محمد ناجي أحمد

محمـد نـاجـي أحمـد / لا ميديا -

لن تستعاد "عدن المستحيلة" -بحسب الكاتب- إلاَّ من خلال "انتظار  الجيل المستحيل"، أي من خلال المهدي المنتظر بسماته الجماعية كجيل خارق ينتمي إلى الغيب! "لن تستعاد عدن المستحيلة، المتخيلة، بأية حذافير سابقة، وهي ليست في انتظار أصحاب السوابق. الأرجح أن عدن في انتظار تخليق الجيل المستحيل من أحشائها، لإنجاز مهمة إعادة اكتشافها واختراعها، وذلك ليس بغريب عليها". وهكذا نرتمي في التمنيات المخدرة والمطمئنة، في رشوة للضمير المستكين، فهناك جيل متخيل، كما أن هناك مدينة متخيلة، في يوتوبيا تنتمي نسقاً ولغة لعالم الوحي والزعامة التي نفى الكاتب اتسامه بصفاتهما.

المدينة والبدونة
تحضر المدينة في كتاب "أطياف عدن - هذيان الحطب" من خلال المعالم المعمارية في مساحة ضيقة أرادها الاستعمار البريطاني أن تكون بتعددها العرقي والديني مدينة في خدمة مصالحه، مع رغبة إرادوية في النيل من هويتها اليمنية، تارة بالتهنيد وأخرى بجعلها جنسية للمخلقة الأوروبية المستوطنة. لكن ريف الحُجَرية والمحميات ظل يرفد هوية عدن بيمنيتها التي تتوجت بالاستقلال في الـ30 من نوفمبر 1967، بعد سنوات من الكفاح المسلح، الذي تحملت ريادته المنظمة "الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني"...
من خلال الكنيسة والمعبد والكنيس، والمعلا بعماراتها ذات الثلاثة الطوابق والسبعة، والمصفاة، والبنوك والشركات... إلخ، تعددية تحيل إلى مدينة معادية للوطنية (كوزموبوليتية)، بما يعكس جوهر التسامح كبنية رئيسية تزهر منها المدينة في تصالحها وامتصاصها للآخر، شرط ألا يكون الآخر من المحميات أو من اليمن الشمالي!
المدينة هنا يراد لها قطيعة مع جغرافيتها وتاريخها اليمني، ووصلاً بالاستيطان الذي أراده الاستعمار البريطاني لمسخ هوية يمنية واستبداله بهجينٍ ولاؤه الوظيفي له!
المدينة هنا ضيقة، ميناء يطل على البحر، وتتسع أو تنكمش وفقاً لأمزجة امبراطورية البحر. في القرنين التاسع عشر والعشرين كانت بريطانيا وشركاتها الاستعمارية (شركة الهند الشرقية) تبحث عن ميناء كمخزن للفحم، وبعد ذلك للجنود والنفط، المعزز لهيمنتها على المياه الدافئة في الخليج، كمصدر للطاقة، وممرات مائية لحركة التجارة والمواد الأولية من الغرب إلى الشرق.
ومن أجل بقائه في عدن كقاعدة لتمويل سفنها بالطاقة، وترانزيت للحركة شرقاً وغرباً، فقد كان لزاماً على الاستعمار أن يوجه بوصلة الفرقة والسداد بين اليمنيين بما يخدم بقاءه في مستعمراته في مصر والعراق وقبرص والهند وفلسطين... الخ، لذلك كانت عدن تخوماً بين البحر والبداوة، أو بمعنى أصح جداراً يحمي مصالح بريطانيا من الخطر الروسي والفرنسي في البحر، ومن هويتها اليمنية في البر.
لقد لعبت عدن كميناء طبيعي دورا رئيسيا في تجارة المنطقة. وعندما كان البحر الأحمر يزدهر كانت عدن تزدهر تبعاً لذلك. فعندما فتحت قناة السويس استعاد ميناء عدن ازدهاره التاريخي. لكن هذا الازدهار في نظر الباحث هوليداي لم يؤد إلى تطور الأراضي الداخلية الواقعة خلف عدن (المحميات)  (عبده علي عثمان: ثورة 14 أكتوبر في نظر الباحثين الغربيين، الندوة الوطنية التوثيقية للثورة اليمنية، مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1993م, ص 173).
