محمد ناجي أحمد

محمد ناجي أحمد / لا ميديا -

ليس غريباً أن يتكرر التاريخ بمآسيه قبل مهازله، طالما أن موقع اليمن الأمني وموضعه كجغرافيا وعمقه التاريخي لم يتزحزح، فقد أطلقت السعودية والقوى الملكية على عمليتهم الحربية في حصار السبعين يوماً اسم "عملية الجنادل" من أجل إسقاط صنعاء وإسقاط الجمهورية معها، وأطلقوا على عملياتهم الحربية المستمرة منذ عام 2015م وحتى اليوم اسم "عاصفة الحزم"، وكلتا العمليتين هدفها لم يتغير: إسقاط صنعاء والجمهورية وتفكيك اليمن إلى جزر محتربة ومتقاتلة.
أزمة الثورة اليمنية السبتمبرية من وجهة نظر الدكتور محمد علي الشهاري، في كتابه "مجرى الصراع بين القوى الثورية والقوى اليمنية..." تكمن في أنها لم تقم باتخاذ إجراءات اجتماعية جذرية لصالح غالبية الناس، مما مكن قوى الإقطاع من أن تتمدد في الجبهة الجمهورية والجبهة الملكية، وبالتالي أن تسيطر على الحكم وتقصي قوى الثورة الممثلة بالبرجوازية الصغيرة والفلاحين والعمال والجنود.
أزمتها تكمن في أنها حلَّت مجلس قيادة الثورة، وأقامت مجلس رئاسة ضم شيوخ الضمان ثم المجلس الأعلى للشيوخ، والمجالس المحلية للشيوخ على نطاق الألوية (المحافظات) وعلى نطاق القبيلة، حتى بدا كما لو أن الثورة ثورة الإقطاع لا ثورة الشعب. 
لم تقم الثورة باتخاذ إجراءات ديكتاتورية في انتزاع مصادر القوة من إقطاع المشيخ والقضاة وكبار التجار؛ أي أنها لم تتخذ موقفاً ثورياً اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً، فما كان "يمكن أن يكون هناك إقطاع "ملكي" و"جمهوري"، وإنما سيكون هناك –كما هو في الواقع –إقطاع واحد، إقطاع بحكم مصالحه الطبقية وأيديولوجيته وثقافته غير مستعد لأن يستوعب أو يهضم ما يدل على نظام عصري كالنظام الجمهوري". 
الثورة الديمقراطية بحسب الشهاري "لا يمكن أن تكون السلطة في جمهوريتها إلا للقوى الثورية الديمقراطية، التي تتمثل في الفلاحين والعمال والبرجوازية الصغيرة والوسطى والمثقفين الثوريين"، فالإقطاع المشيخي كان يهدف من رفع مبدأ الشورى إلى "أن تكون الديمقراطية ديمقراطيتهم، والشورى لهم، والدستور مكرساً لمصالحهم، ومحققاً لتطلعاتهم لحكم اليمن بدلاً عن بيت حميد الدين".
أُفْرِغت ثورة سبتمبر من محتواها الاجتماعي وموقفها الأيديولوجي والسياسي المعادي للإقطاع، فكان هذا التهاون أن أغرى رموز المشيخ والقضاة على الدخول في صراع سافر بلغ حد التحدي للجناح الثوري الذي كان يرمز إليه رئيس الجمهورية المشير عبد الله السلال، وهو ما تجلى بعقد المؤتمرات العلنية كمؤتمر عمران في سبتمبر 1963م، ومؤتمر خمر في مايو 1965م، ومؤتمر الجند في أكتوبر 1965م الذي أصر زعماؤه على ألا يحضر السلال، كما حدث في المؤتمرين السابقين، وبعد مراجعة سمح له بحضور جلسة الافتتاح التي عقدت في مدينة القاعدة، بعد أن تأكدوا أنه سيغادر البلاد إلى القاهرة، في إقامة طالت عشرة أشهر كاملة، وبعدها تم نقل المؤتمر إلى الجند. 
