإحسان، فهم يعرفون أن أهل القطعة المباركة اليمانية كأهل مدينة واحدة. ومع هذا فالواجب علينا جمع الكلمة، واتحاد الرأي وتوحيد الطريقة، وعقد الولاء على الحقيقة، حتى نكون كالجسم الواحد وكالبنان أو البنيان)، بهذه الرؤية الوطنية الوحدوية لليمن الطبيعية، جغرافية ومذاهب وأعراقاً وتاريخاً، ينظر الإمام يحيى لليمن الواحد (كالبنيان أو البنان).
ولهذا عمم الإمام دعوته في هذا المنشور إلى (كل بلغته، وحررنا هذا الكتاب مع غيره إلى العلماء والأعلام والرؤساء الفخام والمشائخ والأفراد، ندعوكم بدعوة الحق إلى ما أسلفناه في هذا الكتاب، ونقول هلموا أيها الإخوان إلى ما به عز الدنيا والدين، والوصول إلى الخير المستبين، لنعمر أمور ديننا ودنيانا.. وليس المراد ملكاً نشيده، ولا مالاً نستزيده، ولا جاهاً نستفيده، وإنما المراد اجتماع المسلمين بالمحجة البيضاء والصراط المستقيم، وسنقر كل بلاد بيد رؤسائها، ونحيل إليهم مجرى أعمالها ومرساها)، بهذه الرؤية يوضح الإمام يحيى العلاقة بين الوحدة الوطنية (اليمن كقطعة واحدة) وبين الوحدة الإسلامية الاتحادية بإقرار كل بلاد بيد رؤسائها وإدارتهم الذاتية لأعمالها وشؤونها، والاجتماع على منع الظلم والأخذ على يد الظالم، وحقن الدماء والعمل بالقانون (بشريعة خالق الأرض والسماء).
والدعوة إلى وحدة الأمة محل إجماع المذاهب، وهو (أمر محبوب عند كل بني الإنسان، خصوصاً عند الدول المتمدنة، فإنها تعتبر هذا من الأمور الواجبة على الأمم، ونسأل الله أن يأخذ بنواصي الجميع إلى مراضيه).
وعن فلسطين يوجه الإمام يحيى سنة 1342 هجرية، الموافق 1924م، احتجاجاً نشرته الجرائد في حينه، رافضاً فيه ومندداً ضد طموحات الصهاينة وأطماعهم (والتخيلات من اتخاذ فلسطين قاعدة ملك لليهود بما تلقاه من الإمدادات القولية والفعلية من الحكومة المحتلة الأجنبية، وبهذه تتحرك أعصاب الناطقين بالضاد خصوصاً الممالك الإسلامية، فالتعرض للأراضي المقدسة، وقتل النفوس البريئة بغير حق، ما يوجب سخط العالم الإسلامي، فالاعتداء على الأراضي المقدسة أعظم جريمة على الديانة الإسلامية، واعتداء على كل فرد من أفراد العالم الإسلامي، ولا فرق في ذلك بين الحجازي واليمني والسوري والمصري والعراقي والتركي والهندي والمغربي والإيراني والأفغاني وغير ذلك، فاستيلاء اليهود على الأراضي المقدسة يهيج اضطراب العالم المسيحي في الشرق والغرب، ويوقع الصهيونيين في هوة الحرب).. لقد استراح اليهود في الأزمنة الماضية من (الحروب والمعامع، واشتغلوا لمعايشهم في التجارة والصنايع، ولا تطرق إليهم من غيرهم الصوارم والمقامع)، حتى أغراهم الاستعمار البريطاني بفلسطين، مما (يوقع الصهيونيين في هوة الحرب).

أترك تعليقاً

التعليقات