مع تباشير تحولات المدينة، وبدء مصفاة عدن عام 1952 "نشأ بسرعة كبيرة في عدن الصغرى (البريقة) وبحلول 1954 كانت تصب النفط في البواخر، وفي الضفة الأخرى المقابلة (المعلا) شيدت مئات المساكن للعمال والموظفين. وفيما كان "الفاروق" يتهجى أولى الخطب كان وجه المدينة يتغير تماماً، بل ووجه الحي الذي ولد فيه حيث تم ردم مساحة من البحر إلى حيث تقطن أسرته، وتم شق الشارع الأكبر والأطول في المعلا-عدن McinRoad بطول كيلومترين، وبنيت على جانبه أكثر من 15 عمارة على الطراز الأوروبي مكونة من عدة أدوار (لا تقل عن ثلاثة ولا تزيد عن سبعة أدوار)، وقد أنجزت بشكل هندسي منتظم التراص وشبيه بأبنية العواصم والمدن الأوروبية، واتسم تصميمها بدقة وتناسق خلابين...". ومع الخمسينيات كان العمل النقابي وتعدد الأحزاب والاتحادات، مع وجود نام للأندية والجمعيات، والانتشار الواسع للتعليم، داخل ذلك الإطار العدني المحدود بالمعلا وكريتر والبريقة. "وكما كان ميلاد السياسة في عدن بالمعنى الواسع والحداثي للكلمة في الخمسينيات فقد اكتنف هذا العقد ميلاد النقابات والأحزاب السياسية، والصحافة، الراديو، الاتصالات، والأندية الأهلية والاجتماعية الخيرية والثقافية، الموسيقى، الأغنية والفن التشكيلي والمكتبات والمسرح والسينما... الخ". في هذا المسار الزمني كان ميلاد ونمو فاروق علي أحمد، المثقف المنتج للمعرفة والمنفتح على البحر، في ديسمبر من عام 1952م بمدينة المعلا، في توازي النمو المتسارع للمدينة الرصيف والمعمار الأوروبي.
ولأن عدن في تحولاتها المدينية نمت كاحتياج لمقتضيات الترانزيت الذي يحتاجه الاستعمار فإنها ظلت في حدود ضيقة جغرافياً كمحمية للبنوك والوكالات التجارية، ومصفاة للنفط، واحتكاراً للتعددية الحزبية والتعليم في أبناء عدن والأوروبيين والهنود، وحرمان من يأتي من المحميات وشمال اليمن من أن يكونوا جزءاً أصيلا من مدنية ومدينة عدن، تعليماً واقتصاداً وسياسة واستيطاناً.
لم تكن المدينة محصنة بتوسيع النمط المديني على المحميات الغربية والشمال، إنما ظل هاجس أمنها أن لا تتسع تخومها المدينية إلى "الشيخ عثمان"، وأن تظل محصورة بشكل رئيسي في كريتر والمعلا والبريقة.
كانت المدينة هشة، بسبب ارتباط مدينيتها بالخدمات ومصالح الاستعمار، لهذا ظلت هشاشتها مرتبطة بوظيفتها. فعند خروج الاستعمار، استوطنت الجبهة القومية الحكم والمدينة، لتصبح المدينة كياناً وظيفياً في خدمة البدونة التي كانت الأيديولوجيا بالنسبة لها ليست أكثر من قشرة حداثية تواري ذهنية بدوية شديدة البطش والجاهلية، بعد أن كانت تخدم امبراطورية البحر، وبين البحر والبادية تتجسد مأساة وأزمة المدينة.
ولأن المثقف والمدينة وجهان لحياة وحيوية واحدة فإن ما يصيب المدينة يصيب المثقف، والعكس صحيح، فحين تم تجريف المدينة تم "لحس" المثقف وإعدامه بتهمة التنظير والكتابة.
ولأن المدينة تتأسس بالكتابة فقد كان من مقتضيات تجريفها محاكمة المثقف بتهمة التخطيط المعرفي، الذي كان عنوانه "فاروق علي أحمد وسالم الحنكي" وكوكبة من التنويريين الذين رووا بمدادهم العقول كما روت دماؤهم شبق القتل، وأجسادهم تربة الأرض، لتنقله السيول من شواهق الجبال إلى منحدرات السيول.
هذا الترادف في الوعي والحضور المادي للمثقف والمدينة يجعل الكتابة عنهما ليس بالجغرافيا المكان والوعي فحسب، بل كما يرى عباس بيضون "إعادة تشكيل... عندما نكتب عن مدينة يتراءى لنا شكل للكتابة...لا بد أنه يوازيها في اتساعها المكاني وتوزعها وتشعبها وتراكيبها وبنائها المتداخل... (حاتم الصكر: الثمرة المحرمة، شبكة أطياف، الرباط-المغرب، الطبعة الأولى، 2019م ص66).
يصبح الترادف بين المثقف والمدينة امتزاجاً وتماهياً بين مدينة تصبح في كتاب "أطياف عدن" نصا واعياً، ومثقف يستحيل إلى نص مكاني، ساحة لكلام المدينة إذا جاز توظيف وصف عباس بيضون لمدينة "صُور"... 
ولأن المثقف يعيش في منحدر الهويات الضيقة فإننا بحاجة إلى أن نحدد من نكون وبماذا نؤمن، بدلاً من الإيغال في تيه عبثي يهوِّم حول "شرعيات" مختلقة وضيقة، فالشرعية الحقيقية تتجاوز الحفاظ على الأوضاع القائمة، التي تمسخ حقائق التاريخ والجغرافيا –كما يقول محمد حسنين هيكل (يحيى علي الإرياني: الثورة اليمنية في إطار المتغيرات الدولية، الندوة الوطنية التوثيقية،مركز الدراسات والبحوث اليمني، صنعاء، 1993، ص 189).

أترك تعليقاً

التعليقات