يبدو أن قيادة الثورة التي تم حلها بعد إنجاز إسقاط الحكم المتوكلي، وتصفية الملازم علي عبد المغني، قائد تنظيم الضباط الأحرار بعد عشرة أيام من إعلان الثورة، وإزاحة الآخرين، قد سهل لقوى الإقطاع أن تضيق الخناق على السلال وقوى الثورة، فالمشيخ السياسي والقضاة كانوا يمثلون قطاعاً اجتماعياً واسعاً، زاد في تعضيده وقوته أن أصبح شيخ القبيلة هو مصدر الرزق لدى القبيلي، فمنه يحصل على المال والسلاح، ومن خلال المؤتمرات المناوئة لقوى الثورة التي عقدتها قوى المشيخ والقضاة بتحالف مع حزب البعث، ومشاركة من رموز الإخوان المسلمين، طالبت هذه القوى بتوسيع سلطتها الإقطاعية، من حيث السلطة السياسية والجيش الشعبي ومجلس الشورى والحكومة، ومطالبتهم بنصيب الأسد من الثروة كما هو شأن مطالبها في الحكم. 
"في زمن الثورة لا مجال إلا لحكم الثورة، ولا حكم بين الثورة ودعاة الشورى الإقطاعيين إلاَّ السيف".
لكن قوى الثورة أحجمت عن استخدام السيف ضد مناوئيها، فاستخدمه الإقطاع بحسم وجذرية، في أحداث مارس بالحديدة، أو أحداث أغسطس في صنعاء 1968م، ثم ما أعقب ذلك من سحل وقتل وإخفاء لشباب الثورة من العسكريين والمقاومة الشعبية الذين دافعوا عن الجمهورية في حصار السبعين يوماً. لقد أنهت ومحت الفرق والمدارس العسكرية، والمقاومة الشعبية، وتفرد المشيخ السياسي بالحكم، موظفين لرمزية رجالات الأحرار كمظلة لحكمهم وسيطرتهم.
استطاع الإقطاع المشيخي أن يوسع قوته ونفوذه، فإضافة إلى كونهم كانوا القوة الأكثر تنظيماً وجاهزية ومالاً قبل ثورة سبتمبر، إلاَّ أنها ازدادت قوة وتنظيماً بفعل الأموال والأسلحة التي قدمت لها بحجة موالاة الجمهورية، وازدادت سلطتها حين تم إضافة أعداد منها إلى المجلس الجمهوري وتشكيل مجلس الدفاع ومجلس الرئاسة والحكومة، وتشكيل مجلس الدفاع الأعلى من مشايخ الضمان، والمجلس الأعلى لشؤون القبائل ومجالس القبائل في النواحي والأقضية والألوية، وكان محافظو الألوية جلهم من المشايخ...
لقد أصبح لديها كتائب مسلحة وترسانة عسكرية وخزائن مالية عامرة، وتحالفت مع رأس المال الذي كان نامياً آنذاك، واستقطبت عددا من كبار الضباط الذين شاركوا في الثورة، وتحالفت مع حزب البعث العربي الاشتراكي، وحركت رموز الإخوان صوب مصالحها، فشكل كل ذلك كماشة خانقة للثورة وللجناح الثوري.
 جاهرت هذه القوى بمعاداتها للدور المصري في اليمن، وطالبت بخروج الجيش المصري، واجتمعت بممثلي الملكيين سراً في (كرش) عام 1963م، الذي ضم من جانب الفريق الجمهوري القاضي عبد الرحمن الإرياني والقاضي محمد محمود الزبيري والقاضي عبد السلام صبرة والشيخ سنان أبو لحوم وغيرهم، ومن الجانب الملكي القاضي أحمد السياغي الذي كان رئيساً للوفد الملكي.
 كان هذا اللقاء بداية استعادة اللحمة بين الإقطاع في ضفتي الجمهورية والملكية، وبدء المطالبة بخروج جيش مصر العروبة وإحلال النفوذ السعودي والاستعمار محله.

أترك تعليقاً

التعليقات